تعيش فرنسا في اجواء فضائح مالية وسياسية واخلاقية تطال شخصيات كبرى، في الحكم والمعارضة. والشبهات تحوم حول رئيس الحكومة ووزير الخارجية ومجموعة من اصدقاء الرئيس ميتران، كما تحوم حول شخصيات اساسية في المعارضة اليمينية ستتولى مسؤوليات حكومية رئيسية بعد فوز اليمين المتوقع في الانتخابات النيابية التي ستجري على دورتين، في الواحد والعشرين والثامن والعشرين من شهر آذار مارس الجاري. ما القصة وماذا يجري في فرنسا؟ التحقيق الآتي يسلط الاضواء على أبرز الفضائح التي يتحدث عنها الفرنسيون حالياً. بيار بيريغوفوا، رئيس الحكومة الفرنسية، الذي يقضي آخر ايامه في الحكم، كان معروفاً عنه انه رجل عصامي، متواضع، لا يعبأ بالاجتماعيات ويكره الاضواء وانه صاحب فلسفة خاصة في الحياة. فهذا الرجل بدأ حياته المهنية عاملاً متواضعاً واشتغل لاحقاً في محطة للسكة الحديد. وباكراً انتمى بيريغوفوا، الذي جاءت عائلته الى فرنسا من روسيا، الى الحزب الاشتراكي الفرنسي. وشيئاً فشيئاً، وبفضل عمله الدؤوب ودراسته المستمرة والشاقة، وبسبب التحاقه الباكر بفرنسوا ميتران، صعد نجم بيريغوفوا. وعندما انتخب ميتران، للمرة الاولى، رئيساً للجمهورية عين بيريغوفوا اميناً عاماً لقصر الاليزيه، وبعد ذلك وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم خلف جاك ديلور في وزارة الاقتصاد والمال، بعد ان سمي هذا الاخير رئيساً للمفوضية الاوروبية. وفي العام الماضي، وتحديداً منذ احد عشر شهراً، حقق بيريغوفوا حلمه القديم عندما طلب منه الرئيس ميتران ان يخلف اديث كريسون في رئاسة الحكومة! في كل منصب من المناصب التي تقلدها، ترك بيريغوفوا وراءه انطباعاً ايجابياً: رجل رزين، واداري ماهر، معتدل في حياته السياسية ومتواضع في حياته اليومية، كما انه نزيه وشريف لا تحوم حوله الشبهات. كانت صورة بيريغوفوا لدى الرأي العام الفرنسي، في الوقت الذي كانت فيه شعبية الرئيس ميتران، مع بدء السنة الثانية عشرة من حكمه، في الحضيض، رأس مال ثميناً، وورقة يمكن استخدامها في استحقاق الانتخابات الاشتراعية التي ستجري في الواحد والعشرين والثامن والعشرين من آذار مارس الجاري. فاستطلاعات الرأي العام تفيد ان اليمين الفرنسي الذي انتصر فرنسوا ميتران على مرشحه الرئاسي مرتين، مرة عام 1981 جيسكار ديستان ومرة عام 1988 جاك شيراك، عائد بقوة الى الجمعية الوطنية اي الى السلطة، وان الحزب الاشتراكي سليقى هزيمة لم يعرف مثيلاً لها منذ عشرين عاماً. فالاجواء في فرنسا اجواء نهاية عهد. السلطة الاشتراكية تآكلت والفضائح التي تتفجر بشكل شبه يومي تصيب السلطة ورجالها بالدرجة الأولى. اضف الى ذلك ان صورة ميتران نفسه حفر فيها الزمن أخاديد. فهذا الرجل الذي تنتهي ولايته الرئاسية الثانية عام 1995 مريض ومصاب بالسرطان وسلطانه على الحزب الذي صنعه بنفسه تآكل. الحزب الاشتراكي تتصارعه تيارات وتهزه الطموحات الرئاسية لعدد من زعمائه، ناهيك عن فقدانه مصداقيته ومناقبيته بسبب الفضائح التي ضربته وبسبب عجز الحكومة عن تحقيق ما وعدت به. كل ذلك جعل بيريغوفوا، الذي ولد في 23 