وظائف للأذكياء فقط في إدارة ترمب !    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    زيلينسكي يقول إن "الحرب ستنتهي بشكل أسرع" في ظل رئاسة ترامب    ترامب ينشئ مجلسا وطنيا للطاقة ويعين دوغ بورغوم رئيسا له    إسبانيا تفوز على الدنمارك وتتأهل لدور الثمانية بدوري أمم أوروبا    "أخضر الشاطئية" يتغلب على ألمانيا في نيوم    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تراجع    "سدايا" تنشر ورقتين علميتين في المؤتمر العالمي (emnlp)    نيوم: بدء تخطيط وتصميم أحياء «ذا لاين» في أوائل 2025    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    لجنة وزارية سعودية - فرنسية تناقش منجزات العلا    نجاح قياس الأوزان لجميع الملاكمين واكتمال الاستعدادات النهائية لانطلاق نزال "Latino Night" ..    اختتام مزاد نادي الصقور السعودي 2024 بمبيعات قاربت 6 ملايين ريال    "الشؤون الإسلامية" تختتم مسابقة القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في غانا    منع استخدام رموز وشعارات الدول تجارياً في السعودية    منتخب مصر يعلن إصابة لاعبه محمد شحاتة    الأمير محمد بن سلمان.. رؤية شاملة لبناء دولة حديثة    ابن جفين: فخورون بما يقدمه اتحاد الفروسية    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    رتال تختتم مشاركتها كراعٍ ماسي في سيتي سكيب بإطلاق حزمة مشاريع نوعية بقيمة 14 مليار ريال وتوقيع 11 اتفاقية    بعثة الاخضر تصل الى جاكرتا استعداداً لمواجهة اندونيسيا    القوات الجوية السعودية تختتم مشاركتها في معرض البحرين الدولي للطيران    جدة تشهد أفراح آل قسقس وآل جلمود    إحباط تهريب 380 كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    القمر البدر العملاق الأخير    تركي آل الشيخ يعلن القائمة الطويلة للأعمال المنافسة في جائزة القلم الذهبي    قادة الصحة العالمية يجتمعون في المملكة لضمان بقاء "الكنز الثمين" للمضادات الحيوية للأجيال القادمة    المملكة تواصل توزيع الكفالات الشهرية على فئة الأيتام في الأردن    فريق قوة عطاء التطوعي ينظم مبادرة "خليك صحي" للتوعية بمرض السكري بالشراكة مع فريق الوعي الصحي    جامعة أمّ القرى تحصل على جائزة تجربة العميل التعليمية السعودية    خطيب المسجد النبوي : سنة الله في الخلق أنه لا يغير حال قوم إلا بسبب من أنفسهم    ميقاتي: أولوية حكومة لبنان هي تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701    خطيب المسجد الحرام: من ملك لسانه فقد ملك أمرَه وأحكمَه وضبَطَه    "الخبر" تستضيف خبراء لحماية الأطفال من العنف.. الأحد    ليس الدماغ فقط.. حتى البنكرياس يتذكر !    قتل أسرة وحرق منزلها    أمريكا.. اكتشاف حالات جديدة مصابة بعدوى الإشريكية القولونية    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    الخرائط الذهنية    «قمة الرياض».. إرادة عربية إسلامية لتغيير المشهد الدولي    لماذا فاز ترمب؟    «السوق المالية»: تمكين مؤسسات السوق من فتح «الحسابات المجمعة» لعملائها    مدارسنا بين سندان التمكين ومطرقة التميز    الشؤون الإسلامية في منطقة جازان تقيم مبادرة توعوية تثقيفية لبيان خطر الفساد وأهمية حماية النزاهة    في أي مرتبة أنتم؟    الشؤون الإسلامية بجازان تواصل تنظيم دروسها العلمية بثلاث مُحافظات بالمنطقة    باندورا وعلبة الأمل    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع منصور الرحباني بحثاً عن الزمن الضائع : ما الذي يبقى من الاسطورة الرحبانية ؟ بريق قديم وقصص صغيرة تشردها الريح
نشر في الحياة يوم 02 - 08 - 1993

بعد سنوات من الصمت، يعود الفنان منصور الرحباني الى دائرة الضوء بمناسبة افتتاح "الوصيّة"، عمله الغنائي الجديد، على خشبة مسرح "أدونيس" شمالي بيروت. الاوبريت من تأليف منصور وتلحينه، عن فكرة للشاعر عبدالله الاخطل. وهي عمله الرابع منذ رحيل عاصي شقيقه و"توأمه الروحي"، وانهيار مؤسسة فنية عريقة تحولت اليوم الى اسطورة. "الوسط" رأت في الحدث فرصة مواتية للقيام بجولة في الذاكرة الرحبانية، وهي اشبه بپ"عالم بلا اعمار"، يزينه صوت فيروز ويخيم عليه طيف عاصي الذي مرّت ذكرى وفاته قبل اسابيع، دون ضجة تذكر.
