لم يكد الجدل ينتهي في مصر حول المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الذي عقد في القاهرة الشهر الماضي حتى انشغل المصريون بموضوع آخر استحوذ على اهتمام المسؤولين وعامة الناس في آن واحد. وإذا كانت ارتفعت تحذيرات واعتراضات منذ فترة طويلة على ختان البنات، إلا أن قيام شبكة "سي. ان. ان" الأميركية بتصوير عملية ختان طفلة مصرية وبثها أثناء انعقاد مؤتمر السكان فجّر القضية ودفع بالمعترضين الى شن حملة اعلامية للمطالبة بوضع حد لهذه الظاهرة التي تكثر أيضاً بين المسيحيين المصريين، مثلما تكثر بين المسلمين منهم. واستطلعت "الوسط" آراء عدد من رجال الدين والمسؤولين والخبراء حول القضية، وبدا اختلاف كبير في وجهات النظر، خصوصاً حول المعالجة الدينية لمشكلة الختان. ووفقاً للدكتور علي عبدالفتاح عمر وزير الصحة فإن 3600 فتاة تجرى لهن عملية الختان في مصر يومياً، وهناك 70 في المئة من الأسر المصرية في الريف والمناطق الشعبية يحرصون على اجراء عمليات الختان لبناتهن. وفي حين يرفض بعض الأطباء في مصر اجراء عمليات ختان الاناث، فإن هناك أطباء آخرين ما زالوا يقومون بالعملية. إلا أن اللافت وفقاً لدراسة للمركز القومي للبحوث ان أكثر من 60 في المئة من عمليات الختان للاناث يقوم بها حلاقون وقابلات، مما يعرض الفتيات للخطر. وتزداد الخطورة مع قيام هؤلاء باستخدام الآلات الحادة في اتمام العملية من دون تعقيم لأكثر من فتاة في وقت واحد، الأمر الذي يؤكد الأطباء أنه أحد أسباب انتشار مرض التهاب الكبد الوبائي في مصر أخيراً. وتبين جولة في الأسواق التي تقام في الأرياف والمناطق الشعبية ان العملية تجري في العلن وفي أكشاك صغيرة قرب تلك الأسواق، وفي أيام الموالد تضطر أسرة الفتاة للانتظار ساعات عدة حتى يحدد الحلاق وقتاً لاجراء عملية ختان الفتاة. وأمام استفحال الوضع أعلن الدكتور ماهر مهران وزير السكان ان مجلس الشعب سيناقش قريباً مشروع قانون حماية الطفل الذي يتضمن تحريم ختان الاناث، مشيراً الى أن لجنة من كبار رجال القانون والطب والاجتماع أعدت مشروع القانون. وأكد "ان الختان مسألة في غاية الخطورة ويجب ان تختفي، والدين لا يمكن أن يسمح بشيء يضر الصحة" مشيراً الى أن علاج الظاهرة يحتاج الى حملات توعية الى جانب القانون. وفي رأي الدكتور محمد سيد طنطاوي مفتي مصر فإن موضوع ختان الانثى لم يرد في شأنه نص ديني قاطع وصريح. ويقول: "وردت في شأن هذه المسألة أحاديث نبوية أضعفها المحققون من رجال الحديث، وعلى هذا فإن العلماء من الأطباء المتخصصين لهم الفضل في هذه القضية، فإذا رأوا ان فتاة معينة يجب أن يتم ختانها فإن رأيهم يكون سليماً، اما إذا رأوا أنه من الأفضل ترك ختان الفتاة فعلينا الالتزام بذلك". ولا يعترض المفتي على سن قانون يحرم ويجرم عملية الختان ويقول: "يجوز لولي الأمر ان يصدر القوانين التي تأتي في مصلحة الشعب، وعلينا أولاً استطلاع آراء الأطباء المتخصصين الذين