كانون الأول ديسمبر عام 1925، أملاً لليسار ولكن ليس في التغلب على المشاكل الاجتماعية والاقتصادية لفرنسا، وعلى رأسها البطالة التي تصيب ثلاثة ملايين شخص، ولكن في الحد من الهزيمة المعلنة للحزب الاشتراكي ومساعدة الرئيس ميتران على ان يكمل ما تبقى من ولايته في قصر الاليزيه! جميع هذه الآمال تبخرت ذات صباح، وتحديداً يوم 3 شباط فبراير الماضي. ففي ذلك اليوم، نشرت صحيفة "لوكانار انشينيه" الساخرة خبراً يفيد ان رئيس الحكومة بيار بيريغوفوا حصل عام 1986 على شيك بقيمة مليون فرنك، من صديق له ولرئيس الجمهورية اسمه روجيه - باتريس بيلا، على ان يسدده اقساطاً بلا فوائد حتى عام 1995. وقد استخدم بيريغوفوا هذا الشيك من اجل شراء شقة له، مساحتها مئة متر مربع في الدائرة السادسة عشرة من باريس، ارقى الاحياء السكنية في العاصمة الفرنسية! هذا الخبر، الذي أذيع قبل اقل من شهرين من الانتخابات النيابية، كان بمثابة الماء المثلجة التي سكبت على آخر المتحمسين للحزب الاشتراكي ودفعت بهم الى الاحباط. لا شيء يمنع، في القانون الفرنسي، اي مواطن من ان يقبل قرضاً، مهما كانت قيمته، من صديق له. وهذه القاعدة القانونية تنطبق على كل الناس، بمن فيهم رئيس الحكومة. غير ان هذه البساطة في الاشياء تثير تعقيدات كثيرة من ناحية المناقبية السياسية. فعندما يقبل رجل سياسي قرضاً او هدية ثمينة، فان الظنون تدفع الى الاعتقاد انه اصبح مديناً للشخص الآخر وان عليه ان يفي دينه بشكل او بآخر. والتخوف يكمن في ان يسخّر وظيفته الرسمية لأغراض شخصية. فهل وقع بيار بيريغوفوا في هذا العيب؟ روجيه - باتريس بيلا الذي توفي عام 1989 ليس نكرة. فالرجل كان معروفاً بأنه الصديق الحميم لرئيس الجمهورية. وبيلا كان رجلاً غنياً، صاحب شركات وأموال ومصالح. وتقول الرواية انه استفاد من موقعه ومن علاقاته لتنمية ثروته وتحقيق ارباح هائلة. ومن مثال ذلك ان بيلا تدخل عام 1984 لدى رئيس الحكومة الاشتراكي لوران فابيوس لصالح شركة اشغال عامة فرنسية اسمها س.ب.س، للفوز بعقد لبناء مجمّع من الفنادق، في بيونغ يانغ عاصمة كوريا الشمالية. وتدخل بيلا لدى فابيوس، فتح كل الابواب، ومنها باب بيار بيريغوفوا، وزير الاقتصاد والمال آنذاك. ومقابل هذا التدخل، قامت شركة س.ب.س. بدفع فاتورة اعمال بناء وصيانة في قصر يملكه بيلا، في منطقة سولوني، بقيمة عشرين مليون فرنك لا غير! هذه الهدية من شركة س.ب.س الى صديق ميتران ليست من اختراع الصحافيين او من قبل الناقمين على الحزب الاشتراكي. ذلك ان قاضي التحقيق تييري جان - بيار وضع اليد على وثائق تثبت ذلك. وعندما كان يحقق في الملف المالي لبيلا، وقع صدفة على صورة الشيك الذي اعطاه لبيار بيريغوفوا. من هنا، فان الرابط قام سريعاً بين هذا القرض بقيمة مليون فرنك، ومن غير فوائد، وبين خدمات يمكن ان يكون بيار بيريغوفوا، وزير الاقتصاد والمال وقتها، أسداها لصديق ميتران. اما دفاع بيريغوفوا فيقوم على القول انه يوم حصوله على هذا القرض لم يكن في السلطة، وان مناقبيته معروفة لدى الفرنسيين وان كل ما قام به امر مشروع لا يخالف