ولد منصور الرحباني سنة 1925 بعد سنة و11 شهراً على ولادة اخيه البكر، عاصي، وكانت ولادته في بيت قديم في انطلياس، حين كانت قرية ساحلية تتصل بالبحر القريب اتصالها بجبل صنين الذي تقوم اسفل سفحه ويعيش أهلها على زراعة جنائنية، على مبعدة حوالي 8 كلم شمال شرق مدينة بيروت.
لم تبق لمنصور من حياته في ذلك البيت القديم اية ذكرى، لأن والده باعه قبل انقضاء سنوات طفولته الاولى. اما البيت العائلي الاول الذي يتذكره فهو الذي انتقلت العائلة اليه، وكان مؤلفاً من غرفة نوم ودار لم يكتمل بناؤهما الى جانب غرفتين بفيتا غير مسقوفتين، فضلاً عن غرفة عليا يصعد اليها سلم خشبي عتيق. لكن لا هذا البيت ولا غيره من البيوت التي اقامت فيها العائلة في انطلياس ترسخت صور منها في ذاكرة منصور الرحباني الطفل والصبي، الذي يذكر انه وأخاه عاصي كانا يقضيان معظم اوقات النهار في "مقهى فوار انطلياس". وهو المقهى الذي كان والدهما يملكه ويحول دون اختلاطهما بالناس والاولاد من زبائنه، فيعزلهما عنهم في غرفة صغيرة سطحها من قرميد وتقوم فوق المقهى.
والآن كثيراً ما يتذكر منصور سقف غرفة العزلة، حيث يقضي مع اخيه الوقت كله يراقبان زوار المقهى وزبائنه الذين كان الوالد يخاف عليهما منهم ومن نفسه ومهنته، هو الذي كان شديد الحرص على صحتهما البدنية ولا يكترث بمواظبتهما على الذهاب الى المدرسة لتحصيل العلم. ولربما كان يخاف عليهما من ماضيه ومن مهنته كصاحب مقهى فعزلهما عن اجوائه، هو الذي عاش فترة من شبابه قبضاياً طافراً برفقة غيره من قطاع الطرق النهابين، قبل زواجه واستقراره في انطلياس وشرائه المقهى الذي جعل اصدقاؤه القدامى من "الطفّار" والقبضايات يرتادونه احياناً فيغنون ويستعيدون ذكريات ايامهم الخوالي. ومن هؤلاء من كان ما يزال آنذاك يعيش طافراً متمرساً في "مهنة" القبضايات وتقاليدها وعاداتها التي لابست طبع حنا عاصي الرحباني، والد الاخوين، ومسلكه فجعلت منه شخصية غير منسجمة، بل منقسمة على نفسها، لشدة تناقض القيم والرغبات التي نشأ عليها.
كان حنا عاصي الرحباني صاحب مزاج وسطوة في حياته العائلية الخاصة والاجتماعية العامة. وبقدر ما كان حنوناً ومتسامحاً وليناً كان غضوباً ومشاكساً وعنيفاً اذا ما عكر صفو مزاجه ادنى امر عارض، فيخرج سريعاً عن طوره. لكنه في المقابل سريعاً ما كان يستعيد هدوءه وتسامحه كأن شيئاً لم يكن. انه على الارجح طبع من نشأ وحيداً غريباً ومن اورثه اضطراب مساره العائلي - الاجتماعي وتكسره عادة التأرجح بين حدي الخروج على سوية اجتماعية ومهنية متصلة وبين الانخراط بصعوبة او مرغماً في ادوارها ومتطلباتها.