يمكن أن يحددوا الرأي النهائي في هذه العملية". هويدي: عادة غير إسلامية ويؤكد المفكر الاسلامي فهمي هويدي ان عادة ختان الانثى غير اسلامية أو عربية، ويقف في صف المطالبين بقانون لحظر وتقييد عملية الختان، إلا أنه يتساءل لماذا كل هذه الضجة مع أن الظاهرة موجودة منذ زمن قديم، لكنه يعود ليؤكد ان لختان الانثى أضراراً نفسية وصحية للفتاة والزوجة في ما بعد ويعكس تأثيرها على الأسرة بصفة عامة. وتوافقاً مع تساؤل هويدي فإن الداعية الاسلامي الدكتور عبدالصبور شاهين يشير الى أن البعض يريد أن يخلق مشكلة من العدم لأن موضوع ختان البنات ظل يمارس بطريقة مستترة حوالي 14 قرناً، ويقول شاهين: العملية لا يمكن التحكم فيها بقانون لأن نظرة الاسلام الى مسألة الختان هدفها تكريم المرأة، والفتاة السوية الطبيعية لا تحتاج الى ختان، اما التي يطول بظرها فيجب تقصيره بدلاً من تركه طويلاً، ولا تختلف هذه العملية عن عمليات التجميل. والمهم هو من الذي يقوم بالختان؟ الطبيب المتخصص أم حلاق الصحة؟ ويضيف: ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: الختان سنة وطهارة في الرجال ومكرمة في النساء، والرسول أوصى بأن تقصر المرأة بظرها لا أن تستأصله، وهذا موضوع ليس له علاقة بالدين ولكنه واجب لتهذيب التصرف والسلوك. وتمتلئ ادراج المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في القاهرة بأبحاث ودراسات حول موضوع الختان. ويقول الدكتور أحمد المجدوب الأستاذ في المركز ان كل الدراسات اثبتت ان غالبية الأسر المصرية غير مقتنعة بمسألة منع الختان، ويشير الى أن الأمهات أنفسهن لهن مطلق الحرية في تنفيذ هذه العادة بأي شكل وهن يعتقدن بأن عملية الختان توقف أضراراً كثيرة قد تقع فيها الفتاة إذا لم يتم ختانها، فالختان عندهن حصانة للبنات من السقوط في الرذيلة. ويعترض المجدوب على مسألة المقارنة بين المجتمع الافريقي والمجتمعات الأخرى خصوصاً في أوروبا ويقول: "في أوروبا المناخ أغلب أيام السنة بارد ولكن في افريقيا المناخ حار والرطوبة عالية ما يؤدي الى تلوث هذا الجزء من الجسم بسبب حساسيته الشديدة". ويضيف: "المشكلة ليست في مسألة الختان في حد ذاتها ولكن القضية هي من يقوم بتنفيذ العملية فلا بد من منع الحلاقين والقابلات من تنفيذ عملية الختان ويجب قصرها على الأطباء المتخصصين حتى لا تصاب الفتاة بأذى". المشكلة في العادة ويشير المجدوب الى أن وزارة الصحة كانت أصدرت قبل سنوات طويلة قراراً بمنع الختان إلا أن الدراسات أثبتت ان 75 في المئة من الأسر المصرية تجري العملية في الخفاء، ومعنى ذلك ان الأسر المصرية متمسكة به. ويرى ان المعارضين كلياً لموضوع الختان "محاكون للغرب في كل شيء ويريدون جلب عادات لا تلائم طبيعة مجتمعنا بحجة ان ذلك يفقد الفتاة الحساسية الجنسية، مشيراً الى أن دراسات أثبتت ان بعض الاناث ممن جرت لهن عمليات ختان مصابات بالميل الجنسي وعلى هذا فإن الختان لا يؤثر على حساسيتهن