نجيب محفوظ الذي يستعد للخروج من المستشفى في الايام المقبلة، ما زال يعاني من صعوبة في تحريك يده اليمنى بسبب تأثر احد الاعصاب بطعنة الخنجر. وأعلنت ادارة "مهرجان القاهرة السينمائي" عن تخصيصها جائزة باسم الروائي الكبير، بدءاً من دورتها المقبلة 28/11/-11/12. كما تتنافس حالياً اكثر من صحيفة ودار قاهرية على نشر رواية "أولاد حارتنا" المثيرة للجدل. فهل المطلوب الآن هو نشر الرواية؟ يتساءل الأديب المعروف يوسف القعيد. وهكذا ترتب المصادفات نفسها في رواية تعود الى زمن مسرح الدم والدموع. فصاحب السكين التي غرست في رقبة نجيب محفوظ، ادعى في اقواله امام نيابة امن الدول ان الامر الصادر له باغتيال محفوظ كان بسبب روايته "أولاد حارتنا" التي لم يقرأها. ولم يفكر في ذلك او يطلبه، لأن الاوامر هي الاوامر ولا بد من تنفيذها خصوصاً عندما تسبقها فتوى دينية. وعندما وجد نجيب محفوظ نفسه بعد حادث طعنه بالسكين بخمسة عشر يوماً بالتمام والكمال، مجبراً على الإمساك بالقلم بيده اليمنى التي تأثرت من الطعنة فكان من الصعب تحريكها، كتب بخط يده، اول كلمات بعد الاعتداء عليه. فكان ما كتبه عن "أولاد حارتنا" ايضاً. كان ما كتبه نجيب نحفوظ صباح الجمعة الثامن والعشرين من تشرين الاول اكتوبر الماضي عبارة عن تجديد حق صحيفة "الاهرام" في نشر الرواية. وهو الحق الذي منحه للأهرام منذ 35 عاماً مضت، فنشرت بناء عليه الرواية متسلسلة في زمن محمد حسنين هيكل. وكان الهدف من هذا التفويض اعطاء "الاهرام" حق اللجوء الى القضاء المستعجل لوقف نشر "اولاد حارتنا" حيث فرضت هذا السباق المحموم جريدتا: "المساء" و "الأهالي". اذ اعلنت الاولى عن المباشرة في نشر الرواية ابتداء من يوم السبت 29 تشرين الاول اكتوبر. وقالت في الاعلان ان ذلك النشر انما يتم بناء على رغبة نجيب محفوظ نفسه وهو ما نفاه محفوظ الي جملة وتفصيلا. ثم دخلت "الاهالي"، جريدة حزب التجمع اليساري، على الخط عندما نشرت من دون اعلان يوم الاربعاء 26 تشرين الاول اكتوبر الفصل الاول من الرواية ويشمل الافتتاحية واجزاء من حكاية أدهم مع مقدمة للدكتور جابر عصفور. ثم اعلنت ان النص الكامل للرواية سيصدر في عدد خاص من "الاهالي" يطرح في الاسواق صباح الاحد الثلاثين من تشرين الاول اكتوبر وأن ثمن النسخة الواحدة سيكون جنيهاً، لكنها عادت فنشرته يوم السبت بدلاً من الاحد. ومع ان الرواية ممنوعة في مصر، كما هو معروف، فهي كانت تباع بستة عشر جنيهاً للنسخة الواحدة، ثم ارتفع الرقم الى خمسة وعشرين جنيهاً بعد ذلك، ثم تضاعف المبلغ بعد الجريمة مباشرة. وفي هذه الاثناء اتصل نبيل اباظة رئيس تحرير "كتاب اليوم"، وهي سلسلة شعبية شهرية تصدر عن مؤسسة "اخبار اليوم"، بعدد من النقاد لكي يكتبوا مقدمات للرواية وقال لمن اتصل بهم ان لديه وعداً من الدكتور محمد سيد طنطاوي مفتي الديار المصرية بكتابة مقدمة لها... وإن الرواية والدراسات ستصدر في الاول من كانون الاول ديسمبر المقبل. ومحاولات نشر الرواية الممنوعة لم تتوقف عند حدود المؤسسات الصحافية او دور النشر