القانون بشيء. لكن المشكلة تتعقد مجدداً في مسألة ايفاء هذا الدين، اذ ان رئيس الحكومة يقول انه سدده مناصفة، وعلى دفعتين: الأولى مجموعة من الكتب الثمينة والأثاث وهي تساوي 500 ألف فرنك والثانية شيك قيمته نصف مليون فرنك في نهاية العام الماضي. لكن المشكلة ان لائحة الكتب الثمينة والاثاث ليست موجودة، ويرفض بيريغوفوا وكذلك عائلة بيلا الكشف عنها لأسباب غير معروفة. اضف الى ذلك ان الشيك لم يرد ذكره في احصاء الارث. وتطول لائحة الاسئلة التي تفتقد الى اجوبة مقنعة، التساؤلات ستتوقف هنا. ان وزير العدل كتب الى قاضي التحقيق يطلب منه التوقف عن التحقيق في مسألة هذا القرض الكبير لانها لا تتضمن اي عنصر يثير اهتمام العدالة! سمير طرابلسي والآخرون عندما ثارت هذه القضية، تذكر الناس في فرنسا فضيحة مالية اخرى حصلت في شهر تشرين الثاني نوفمبر عام 1988 وكان بيلا احد ابطالها المعروفين. هذه المسألة تعرف باسم "فضيحة بيشينيه". ففي تلك الفترة قامت بيشينيه وهي شركة وطنية فرنسية بشراء شركة "أميركان كان" الاميركية التي تهتم بصناعة الألومينيوم. يومها اعتبرت هذه العملية من اجرأ عمليات الشراء لأنها جعلت بيشينيه في موقع الصدارة، في هذا النشاط عالمياً. ولكن بعد مدة قصيرة تبين ان اشخاصاً كانوا قريبين من المفاوضات، حققوا ارباحاً هائلة، بأن اشتروا آلاف الاسهم لشركة "تريانغل" الشركة الأم التي تملك اميركان كان باسعار زهيدة 10 دولارات للسهم الواحد ثم باعوها بعد أيام قليلة، أي بعد حصول صفقة "اميركان كان"، وذلك بأسعار مرتفعة 50 دولاراً للسهم الواحد بحيث ان اجمالي الارباح غير المشروعة التي جنيت بهذه الطريقة بلغ 40 مليون دولار اميركي. كان من الواضح ان الذين قاموا بعملية المضاربة كانوا على علم بالمفاوضات الجارية بين "بيشينيه" و"اميركان كان"، بحكم الوظائف التي يشغلونها، وقد استفادوا من هذه المعلومة لتحقيق ثراء شخصي غير مشروع. وسريعاً حامت الشبهة حول عدد من الاشخاص: ألان بوبليل مدير مكتب بيريغوفوا، وزير الاقتصاد ثم بيلا، صديق ميتران، وسمير طرابلسي رجل اعمال لبناني مقيم في فرنسا وصديق ألان بوبليل وبيلا وغيرهما من المقربين من السلطة الفرنسية. ووفق التقرير الذي اعده قاضيا التحقيق في باريس جان - كلود مارين واديث بوازيث ونشر قبل أيام، فان بوبليل أخطر بيلا بالعملية، وهذا الاخير اعلم بدوره صديقه ورجل الاعمال ماكس تيريه. وكذلك فان سمير طرابلسي اعلم شربل غانم متموّل لبناني آخر ومدير شركة سوكوفينانس في سويسرا وليد فروم اسرائيلي، مسؤول في شركة بيتروس المالية، في دوقية لوكسمبورغ بعملية الشراء. واضافة الى هؤلاء الاشخاص، تسرب الخبر الى مجموعة صغيرة من الناس التي تدور حولهم، وجميع هؤلاء حققوا ثراء غير مشروع يعاقب عليه القانون. وقد ظهر لاحقاً ان سمير طرابلسي على علاقة قديمة مع بوبليل وبيلا، وكذلك مع بيريغوفوا الذي احتفل مرات عدة بعيد ميلاده في بيت سمير طرابلسي. فضلاً عن ذلك، فان بوبليل الذي استقال من منصبه بعد هذه الفضيحة، كان اسس عام 1985 مع احد ابناء بيلا ومع جان معتوق شركة تجارية اسمها "انتر نيغوس". وكل هذه القضية ستكون، خلال شهر حزيران يونيو المقبل، موضع نظر امام احدى المحاكم الباريسية. ولكن يمكن القول انه، على رغم التقرير الذي اعده قاضيا التحقيق وعلى رغم المدة الطويلة التي استغرقها، فان ثمة ظلالاً ما زالت قائمة وتتناول المسؤوليات الحقيقية وربما اشخاصاً لم يأت التقرير على ذكرهم. الا انها، ومرة اخرى، تسلط الاضواء على مجموعة من الفضائح التي حصلت والتي تترجم نتائجها على المستوى الانتخابي! فضائح فضائح ربما يفهم مما سبق ان الاشتراكيين في السلطة يظهرون ميلاً الى الفساد والاثراء غير المشروع اكثر مما يظهره اليمين. ويقول البعض انه يكفي للتأكد من ذلك سرد بعض الاسماء والتوقف عند عدد من الفضائح. فرئيس الحكومة الأسبق لوران فابيوس وهو حالياً السكرتير الأول للحزب الاشتراكي موضع اتهام مع اثنين من وزرائه السابقين وزيرة الشؤون الاجتماعية جيورجينا دوفوا ووزير الصحة ادمون هيرفيه في مسألة الدم الفاسد التي تهم آلاف عدة من الفرنسيين الذين نقل اليهم هذا الدم. ولا يستبعد ان يمثل هؤلاء المسؤولون امام المحكمة الفرنسة العليا، المخولة وحدها بالنظر في التهم الموجهة الى الوزراء والنواب. وتطول لائحة الفضائح: فرئيس الجمعية الوطنية الحالي هنري ايمانولي موضع اتهام في مسألة تمويل حملة ميتران الانتخابية الثانية عام 1988، وقد اتهم في هذه القضية ايضا وزير العدل السابق الاشتراكي هنري ناليه. وكذلك فان وزير شؤون المدينة ورئيس النادي الاولمبي لكرة القدم في مرسيليا برنارد تابي اضطر في الربيع الماضي الى الاستقالة من منصبه بسبب اتهامه بالتلاعب في قضية مالية من قبل شريك سابق له. ولم تتوقف المحكمة عن ملاحقته الا بعد ان دفع لشريكه السابق 13 مليون فرنك فرنسي. وقد عاد تابي الى الحكم وهو مرشح حالياً للانتخابات التشريعية في مدينة مرسيليا. ومن الفضائح الشهيرة ما يتناول استغلال النفوذ والاحتيال على القانون لتمويل حملات الحزب الاشتراكي الانتخابية. وتعرف هذه الفضائح باسم "الفواتير المزورة" وهي طريقة كلاسيكية تلجأ اليها كل الاحزاب الفرنسية لملء صناديقها في الفترات الانتخابية، وتقوم على تكليف مؤسسات للدراسات من قبل بلديات خاضعة لهذه الاحزاب باجراء دراسات وهمية. وكلفة هذه الدراسات تصب في صناديق الاحزاب المعنية. وخلال الاشهر الماضية، عرفت هذه الفضائح ابعاداً تتخطى اي تصور. وقد عمدت حكومة ميشال روكار الى اقتراح مشروع قانون لتمويل الحملات الانتخابية بهدف قطع الطريق على عمليات الاحتيال على القانون. في لائحة الفضائح التي تتفاعل اليوم في فرنسا، فضيحة ما يسمى "ارهابيو فانسين"، وهم ثلاثة من الايرلنديين القي القبض عليهم عام 1982 بتهمة التحضير لعمليات ارهابية. وقد نفذت عملية القاء القبض "الخلية المناهضة للارهاب" التي تعمل مباشرة بأوامر قصر الاليزيه. وادعت هذه الخلية التي كان يقودها الكولونيل كريستيان بروتو، وهو مقرّب من ميتران، انها ضبطت اسلحة ومتفجرات في مكان سكن الايرلنديين. وتبين لاحقاً ان افراد الخلية انفسهم هم الذين وضعوا المتفجرات وزوروا الوقائع والشهادات. وما