والدا حنا عاصي الرحباني الارثوذكسيان كانا هاجرا من بلدة ضهور الشوير الى مصر هرباً من المذابح الطائفية التي عصفت بجبل لبنان عام 1860، فولد حنا في طنطا وأمضى سنوات صباه فيها، قبل ان يعود الى بيروت ويعمل في متجر مجوهرات اقربائه في سوق الصاغة، وربما حملته وحشته وشقاوته وانقطاعه عن اهله على السير في ركاب عصبة من قطاع الطرق النهابين في منطقة ضهر البيدر، فقاده تشرده وهربه من وجه العدالة العثمانية الى انطلياس فاشترى مقهى فوّارها واقترن بفتاة من عائلاتها تدعى سعدى صعب تصغره بحوالي 40 سنة. فكيف للذي كان هذا مساره ان يندرج في سوية اجتماعية لها قيمها وتقاليدها المتماسكة الراسخة؟!
مقهى "الفوار" وقبضاياته
جعل حنا عاصي الرحباني من مقهى الفوار ملتقى ومحطة لپ"الطيّاح" او "الطفّار" اي الاشقياء الفارين من وجه العدالة والقبضايات ومحبي اللهو والطرب من صحبه الذين يذكر منهم ابنه منصور احمد الكجك، وأبو راشد دوغان، وعبدالسلام فرغل، والياس الحلبي، وعازفي البزق المشهورين آنذاك محيي الدين ابو عيون وزكور جمال اللذين ورث الاخوان رحباني عنهما آلتي بزق ما يزال نغم اوتارهما في مقهى الفوار القديم يرن في سمع منصور مختلطاً بأصوات القبضايات واخبارهم التي كانوا يرونها في عتمات ليال لم تكن تعرف نور الكهرباء: اطلقت النار على فلان… جنود الاتراك اطلقوا النار علي، هربنا من ذلك الجرد، مررنا في الوعر… فيما كانت اغنيات لسيد درويش وأم كلثوم وأبو العلا محمد ومحمد عبدالوهاب تتخلل تلك السهرات الطويلة. اما في النهار فكانت تؤم المقهى "عائلات محترمة" على افرادها "الكرام"، بحسب ما كتب على لافتة كانت تستقبل الزبائن على المدخل، ان "تقترن اساليب سرورهم بالحشمة ومكارم الاخلاق"، فلا يتورطون في ما "يخل بالآداب". وعلى لافتة اخرى كتب باللغة الفرنسية: "الرقص ممنوع، وخصوصاً رقص الجنسين". وكان حنا عاصي الرحباني يقيم بين كل عائلة واخرى من رواد مقهاه ساتراً يحجب الانظار ويحول دون الاختلاط، الامر الذي حمل ابناء العائلات البيروتية المحافظة على القول لنسائهن: "اذهبن وحدكن الى حنا عاصي الرحباني في مقهى الفوار".
قليلة هي المرات التي سمح فيها حنا عاصي الرحباني لابنيه الصغيرين بالابتعاد عن المقهى لأن المنطقة المحيطة كانت برية وعرة. كان يخاف عليهما من مياه النهر الجارية في الوادي. ويذكر منصور ان والده حطم مرة طاولات المقهى ورماها في النهر لأن دبوراً لسع عاصي في اثناء نزهة لهما في الجوار القريب. هي العزلة في تلك الغرفة العالية من المقهى كانت، اذن، عالم الاخوين الصغيرين في طفولتهما وسنوات صباهما الاولى. لذا كان السمع والبصر والتخييل سبيلهما للاتصال بالعالم الخارجي: حكايات القبضايات، انغام أوتار البزق، اغنيات الطرب القديم، استراق النظر الى السيدات اللواتي كن يتمشين بعد خروجهن من السيارات ودخولهن الى المقهى… ومخيلة عاصي الرحباني التي لم تكن تكف عن اختراع حكايات عن اناس لا يكبرون وعن عوالم بعيدة يعيش الناس فيها بلا اعمار. اما المدرسة، وهي مدرسة راهبات كان يديرها خليل شاهين ابي فاضل، فكانت قريبة من المقهى ويذهب اليها الاخوان برفقة واحد من الخدم.