الكبرى. فهناك عدد من المثقفين والادباء والكتاب الذي قرروا جمع تبرعات بغية اصدار طبعة شعبية من الرواية. وهؤلاء كانوا يستجيبون للنداء الذي وجهه محمود أمين العالم في لقاء المثقفين الذي عقد في مسرح البالون تضامناً مع محفوظ، حين دعا الى صدور الرواية فوراً، كرد على المتطرفين. وإذا بمبادرة الكتّاب الى طبع الرواية تشكل رفضاً لمصادرة ومنع اي عمل أدبي، مع أن بعضهم اشترط الحصول على موافقة كتابية من نجيب محفوظ، قبل البدء بجمع التبرعات. وعندما زار وزير الاعلام المصري صفوت الشريف الأديب الكبير في مستشفى هيئة الشرطة في العجوزة، سألته زوجة نجيب محفوظ السيدة عطية الله ابراهيم رزق عن منع رواية "أولاد حارتنا" من النشر. قال لها وللصحافيين الذين كانوا موجودين وقتها في المستشفى: "لا مصادرة لأي فكر في مصر الآن". وهذا ما اعتبر موقفاً رسمياً جديداً من "أولاد حارتنا". بل ان صحيفة الاهالي قدمت للتلفزيون المصري اعلاناً عن نشرها "اولاد حارتنا" فأذيع من دون اعتراض. وهكذا بدأ السباق نحو اصدار رواية ظلت مصادرة وممنوعة منذ سنة 1959، وظلت منسية حتى حصول صاحبها على جائزة نوبل للآداب سنة 1988. وتجدر الاشارة الى ان محاولتين لنشر الرواية تمتا بعد نوبل. الاولى: بمعرفة جريدة "المساء"، عندما نشرت حوالي خمس حلقات منها من دون اذن المؤلف، وتمكن محفوظ من وقف النشر بناء على اتصالات شخصية وبعد التهديد باللجوء الى القضاء، من خلال صديقه ثروت اباظة الذي يشغل منصبي رئيس اتحاد كتاب مصر ووكيل مجلس الشورى. والثانية كانت من قبل مصطفى نبيل، رئيس تحرير روايات "الهلال" الذي عرض على محفوظ فكرة طبع الرواية في مصر من خلال "دار الهلال"، فاعتذر الاخير عن ذلك وقدم له مختارات قصصية صدرت تحت اسم "أهل الهوى". وكان رأي محفوظ في ذلك الوقت، انه بدلاً من تحدي قرار الازهر بمنع الرواية ونشرها... لماذا لا يبذل جهد في اتجاه آخر هو اعادة النظر في قرار منعها بعد كل هذه السنوات؟ وفي الاحتفال الذي اقيم في القصر الجمهوري في مناسبة فوزه ب "نوبل"، تحدث عدد من الادباء والكتاب مع الرئيس حسني مبارك عن "أولاد حارتنا"، فأعلن الرئيس عن موقفه المبدئي من هذه القضية، مؤكداً انه لا مصادرة الا بحكم من القضاء. ومع هذا لم تصدر الرواية في مصر. ومشكلة "أولاد حارتنا" تجددت بعد نوبل، كأنها لم تكن موجودة من قبل. فلجنة الجائزة اشارت في حيثياتها الى بعض اعمال محفوظ، وكانت "أولاد حارتنا" ضمن هذه الاعمال، حتى قال البعض ان الجائزة منحت له على هذه الرواية، مع انها تقدم كما هو معروف لمجمل انجازات الكاتب، مع التركيز على بعض الاعمال التي تعد علامات بارزة في مساره الابداعي. هكذا، وبعد نوبل، صدرت الكتب ونشرت المقالات عن الرواية... ووجد البعض تفسيراً "تآمرياً" هو ان الغرب منحه الجائزة لأنه يهاجم الدين! روى لي نجيب محفوظ في وقت سابق انه بعد نشر "أولاد حارتنا" مسلسلة، ثم بعد قيام الازهر بمنعها، قال له حسن صبري الخولي وكان الممثل الشخصي لجمال عبد الناصر في ذلك الوقت، ان الحكومة ليس لديها مانع من نشر الرواية