زالت العملية تتفاعل. وآخر افرازاتها كشف صحيفة "ليبراسيون" منذ ايام عن قيام الخلية المناهضة للارهاب بالتنصت على الخط الهاتفي للصحافي إدوي بلينيل، الذي يعمل في جريدة "لوموند"، والذي كان يتابع فضيحة "ارهابيي فانسين" ونشر عنها كتاباً. والواضح ان التنصت على الخط الهاتفي يشكل انتهاكاً للدستور والقانون على حد سواء. دوما وسورية آخر الذين اصابهم رذاذ هذه الاجواء الانتخابية المتشنجة في فرنسا هذه الايام وزير الخارجية رولان دوما، وهو صديق شخصي للرئيس ميتران. وقد لاحظ المراقبون في باريسوواشنطن غيابه البارز خلال الزيارة التي قام بها ميتران الى واشنطن تلبية لدعوة من الرئيس كلينتون. فقد اصطحب ميتران امين عام الرئاسة هوبير فيدرين ومستشارته للشؤون الاقتصادية الدولية آن لوفرجون ووزيرة الشؤون الأوروبية اليزابيث غيفو لكنه لم يصطحب وزير خارجيته، على رغم مشاركة وزير الخارجية الاميركي وارن كريستوفر في المحادثات. وهذا ما يعتبر غريباً في التقاليد الديبلوماسية. وقد بررت الاوساط الرسمية غياب دوما بانغماسه في الحملة الانتخابية! والواقع ان دوما، هو حالياً في ورطة ظهرت الى العلن بعد اشهر من الهمس والغمز. وفحوى القصة ان دوما مرشح للانتخابات التشريعية في منطقة دوردوني، جنوب غربي فرنسا، وهي دائرته النيابية التقليدية. ومن بين مدن هذه الدائرة مدينة تدعى سارلات يقع فيها مستشفى بحاجة الى جهاز "سكانر" تفوق قيمته ثمانية ملايين فرنك فرنسي عجزت المدينة عن جمعها. ولتلافي هذا النقص، اقترحت "مؤسسة طلاس الانسانية" المسجلة في ليشنشتاين ان تتبرع بهذا الجهاز لتلافي النقص الحاصل في المستشفى التي سيكون بامكانها ان تؤدي كامل الخدمات لسكان المنطقة التي يمثلها رولان دوما في الجمعية الوطنية. كان من الممكن ان تتوقف المسألة عند هذا الحد وان تشكر مؤسسة طلاس على عملها الخيّر. لكن المسألة انطلقت ولن تتوقف، لا بل انها اصبحت عائقاً بوجه انتخاب دوما. والسبب ان مؤسسة طلاس تحمل اسم وزير الدفاع السوري العماد مصطفى طلاس. والمؤسسة تديرها ابنته ناهد أرملة التاجر اكرم عجة. وناهد عجة تربطها علاقة صداقة بالوزير دوما بحيث رأى بعضهم في هذه الهدية تدخلاً لمؤسسة اجنبية في الشؤون الانتخابية الفرنسية وتداخلاً بين الحياة العامة والخاصة لوزير الخارجية. ولم تتردد بعض الالسن في الربط بين هذه المسألة وبين غياب دوما عن رحلة ميتران الى واشنطن. لكن دوما ليس موضع انتقاد فقط في هذه المسألة وحدها. انما ينتقد في حركة المناقلات والتعيينات التي جرت في وزارة الخارجية قبل أيام من رحيل الحكومة الاشتراكية. فالمعارضة تتهم الحكم بملء الادارات، ومنها وزارة الخارجية، برجالها الامناء وذلك قبل الهزيمة المنتظرة للحزب الاشتراكي. ومن ابرز الذين شملتهم هذه الحركة وزير الدفاع بيار جوكس الذي استقال من منصبه ليعين رئيساً اول لديوان المحاسبة. هكذا اذن تدور عجلة الحكومة الفرنسية في الايام الاخيرة للحكومة الراهنة وقبل عودة اليمين الى السلطة. مناخ ثقيل، غير صحي، عنوانه فضائح بالجملة واتهامات تطلق من هنا وهناك. ربما