إذا كان "الخبر يُقرأ من عنوانه" على ما هو شائع عند العامة، فإن الفساد في فرنسا يقرأ هذه الأيام بكثافة من عناوين الصحف ومن بينها "لوموند" الأكثر شهرة وبروزاً على المسرح الدولي، وتكفي نظرة واحدة على عدد واحد من "الجريدة" لتبين حجم الفساد. في عددها الصادر بتاريخ 23 - 24 تشرين أول اكتوبر نشرت "لوموند" قطعة كبيرة على عامودين في صدر صفحتها الأولى تتحدث عن فضيحة مالية جديدة في فرنسا في منطقة "اللوار - اتلانتيك" والفضيحة تتصل بعمولة مقدارها 12 مليون فرنك دفعتها احدى الشركات للفوز بمناقصة بناء جسر على نهر اللوار وهي آخر الفضائح المتفجرة في فرنسا والخارجة لتوها من جعبة القاضي المعروف بنزاهته فان رينبيك. في الصفحتين الداخليتين 7 - 8 متابعة لتفاصيل الفضيحة ولآخر تطورات فضيحتين جديدتين أيضاً الأولى تتعلق بعمدة بلدية اشتراكي في منطقة ال "ايفلين" ويبلغ حجم الفضيحة 3.5 مليون فرنك. والثانية تتصل بعضو مجلس الشيوخ موريس آريكس ممثل منطقة ال "فار" والذي ينتمي الى الحزب الجمهوري. وهو متهم بامتلاك حساب خاص في سويسرا بقيمة 6.5 مليون فرنك فرنسي. وفي المكان نفسه نشرت "لوموند" خبراً عن تهديد بالقتل تعرض له القاضي فان رينبيك وزميله كوروا، وتصريح لرئيس الجمهورية يدعو الى احترام سرية التحقيقات في القضايا العدلية. وإذا كنت في زيارة لفرنسا ولا ترغب في قراءة "لوموند" فإن ذلك لا يحررك من أخبار الفضائح المالية التي ستجدها في النشرات الاخبارية على مدار اليوم في الاذاعات وأقنية التلفزة، اما إذا كنت من هواة أخبار الفضائح فأنك ستجد مادة صحافية متنوعة في جديتها وخفتها لن تترك لك مجالاً للشكوى من فراغ الوقت. ليست آخر الفضائح المعلن عنها هي الأهم في حجمها وفي مستواها. فالفساد يضرب كل المناطق الفرنسية وكل الأحزاب السياسية وكل الفئات الاجتماعية وإثارة القضايا الفاسدة بإيقاع متسارع توحي أن ضوءاً أخضر - بل أضواء خضراء بالجملة أعطيت للقضاة الذين نبشوا ما يمكن نبشه وتعرضوا لمقامات سياسية كانت حتى الأمس القريب تبدو وكأنها مقدسة لا تمس. طالت الفضائح المالية والسياسية والاقتصادية حتى الآن شخصيات يسارية بارزة شأن رئيس الوزراء الأسبق لوران فابيوس المتهم بفضيحة الدم الملوث بالسيدا الايدز. وقد دفعت فضيحة "بيشيني" الشهيرة، رئيس الوزراء الاشتراكي السابق بيار بيريغوفوا الى الانتحار عام 1993 ويغرق رجل الأعمال الشهير برنار تابي المقرب من رئيس الجمهورية في سلسلة طويلة من الفضائح المالية التي تطاول عدداً من شركاته وفريق "مارسيليا" الرياضي الذي يرأسه، وسبق لوزراء ونواب وشخصيات يسارية واشتراكية ان تورطت بفضائح مالية خلال السنوات ال 13 التي مضت على تسلم الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران زمام الأمور في قصر الاليزيه. حزب "احتكار" النزاهة مسلسل الفضائح الذي ضرب اليسار وبصورة خاصة "الحزب الاشتراكي" أدى الى حرمان اليساريين من احدى أهم حججهم الأخلاقية ضد اليمين الفرنسي ورموزه فلم يعد اليسار يحتكر صفة النزاهة والنظافة بمواجهة يمين "فاسد" وهي الصورة التي كانت قائمة عشية انتصار ميتران على خصمه اليميني فاليري جيسكار ديستان في العام 1981. يومها كان ميتران يتباهى بكونه رجلاً غير ثري بالرغم من ممارسته السلطة في الجمهورية الرابعة وتسلمه مناصب وزارية