الجنسية. ويوضح ان البرود الجنسي مشكلة عامة حين أثبتت احدى الدراسات الأوروبية ان 55 في المئة من النساء يشكين من برود عواطف الرجال نحوهن خصوصاً أزواجهن ولا يصلن بهن الى حد الاشباع الجنسي، وعلى هذا فإن المسألة مزاجية وغير مرتبطة بالختان فعلى الرغم من عدم وجوده في أوروبا فإن البرود الجنسي منتشر هناك. ويعتقد الدكتور المجدوب ان فرض قانون لمنع الختان لن يؤدي الى ايقاف عمليات الختان وستلجأ الأسر الى تنفيذه في الخفاء. وفي حين يربط الدكتور محمد شعلان استاذ الطب النفسي في جامعة القاهرة بين مسألة الختان وبين انتشار المخدرات على اعتبار ان الزوج حينما يشعر بأنه غير قادر على تحقيق الاشباع الجنسي لزوجته التي جرت لها - وهي طفلة - عملية ختان قضت على أنوثتها يلجأ الى إدمان المخدرات، فإن الدكتور المجدوب يرفض هذا الربط ويشير الى أن احدى الدراسات العملية في الولاياتالمتحدة اثبتت ان 60 في المئة من طلبة المدارس الثانوية يتعاطون المخدرات على رغم ان معظمهم يمارس الجنس مع بنات لم يتعرضن للختان. الانعكاسات الصحية والنفسية وعلى النقيض تماماً فإن الكاتب والمفكر يوسف جوهر يصف عملية الختان بأنها تصرف همجي ومتخلف، ويقول: "لا بد من التنبيه الى الخطورة الصحية والنفسية التي تحدث للفتاة التي تُجرى لها عملية الختان، وعلى وسائل الاعلام ان تلعب دوراً كبيراً في توعية الناس بأضرار الظاهرة وخطورتها". ويعتقد جوهر بأن فرض قانون لتحريم الختان لا يحل المشكلة لأنه يمكن الافلات منه، حتى لو كانت الناس ترهبه، والاقناع أفضل من الترهيب. ويتناول الدكتور محمد شعلان التأثير النفسي لختان البنات ويوضح ان الختان عبارة عن بتر عضو له وظيفة في جسم الانثى بما يمثل اعتداء على خلق الله لأن وظيفة هذا العضو مهمة لنجاح العملية الجنسية، والمرأة التي أجريت لها العملية تعيش أزمة نفسية وصدمة رهيبة وكأننا نقول لها انها يجب أن تعاقب لأنها ستمارس الجنس. وفي هذا الاطار أيضاً يؤكد الدكتور فكري عبدالعزيز على فرض قانون لتحريم ختان الاناث ويشير الى ان الختان "يؤدي الى حدوث شرخ نفسي تصاحبه آلام ورعب وقلق ومخاوف ترافق تكوين شخصية الفتاة". ويحذر من أن خطورة الظاهرة تزداد نتيجة قيام غير المختصين بتنفيذ عملية الختان لأنهم يقومون بإزالة كل المناطق الحساسة التي أعطاها الله للانثى لتحقق عن طريقها الاشباع الجنسي فتصاب بالبرود بما يؤدي الى التفكك الأسري. ويرى الدكتور عبدالعزيز ان التربية الاسرية السليمة وحدها كفيلة بجعل الفتاة تتحكم في غرائزها. ويختم كلامه قائلاً: "أحد ضباط الشرطة العاملين في مجال شرطة الآداب أكد لي أن كثيراً من فتيات الهوى مختونات". صرخة النساء: ننادي بوقف الجريمة ليس غريباً أن تكون أصوات السيدات هي الأعلى في معارضة الختان وقيادة الحملة ضده، فالكاتبة صافي ناز كاظم تؤكد "ان انحلال الفتيات لا علاقة له بكونها مختونة أم لا". والكاتبة حُسن شاه وصفت عملية الختان بأنها همجية