ولكن خارج مصر! ومن يومها والرواية تطبع في "دار الآداب" البيروتية حيث صدر منها ست طبعات حتى الآن. وأكد محفوظ إن اذاعة "صوت العرب" حولتها الى مسلسل من ثلاثين حلقة، اخرجه حسين أبو المكارم وأذيع في حينه، ما يعني انه لا يوجد موقف ضد الرواية، بقدر ما كان طلب نشرها خارج مصر نوعاً من المواءمة السياسية. كما ان اذاعة لندن العربية، اعادت بث هذا المسلسل كاملاً بعد نوبل. وها هو السباق ينطلق بصورة محمومة، من اجل نشر الرواية، بعد محاولة الاغتيال، من دون ان يحاول احد الحصول على موافقة الكاتب صاحب العمل، مع ان هذا الاستئذان يشكل أبسط حقوقه. ونجيب محفوظ غير متحمس للنشر، فهو يرى ان القضية الآن هي محاولة اغتيال كاتب. ونشر الرواية سيجعلها طرفاً في القضية، وربما اصبحت الحكاية كلها هي حكاية الرواية وموقفها من الأديان. والموقف خطير، فالرواية لن تقرأ في هذا السياق سوى قراءة دينية، في حين ان المفروض ان تكون القراءة أدبية فحسب. ولو تم هذا، فسيفتح الباب الى اعادة النظر في الأدب الروائي كله من خلال الدين فقط. ان المطلوب الآن هو الكفاح والشرح والتحليل لرفع تهمة الكفر عن الرواية وتهمة الارتداد عن مؤلفها. اما نشرها فيمكن ان يتم بعد هذا. والملاحظ ان جزءاً مهماً من المتسابقين على النشر، انما تحركه دوافع تجارية صرف. فالمطالبة برفع قرار المصادرة تحول عملية مربحة يمكن ان تنقذ بعض الصحف المتعثرة: ان توزيع الكتاب مضمون لأن كل مواطن في مصر والوطن العربي يسأل الآن عن الرواية التي كانت سبباً في محاولة اغتيال مؤلفها. وعملية النشر خلطت بين الرواية والحادث، لدرجة انه اصبح من الصعب معرفة اين ينتهي الحادث واين تبدأ الرواية. في هذا السياق يمكن القول إن الازهر الشريف التزم الصمت التام ازاء محاولة الاغتيال، وقد لوحظ انه لم يذهب الى محفوظ في المستشفى اي مسؤول في الازهر، كبيراً كان ام صغيراً، ولا حتى اي شخص من رجال الدين الذين كانوا يصفون انفسهم من قبل بالاعتدال والاستنارة. ولم يذهب اليه المفتي ولا حتى وزير الاوقاف، الملتزم مبدئياً بموقف الحكومة المصرية التي أدانت الحادثة. اما البابا شنوده الثالث الذي تزامن الاعتداء على محفوظ مع سفره خارج مصر، فما ان عاد الى البلاد حتى ذهب الى المستشفى مكتفياً بتدوين اسمه في سجل الزيارات ولقاء زوجة الكاتب الكبير، بسبب منع الزيارات كلياً عن محفوظ ذلك اليوم. كانت صحة نجيب محفوظ تتحسن بصورة سريعة أدهشت الاطباء، ولكن ما ان اطلت حكاية "أولاد حارتنا"، حتى راوحت حالته الصحية مكانها. وفي زيارتي الاخيرة له، مساء الخميس 27/10/1994، كان الرجل متعباً ومجهداً، وكان هناك كيس مليء بالدماء يمد جسمه بالدم، وقال لي ولجمال الغيطاني ولابنته فاتن: - مش كفاية اللي انا فيه، هوه شوية؟ وكان يتحدث عن محاولات نشر "أولاد حارتنا"، والسباق المحموم الذي قد يصل الى القضاء المصري، فنصبح امام قضيتين في وقت واحد: الاولى محاولة الاغتيال والثانية نشر الرواية او عدم نشرها. ولهذا أتساءل: ألا تعد محاولات نشر الرواية اغتيالاً ثانياً لنجيب محفوظ؟!