رفيعة، مقابل جيسكار ديستان، رئيس الجمهورية في حينه الذي كان متورطاً بفضيحة "حبات الماس" نادرة تلقاها من الديكتاتور الافريقي المعروف بوكاسا.. لقد اختفت صورة اليسار النزيه والنظيف وإن كان الرئيس ميتران نفسه لم يصب حتى الآن بسهم واحد من أسهم الفساد المنطلقة في كل مكان من حوله وبين اصدقائه اليساريين. ميتران الذي اعترف بوجود فاسدين في حزبه وفي صفوف اليسار أكد خلال مناسبات عديدة أنه بالرغم من ذلك فإن اليمين ما زال يتفوق على اليسار في حجم الفساد والفاسدين وانحى باللائمة على ممارسة السلطة التي "أغرت البعض" من الاشتراكيين وجعلتهم "يضعفون" أمام مغريات المال. وإذا كان مقياس "الفساد" متعلقاً بممارسة السلطة فإن اليمين الفرنسي الذي ما برح يتولى الحكم خلال العقود الزمنية المنصرمة، خلف قضايا شهيرة وفضائح مالية ترتقي الى مصاف "الماسات بوكاسا" بل تتجاوزها أحياناً كثيرة. تحت قبعة بالادور آخر مسلسل الفضائح في الوسط اليميني يطال هذه الأيام ثلاثة وزراء في حكومة ادوار بالادور التي أريد لها أن تكون حكومة الكف النظيفة، وحكومة نزع الفساد من المجتمع فإذا بها تحصد خلال أقل من أربعة أشهر ثلاث فضائح مدوية. الفضيحة الأولى بطلها وزير الاتصالات السابق آلان كارينيون، الأربعيني وأحد النجوم الصاعدة في صفوف اليمين الديغولي. وهو متهم بالرشوة والفساد وتفيد التحقيقات الأولية ان كارينيون شاذ جنسياً وأن لهذا الأمر علاقة بتهم الرشوة الموجهة اليه والتي تطال شريكاً حميماً له. كارينيون استقال من الحكومة في الصيف الماضي للدفاع عن نفسه وهو يقبع في السجن منذ أواسط تشرين الأول اكتوبر. الوزير الثاني المتهم بالفساد هو جيرار لونغيه الذي يتولى حقيبة الصناعة والتجارة الخارجية في الحكومة، وهو في الوقت نفسه رئيس الحزب الجمهوري الذي يعتبر أحد أعمدة الاتحاد الديموقراطي الفرنسي ائتلاف أحزاب ويقوده فاليري جيسكار ديستان.. ولونغيه الذي استقال أخيراً من الحكومة متهم بالتلاعب بثمن فيلا شخصية اشتراها بأقل من قيمتها في مدينة "سان تروبيه" ودفع رشاوى لهذه الغاية. ولم تكد فضيحتا كارينيون ولونغيه تستقران على حالة معينة، حتى اندلعت خلال الأيام الماضية فضيحة جديدة تطالب هذه المرة وزير العدل بيار ماينياري ليس بسبب وظائفه الحالية وانما بسبب وظيفته كوزير سابق في حكومة التعايش الأولى عام 1986. وحتى الآن لم يقدم ماينياري استقالته من الحكومة وينفي التهم الموجهة اليه. ويذكر هنا ان الوزير المتهم يرأس أحد أحزاب الوسط المنتمية الى "الاتحاد الديموقراطي الفرنسي". انتشار الفضائح المالية، دفع عدداً من المراقبين المحليين الى تحليل هذه الظاهرة والوقوف عند أسبابها وظروف انتشارها بإيقاع سريع فما هو سبب ظهور قضايا الفساد فجأة ولمصلحة من يتم الكشف عنها خصوصاً ان بعضها يرجع الى حوالي عشر سنوات؟ الرد على هذا السؤال يستند الى مجموعة من الاعتبارات التي يمكن حصرها في الخطوط التالية: 1- يتكاثر ظهور الفضائح مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية الكبيرة، وهي تظهر الآن عشية الانتخابات الرئاسية التي ستتم في فرنسا خلال أقل من ستة أشهر. 2- بخلاف الاعتقاد الشائع، لا تظهر الفضائح بشكل عشوائي وانما بطريقة اختيارية لا بل انتقائية. فالوزراء الثلاثة كارينيون ولونغيه وماينياري سبق لهم أن أعلنوا صراحة تأييد رئيس الحكومة ادوار بالادور كمرشح لرئاسة الجمهورية ضد خصمه الديغولي أيضاً جاك شيراك. ولعل بالادور الذي يعتبر في طليعة المرشحين اليمينيين الأوفر حظاً للفوز بالرئاسة الأولى لم يرتكب حتى الصيف الماضي خطأ جسيماً واحداً أثناء ممارسته السياسية بحيث يتمكن خصومه من ترتيب مآخذ عليه، فجاءت الفضائح الثلاث لتطرح الشك في نظافة حكومته ونظافة الشخصيات السياسية التي بادرت الى تأييد ترشيحه علناً ولعل انتشار الفضائح الثلاث هو بمثابة انذار واضح للذين يهمون بالقاء أوراقهم في سلة الوزير الفرنسي الأول. ثالثاً: ترتبط الفضائح المتعلقة برجل الأعمال برنار تابي بالصراع الحاد بين اليمين واليسار حول بلدية مرسيليا ولعل تابي الذي استطاع أن يوقف زحف اليمين في هذه المدينة وان يضمن الى حد بعيد احتمال بقائها في عهدة اليسار، كأن يلعب على ميزان القوى السياسي في هذه المنطقة وربما في فرنسا عموماً، ولم يكن بالامكان النيل مما يسمى هنا "بظاهرة تابي" الا من خلال قصفه بفضائح بالجملة بات الرأي العام عاجزاً عن احصائها. قضاء ديغولي رابعاً: من الملاحظ، حتى الآن على الأقل، أن الفضائح شملت كل الأطراف والتكتلات السياسية، ولم يبق في منأى عنها سوى رئيس بلدية باريس جاك شيراك أحد أبرز المرشحين للرئاسة الأولى، والملفت للنظر ان شيراك كان قد تعرض لفضيحة صغيرة تتصل بتكاليف وظروف اقامته في سلطنة عُمان قبل حوالي السنتين، لكن سرعان ما انطفأت أخبار هذه الفضيحة التي نشرت تفاصيلها في حينه صحيفة "لوكانار انشينيه" دون أن يعرف حتى الآن كيف ختم التحقيق فيها. وبقاء شيراك ومحيطه بعيداً عن الفضائح يمكن أن يفسر بطرق عديدة ليس أهمها أن الزعيم الديغولي بمنأى عما تجره ممارسة السلطة من مخالفات مالية، وانما بوجود قوة قضائية ديغولية تمارس نوعاً من الردع القضائي الانتقائي في ظروف انتخابية محددة. لكن هذه الفرضية التي تدخل في باب التوقعات، تحتاج الى اثباتات أكثر من كون مؤيدي الرجل ما زالوا حتى الآن خارج اطار الفضائح المنتشرة في كل الاتجاهات. القضاة والنموذج الايطالي خامساً: يتحدث معلقون محليون عن مجموعة من القضاة الذين يرغبون في تطهير المجتمع الفرنسي من الفساد ويتبعون سياسة الكف النظيفة ومثالهم في هذا المجال القاضي الايطالي "دي بياترو" الذي خاض حرباً شاملة ضد "المافيا" في بلاده. لكن هذه الفرضية تظل بحاجة الى تفسير لسبب الانتباه الى ضرورة "تنظيف" المجتمع السياسي الفرنسي عشية الانتخابات الرئاسية وليس قبلها. سادساً: يعتقد مراقبون محليون أن القضاة الذين عاشوا زمناً طويلاً في الظل أخذوا يتحولون تدريجياً الى نجوم حقيقيين في وسائل الاعلام. وهذه النجومية يستفيدون منها في تغيير مسار حياتهم أحياناً. وبعضهم ينتقل من القضاء الى السياسة شأن القاضي تييري جان بيار الذي أصبح أحد رموز تيار سياسي جديد يقوده فيليب دو فيلييه وهو قيادي يميني محلي استطاع أن يحظى في الانتخابات الأوروبية الأخيرة ب 12$ من أصوات الناخبين. قد تكون هذه الأسباب مجتمعة وراء ظهور الفضائح المالية - السياسية الفرنسية بكثرة هذه الأيام وقد يطغى بعضها ويتقدم الواجهة بعضها الآخر لكن الأمر المؤكد هو أن فضائح الفساد في فرنسا تنفجر لأسباب سياسية وليس قضائية بحتة وان انفجار هذه القضايا ما زال حتى الآن انتقائياً وظرفياً.