يخوض كنزابورو أويه، الأديب الياباني الذي فاز بجائزة نوبل هذا العام، في الدهاليز السوداء للنفس البشرية والمجتمع الانساني، مستعيناً بالشعر والفانتازيا، ويكتب بأسلوب معقد ناشز، وبرؤية وجودية تحيل الى كتابات كامو وسارتر وآخرين... "الوسط" تسلّط في ما يلي الضوء على تجربة هذا "المعارض المزمن" الذي يعيش غربة دائمة وقطيعة مع السائد، والذي اختار الخروج على الأعراف والقوانين. فيما كانت الانظار مسمرة على أوروبا التي كادت التوقعات تجمع أن أحد أدبائها الذين خانهم الحظ غير مرة سيحصد جائزة نوبل للآداب هذا العام، جاء الاعلان عن فوز كنزابورو أويه بها، دعوة مفتوحة للانتظار موجهة لكتاب لم يزل لديهم متسع لمزيد من الخيبات مثل الشاعر الايرلندي شيموص هيني والروائي التشيكي ميلان كونديرا والمسرحي البلجيكي هوغو كلاسي... أما القراء الذين تفاجأوا باسم الأديب الاسباني "المجهول" كاميلو خوسيه سيللا، حين فاز بالجائزة الشهيرة عام 1989، وبكثيرين غيره قبل وبعد ذلك، فكانت الدهشة من نصيبهم هذه المرّة أيضاً... وتجدر الاشارة الى أن الروائي الياباني البالغ من العمر 59 عاماً، يعرفه قرّاء الضاد من خلال الترجمة العربية التي نشرتها "دار الآداب" البيروتية لرواية "علّمنا أن نتجاوز جنوننا" وتحمل توقيع كامل يوسف حسين. كيف "اختطف" اذاً هذا الكاتب الآتي من امبراطورية الشمس المشرقة، من بلاد الساموراي وقصيدة ال "هايكو"، حيث ارتكب ميشيما انتحاره الطقوسي الشهير وفي قلبه حرقة نوبل، وحيث لم يفز بهذا التكريس الأدبي الأرفع في العالم، منذ تأسيسه، غير روائي واحد هو ياسوناري كواباتا الذي اسندت اليه الأكاديمية السويدية جائزتها في العام 1968؟ كنزابورو الذي يكاد يكون مجهولاً خارج بلاده - اذا استثنينا فرنسا أعد أطروحته الجامعية عن جان بول سارتر ودول قليلة أخرى - عاش دائماً في غربة في اليابان التي منحته جائزة "أكوتا غاوا" الرفيعة عن روايته "طريدة مدجنة" في العام 1958. وتمثلت هذه الغربة بقطيعة، أصرّ عليها منذ تجاربه الادبية الاولى أواسط الخمسينات، مع الكتابة التقليدية وأدواتها. فغرف من معين دانتي ورابليه وبلزاك وأودن وإدغار آلان بو... في سياق محاولته لابتكار أسلوب معقد ناشز أبداً عن "البساطة المهيمنة على الادب الياباني التّواق الى البوح بمكنونات القلب وامتاع القارئ بعبارات مزوّقة يخفي جمالها "ضحالة" وأحادية فكرية لا تحتمل كثيراً من التفسيرات". إساءة استعمال اللغة؟ هذا الخروج على "القوانين" الفنية الراسخة لثقافة تحترم التقاليد، دفع بالكثيرين الى اتهامه "باساءة استعمال اللغة اليابانية"، لكنه في الحقيقة سعى الى تطويع هذه اللغة وتحويلها أداة بالغة الحساسية للتعبير عن الذات. وتميُّز كتابات كنزابورو عاد عليه بالشهرة في فرنسا، حيث تُرجمت رواياته "قضية شخصية"، "رهان القرن"، "رسائل الى سنوات الحنين"، وغيرها من الاعمال التي سيحملها نوبل اليوم بلا شك الى قرّاء العالم كلّه عبر ترجمات الى لغات كثيرة. وكنزابورو أيضاً مُعارض مزمن، بينه وبين سياسة بلاده شرخ عميق، ذكّر به قبل أيام حين أعلن رفضه تسلّم "وسام الاستحقاق الثقافي" الذي منحته إياه الحكومة اليابانية غداة فوزه بجائزة نوبل، وكان من المقرر تسليمه إياه في الثالث من تشرين الثاني نوفمبر المقبل خلال احتفال ضخم في القصر الامبراطوري. فال "القبول بمثل هذا التكريم يعني القبول بالنظام الاجتماعي القائم في اليابان"، كما شرح في مقالة نشرتها صحيفة "طوكيو شيمبون"، ويعني الاعتراف ب "الامبراطور الموجود في قمة هرم اجتماعي يعود تاريخه الى الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية". هكذا رفض كنزابورو أرفع جوائز بلاده الثقافية، "بهدوء لكن باصرار"، انسجاماً مع مبادئه الديموقراطية. كما اختار أن يستأنف "بهدوء" أيضاً، دعوته الى استبدال "الديكتاتورية" التي حكمت اليابان في رأيه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. والأديب البارز عرف في بلاده بمعاركه ونضاله