يكون ذلك ثمن اللعبة الديموقراطية التي تهبط احياناً من مستوى التنافس السياسي الى مستوى توجيه الضربات واثارة الفضائح. والخلاصة التي يصل اليها الناخب الفرنسي وهي خطيرة ان في بلاده نوعين من العدالة: الاولى صارمة لا ترحم تطبق على الناس العاديين، والثانية تطبق على اركان الدولة والسياسيين واصحاب النفوذ الذين يستفيدون من عدالة متسامحة ومن قوانين العفو ومن رحمة القضاء ومن قدرة الناس على التناسي. فضائح اليمين لا شك انه من التجني القول ان رجال اليسار مؤهلون للفساد اكثر من غيرهم. وان فرنسا عرفت في السنوات الاخيرة فضائح لم تعرفها ايام حكم اليمين. فمن خطف المهدي بن بركه من مقهى في قلب باريس واغتياله ايام الجنرال ديغول، الى اغتيال الامير دو بروغلي في عهد جيسكار، الى فضيحة "لافيليت" المالية او مسألة الماسات التي اهداها الامبراطور بوكاسا للرئيس جيسكار ديستان... كل ذلك ما زال عالقاً في اذهان الفرنسيين ويثبت ان السلطة مهما كان لونها عندها شوائب وعاهات. واذا كانت الاضواء سلطت على الاشتراكيين لانهم في السلطة، فان رجال اليمين، وان خارجها، كانوا ايضاً موضع فضائح واتهامات. وهذه بعض النماذج. بعد الثامن والعشرين من شهر آذار مارس، سيكون على رئيس الجمهورية ان يستدعي رجلاً سياسياً من صفوف اليمين ليكلفه بتشكيل الحكومة الجديدة. الاسماء المطروحة كثيرة، ومن بينها اسم وزير الثقافة السابق فرنسوا ليوتار، الرئيس الفخري للحزب الجمهوري احد احزاب الاتحاد من اجل الديموقراطية. فهذا الاخير استقبل ميتران منذ أسابيع في مدينة فريجوس التي تقع على شاطىء المتوسط قريباً من مدينة كان. وبعد ان كان ليوتار قدم استقالته من مقعده النيابي ومن رئاسة بلدية فريجوس عاد ليمثل هذا المنصب الاخير وليخوض الانتخابات النيابية وليقوم بحملة سياسية واسعة من اجل الوصول الى رئاسة الحكومة. والواقع ان حماس ليوتار الزائد في هذه الايام، سببه الغياب القسري عن المسرح السياسي لما يزيد على الستة اشهر بسبب فضيحة مرفأ فريجوس . فما هي هذه الفضيحة؟ في 22 ايار مايو عام 1990، تقدم متعهد اشغال عامة في فريجوس اسمه رينيه اسبانول بشكوى على ليوتار فحواها ان هذا الاخير، بصفته رئيساً للشركة المختلطة المولجة باعمار مرفأ فريجوس 3 آلاف شقة سكنية، 200 محل تجاري، مراكز لهو وسياحة وغيرها... لم يلتزم القوانين المرعية الاجراء في عملية استدراج العروض لتنفيذ اعمال مرفأ فريجوس بل انه استفاد من نفوذه السياسي ومن موقعه على رأس الشركة المختلطة لابعاد رينيه اسبانول ولاعطاء الاعمال لمتعهد آخر هو هنري ماير الذي يشغل في الوقت عينه منصب المدير الاداري للشركة المختلطة. اما لماذا تفضيل ماير على اسبانول فمرده الى ان ليوتار كان يستأجر ما بين 1984 و1986 من المتعهد ماير قصراً في ضواحي فريجوس ملحقة به دارات عدة وأرض مساحتها 24 ألف متر مربع، وكل ذلك لقاء 5001 فرنك في الشهر وهو مبلغ زهيد للغاية. ثم ان ليوتار اشترى هذا القصر من صاحبه بمبلغ مليون ومئتي الف فرنك في حين ان قيمته الفعلية تساوي اضعاف هذا المبلغ. وهذا يعني ان ليوتار ينطبق