وتقوم على أسس غير دينية، وتقول: من الغريب ان معظم البلاد الاسلامية لا توجد فيها مثل هذه العملية. وتشدد على أنه "ليس من حق أي أب أو أم أن يقطع جزءاً من جسد الابنة دون سؤالها إذا كانت توافق على ذلك أم لا"، مشيرة الى أن الجاهلية كانت تؤمن بوأد البنت ومع دخول الاسلام وتطور المجتمع انتهت هذه المعتقدات وحان الآن الوقت للتخلص من عادة الختان والقضاء عليها. وتعتبر الأديبة عائشة أبو النور ان القانون وحده لا يكفي للقضاء على ظاهرة ختان الاناث ولا بد من حملات للتوعية خصوصاً في المناطق الريفية والشعبية، وتضيف: أنا عضو في جمعيات نسائية عدة ونادينا فيها بوقف هذه الجريمة. أما الأديبة فوزية مهران فاعتبرت ان اعداد قانون لتجريم الختان "رجوع الى الحق"، وتقول: لا بد من الاسراع لوقف هذه الجريمة الوحشية التي استمرت - مع الأسف - في غفلة من الأذهان حتى نهاية القرن العشرين، وعلينا المتابعة واليقظة والعمل على تطوير الأفكار والمعتقدات الغريبة السائدة في مجتمعنا. وأضافت: "قرأنا في كتب التاريخ عن عصور الظلام في أوروبا وحزام العفة"، وكنا نضحك ونتساءل: كيف كان هؤلاء الناس يفكرون؟ وهل تخلق نصف البشرية من أجل المتعة فقط؟ وكيف تصبح المرأة مجرد مخلوق هش للغاية فاقد للقدرة على التمييز والاختيار والاحساس بالمسؤولية؟ وقالت: اذا صمتنا عن مثل تلك الجرائم ستتسع دائرة الطغيان والانتهاكات والاعتداءات وسنجد من يقطع أجزاء من العقول وربما نجد من ينادي بتعقيم الرجال. دماء على الشاشة جلست الطفلة نجلاء فتحي حمرات في منزلها تلهو وهي لا تدري أنها ستصبح أشهر طفلة في مصر... وفجأة وجدت فريقاً تلفزيونياً في صحبة والدها وأشخاصاً آخرين غرباء أحدهم يحمل حقيبة صغيرة... دخلوا جميعاً الى شقة الأسرة وأخرج الرجل صاحب الحقيبة موساً فيما جهز فريق التصوير معداته وأضاء الغرفة الضيقة، وقام رجلان آخران لا تعرفهما نجلاء "بتكتيفها" وصرخت الطفلة: يابا.. ماما.. حرام عليكم، وتركز كاميرا فريق التصوير الذي اتضح في ما بعد أنه تابع لشبكة CNN الأميركية على وجه الفتاة ثم تنتقل الى المكان الحساس الذي يمسك به أحد الموجودين ويقطع منه جزءاً لتندفع الدماء وتملأ المكان والشاشة. أذيع الفيلم في اليوم الثاني لمؤتمر السكان والتنمية الذي عقد في القاهرة يوم 3 أيلول سبتمبر الماضي وأحدث عرضه ضجة كبيرة وألقت الشرطة القبض على "الجناة" وبينهم والد الطفلة الذي بينت التحقيقات ان حلاقاً اتفق معه على اجراء عملية الختان لابنته وان مراسلة للشبكة الأميركية في القاهرة اتفقت عبر عمتها مع بائع ورد وسباك على تصوير عملية الختان لأي فتاة مصرية واتفق الرجلان مع الحلاق الذي نجح في اتمام الاتفاق مع والد الفتاة. وقالت أم الطفلة نجلاء وتدعى صباح عبدالحميد ل "الوسط": "لم تكن تعرف أنهم يصورون العملية لعرضها على شاشة التلفزيون الأميركي وهم قالوا انهم يصورون برنامجاً للتلفزيون المصري عن العادات والتقاليد المصرية".