الطويل للدفاع عن حقوق الانسان "المهدورة"، وللحد من التسلح الذي انهمكت فيه بلاده في السنوات الأخيرة. وبفعل سياسة الرفض التي انتهجها، صار في الخمسينات ناطقاً باسم المثقفين اليساريين اليابانيين الرافضين لاتفاقية الأمن المعقودة بين طوكيو وواشنطن. لكن ذلك لا يعني أن كنزابورو ليس فخوراً بانتمائه وبهويته اليابانية. فهو صرّح عند ابلاغه النبأ، أن جائزة نوبل لم تمنح اليه شخصياً بل الى "الأدب الياباني الذي يمر بواحدة من أخصب مراحله". فيما اعتبر وزير الخارجية حصوله على الجائزة بمثابة "نصر قومي"! هاجس الحرب والغياب صحيح أن الكاتب خالف المنحى الأدبي التقليدي السائد في بلاده، لكن هموم اليابان بقيت حاضرة في اعماله التي تخاطب حلقة واسعة من القراء اليابانيين: "أنا أكتب لجيلي، للناس الذين عاشوا تجاربي ذاتها". واذا كانت موضوعاته الرئيسية، ذات بعد كوني أكيد، نقع عليها في مختلف التجارب الأدبية المشابهة في العالم، فإن كنزابورو أويه كرّس الشطر الاكبر من كتاباته لمقاربة أسئلة يابانية بامتياز، في مقدمتها الحرب وذيولها التي لا تزال تثير فيه شهوة الاحتجاج والنزق. ألم تنشر تلك الحرب الأسى والرعب في قريته الواقعة في شيكوكو أصغر الجزر اليابانية الرئيسية وأقلها شهرة؟ هناك عاش الصبي كنزابورو وخَبِر الحرب "التي لم تكن بالنسبة الينا تعني سوى غياب شباب ضيعتنا والاعلانات التي أتى بها ساعي البريد عن مقتل جنود أثناء الأعمال الحربية" كما تقول احدى شخصيات رواياته. وفي قصة قصيرة كتبها بقصد استبطان العلاقة بين الياباني وعدوه، قلب الاديب الموازين فوضع أبناء قرية نائية وجهاً لوجه مع طيار أميركي زنجي وقع في أيديهم أسيراً. وفي "ملاحظات هيروشيما" 1964 أرّخ للكارثة وعرض شهادات الناجين منها ببراعة وفصاحة صار معهما الكتاب أكثر شهرة من رواية "آغوي وحش السماء" التي ظهرت معه. وهاجسه المقيم بالحرب، ينطوي على فهم مختلف لها. فالموت والخراب والهلع، على أهميتها، ليست أخطر ما في الحرب بالنسبة اليه، وانما يتجلى شرها الأشد ضراوة في محقها الموروث الاخلاقي والقيم التي لا يني يحن اليها. الأبوّة فضاءً استعارياً في أدب كنزابورو أويه، يتداخل العام بالخاص، وتضيع الحدود بينهما فيبقى أحدهما لصيقاً بالآخر حتى في أشد لحظات تفرده. موضوع الابوة، مثلاً، له منزلة حميمة لدى الكاتب الذي يستنفر أدواته الفنية لتسليط الضوء عليها كلّما سنحت الفرصة. فوفاة الأب - وهو فقد والده صغيراً في العام 1944 - حدث يتردد في غير عمل من أعماله. وعلاقة الوالد بابن معاق تمثل محور أشهر رواياته "قضية شخصية" 1964 التي نشرها بعد سنة من ولادة نجله هيكاري بدماغ معطوب لم يمنعه من كتابة الحان حققت رواجاً واسعاً في اليابان. لكن موضوع الابوة، على رغم ارتباطه الحميم بالحياة الشخصية للكاتب، يبدو في الوقت نفسه فضاء استعارياً يتجسم فيه حزن بلاد تهيم على طريق مسدود يجعلها تتحسر على ماض غابت اشياؤه الجميلة وقيمه الاخلاقية والاجتماعية الى الأبد. ولعلّ رواية "الصرخة الصامتة" 1967 حيث يلجأ الى توليف الفانتازيا والتاريخ المموه للخوض في موضوع ياباني نموذجي، يمكن اعتبارها الى جانب "قضية شخصية" أوسع رواياته انتشاراً في العالم. وتشي هذه التجربة بتأثره بسارتر وكامو، وربما بنورمان مايلر أيضاً، فمنهم استعار مفردات المعضلة الوجودية التي تواجه البطل المتردد بين التخلص من ابنه المعاق وبين تحمل مسؤولياته كأب. وكنزابورو أويه الذي جاهر مراراً بعدم محبته للناس الطبيعيين، "على الرغم من أنه يبذل مجهوداً كي يكون طبيعياً"، والذي عبر ذات مرّة عن اعتقاده أنه "من البشر المشوهين، يشبه المعاقين والمعتوهين"، بقي يجوس المنسربات السوداء في النفس البشرية والمجتمع الانساني مستعيناً بالوجودية والشعر والفانتازيا التيولوجية... على مدى 50 كتاباً. وحالما يفرغ من كتابة روايته الاخيرة، سيطلّق كنزابورو هذا الشكل الفني "القاصر" ويبدأ بحثه عن نمط فني جديد يليق بهذا العالم وتفاصيل حياته المواربة.