عليه جرم الفساد والرشوة واستغلال النفوذ وانتهاك القوانين المعمول بها. اضافة الى ذلك فان ليوتار اجرى أعمال صيانة وترميم تقارب قيمتها المليون فرنك فرنسي قامت بها شركات مرتبطة بالمتعهد ماير ويبدو ان هذه الشركات تنازلت عن قيمة اعمالها للوزير السابق. كل هذه التهم، لو ثبتت، فانها تعني ارتشاء ليوتار وتبادل المنافع مع شركات خاصة وتحقيق مكاسب شخصية. وكلها جرائم يعاقب عليها القانون. والحال ان غرفة الاتهام التابعة لمحكمة مدينة ليون اصدرت يوم 5 شباط فبراير قراراً بوقف ملاحقة ليوتار والاشخاص الخمسة الآخرين المتهمين معه، وذلك بسبب مرور الزمن! غير ان القرار يتضمن نصاً يقول ان التحقيق الذي اجري بخصوص ليوتار أثبت ان هذا الاخير استغل نفوذه وانه مرتش وقد استفاد من هدايا قدمت اليه... وعلى رغم ان ليوتار ما فتئ يعلن ان العدالة بيّضت صفحته، الا انه يعترف بان قرار غرفة الاتهام يجعل منه "بريئاً قانونياً ومذنباً اخلاقياً"، الامر الذي حفزه على رفع الدعوى الى محكمة أعلى للحصول على البراءة القانونية والاخلاقية. شيراك، ميشال نوار والآخرون ليس ليوتار الرجل السياسي الوحيد في معسكر اليمين الذي تعكرت صورته بسبب مشاكله مع العدالة. كثيرون من رفاق دربه سبقوه أو لحقوا به على هذا الطريق. وبعضهم، وان لم تصل الامور معه الى درجة اهتمام العدالة به، الا ان صورته اهتزت. خلال عطلة نهاية السنة الماضية التقى سياسيون فرنسيون صدفة برئيس الحكومة السابق وزعيم الحزب الديغولي جاك شيراك في مسقط عاصمة عمان. واقامة شيراك وزوجته في مسقط بقيت سراً، الى ان نشرت صحيفة "لوكانار انشينيه" الساخرة تحقيقاً حول هذه الاقامة. وقد ظهر من خلاله ان شيراك وزوجته لم ينتقلا الى مسقط على متن طائرة تجارية وانما على متن طائرة خاصة جاءت من سويسرا، ونقلتهما الى عمان ثم قامت برحلة ثانية لاعادة شيراك وزوجته الى باريس بعد ايام عدة. ووفقاً للصحيفة الساخرة، فان كلفة الطائرة بلغت نصف مليون فرنك فرنسي ناهيك عن كلفة الاقامة في فندق فاخر. والمشكلة ان الصحيفة حاولت الاستعلام عن الجهة التي دفعت نفقات الرحلة، وجاءت الاجابات من مكتب جاك شيراك متضاربة. فمنها تحدث عن جهة صديقة "لا يرغب جاك شيراك بالكشف عن هويتها"، ومنها تحدث عن تقدمة... الى ان أعلن سكرتير الحزب الديغولي ألان جوبيه ان الحزب هو الذي تولّى دفع نفقات سفر واقامة شيراك في مسقط! ما يجمع بين ليوتار وميشال نوار، وزير التجارة الخارجية السابق والنائب عن مدينة ليون، ان كليهما شاب وطموح وصاحب مستقبل سياسي واعد. غير ان الاول حصل على تبرئة جزئية عن القضاء والثاني غارق حتى الاذنين في فضيحة مالية - عائلية لا يعرف أحد كيف ستنتهي. بدأت مأساة ميشال نوار العائلية - السياسية - المالية قبل 11 عاماً! وقتها كان ميشال نوار نائباً عن مدينة ليون. وفي جولة له على "المعرض الاوروبي للصيدليات"، التقى شاباً يدعى بيار بوتون يعمل في هذا الحقل. وهذا الاخير واظب في علاقاته مع ميشال نوار وعرض عليه خدماته وتقرب منه الى درجة انه اصبح لاحقاً صهره ومستشاره المالي والسياسي والاعلامي. ومع الايام كبر حجم بيار بوتون واصبح صاحب شركات عدة وضعها كلها في خدمة والد زوجته. وكذلك سخر معارفه وعلاقاته لخدمة المسار السياسي لعمّه، الذي قرر ان يجعل منه رجلاً سياسياً من الطراز الاول. وهكذا تحمل بيار بوتون رحلات عمّه الى البرازيل واميركا واسرائيل وجزر الانتيل. وقدّم له شقة سكنية في باريس. وفي عام 1986 اصبح ميشال نوار وزيراً للتجارة الخارجية لمدة عامين، بعدها حصلت انتخابات تشريعية ثم انتخاب بلدية كان بيار بوتون اثناءها مدير حملة ميشال نوار الانتخابية ومدير مكتبه... ومموله الاول. لكن خلافاً حصل بين الرجلين لاحقاً، وذلك بعدما اصبح ميشال نوار رئيساً لبلدية ليون. وفي 13 تشرين الثاني نوفمبر الماضي، القي القبض على بيار بوتون واودع السجن بسبب التلاعب في حسابات شركاته وبسبب ظهور ثغرة مالية من 15 مليون فرنك. أين ذهبت هذه الاموال عندما ابتسم الحظ لبيار بوتون واستطاع ان يضع يده على شركات عدة كلها مرتبطة بالقطاع الصيدلي، جنح الى حياة البذخ والترف. فالرجل يدعي انه يملك طائرته الخاصة وهو يملك دارة فخمة في مدينة كان ودارة اخرى في ليون وشقة في باريس. وبيار بوتون يحب عالم النجوم والتلفزيون والصحافة. وكان كريماً مع الصحافيين. ومنذ ان اودع السجن في الخريف الماضي لم يبخل بوتون، بعد ان تخلى عنه الجميع، في الادلاء بمعلومات وفي اظهار الفواتير والوثائق التي تظهر كلها بساطة كفه. ومن الاسماء التي ظهرت اسم باتريك بوافر دارفور، نجم القناة الاولى في التلفزيون الفرنسي الذي يقول عنه بيار بوتون انه قدم له خدمات بقيمة مليون فرنك فرنسي بدل استئجار طائرات ورحلات بعيدة واقامات على الشاطئ اللازوردي وفي منتجعات جبال الالب... ومن الصحافيين الآخرين آن سانكلير، المذيعة المعروفة وزوجة الوزير دومينيك شتراوس - كان وايف، موروزي وشارل فيلنوف... واذا كان قاضي التحقيق فيليب كوروا استمع الى عدد من الاعلاميين كشاهدين الا انه وجه الى الصحافي بوافر دارفور تهماً عدة، منها الاستفادة من اموال لا تخصه وتعود الى شركات. والمشكلة هنا التخوف من ان يكون بوافر دارفور وغيره سخّر وظيفته لخدمة اهداف بيار بوتون، وتحديداً خدمة سياسة عمه ميشال نوار. يوم 10 آذار مارس الجاري سلم بيار بوتون لقاضي التحقيق صورة لمسودة اتفاق بينه وبين ميشال نوار يعود لشهر نيسان ابريل عام 1989 وينص على كيفية تعويض بيار بوتون عن المصاريف التي تكبدها من اجل ميشال نوار. وهذه الوثيقة التي لم يشكك ميشال نوار في صحتها، هي بمثابة قنبلة متفجرة بوجه نائب مدينة ليون، خصوصاً انها تنسف الكثير من تأكيداته السابقة. فهي تتناول اموالاً جمعها بيار بوتون لمصلحة ميشال نوار واموالاً اخرى اخذها من شركاته الخاصة، وتنص ايضاً على دفع اموال بالملايين لبيار بوتون. ولا شك ان هذه الوثيقة ستعيد اطلاق التحقيق في اتجاهات جديدة بحيث لا يمكن منذ الآن التكهّن بالنتائج التي سيؤول اليها. هكذا تتوالى الايام في فرنسا. وكل يوم جدىد يحمل حصته من الفضائح والاتهامات بسبب الاستحقاق السياسي الذي اصبحت الفضيحة جزءاً من السلاح المستعمل فيه.