منصور كان كسولاً وكثير الهرب من المدرسة ومولعاً بالنظر الى شاحنات كانت تمر على الطريق العام القريب ناقلة الترابة الاسمنت من شكا الى بيروت. وحين كانت تمطر كان يجهش بالبكاء لانه يحسب ان طوفاناً قد غمر الدنيا، فيطلب من الراهبة ان تدعه يرى اخاه عاصي الذي كان في صف آخر.
من انطلياس الى الاذاعة
في تلك الفترة كانت العائلة تعيش في يسر ما لبث عهده ان انقضى وانقلب الى حال من البؤس فباع رب العائلة مقهى الفوار وانتقل بعائلته الى المنيبيع بالقرب من ضهور الشوير، حيث افتتح مقهى صغيراً هناك. وحالة البؤس المادي تلك ادت الى توتر حياة العائلة التي صارت تتألف، الى عاصي ومنصور، من سلوى وناديا والياس والهام، اضافة الى جدة هؤلاء الابناء لوالدتهم. هذا التوتر زاد من حدة طبع حنا عاصي الرحباني ومن مشاجراته مع زوجته ووالدتها التي كانت قوية البأس و"ضرّيبة عصا" محترفة، فهي جردية الاصل من مواليد قرية عينطورة في جبل صنين. ومثل نار في هشيم كانت تشتعل في شجاراتها مع زوج ابنتها، لكنها في المقابل كانت تشاركه عمله في المقهى. ويعتبر منصور الرحباني ان للجدة أثراً كبيراً في اغناء مخيلته ومخيلة أخيه البكر عاصي. فهي بثت فيهما روح الفولكلور الجبلي وتراثه: من حكايات الجن والمكارين الى اخبار السهل سهل البقاع حيث كانت تقيم احياناً، الى قصص المهربين والنواطير، الى المشاجرات القروية بسبب الحصول على مياه الري، الى انشادها القرادي والعتابا وألوان الزجل... هذا فضلاً عن كونها "اخت الرجال"، كما ذكر حفيدها منصور.
في المنيبيع الواقعة بين بكفيا وضهور الشوير وحملايا والمياسي، انشأ حنا عاصي الرحباني مقهى صغيراً، بينما ظلت عائلته تقيم في انطلياس قبل ان تنتقل للاقامة في بكفيا، هناك خرج الاخوان رحباني من عزلتهما السابقة في غرفة مقهى الفوار العالية الى عزلة جديدة في الطبيعة والهواء الطلق. وذلك في فصول الصيف التي كانا يقضيانها يساعدان والدهما في مقهاه الجديد، بعيداً عن العائلة. كان لهما من العمر آنذاك 11 - 13 سنة. هناك "عشنا في عزلة كبيرة"، قال منصور، "حيث كنا نقضي ساعات متأملين في صمت حركة النمل الدؤوبة". فالاخوان اللذان غادرا الطفولة الى الصبا تركهما والدهما وشأنهما في الابتعاد عن رقابته، فانطلقا على الدروب الجبلية يشردان برفقة رعاة الماعز والحطابين والعاملين في مقالع الحجارة والمكارين وبغالهم والكرامين في كرومهم. ثم لم يلبثا ان اقاما سنة كاملة في بكفيا وتعلما في احدى مدارسها، فأبدى المدرس فيكتور ابو رحال اعجابه بمواضيع الانشاء العربية التي كان يكتبها منصور. واستمر حال العائلة على هذا النحو حتى اواخر الثلاثينات، فباع حنا عاصي الرحباني مقهاه في المنيبيع وعاد للاقامة في انطلياس حيث افتتح دكاناً صغيرة في ساحتها.
لم يكمل الاخوان رحباني تحصيلهما العلمي. عاصي امتهن التعليم وجعل يدرّس في انطلياس ومنصور ظل يساعد والده في الدكان. كان الوالد امياً ويحفظ اشعاراً كثيرة من ديوان عنترة. اما إبناه فمالا الى قراءة الشعر المحدث ومنه أشعار غنطوس الرامي وقبلان مكرزل من انطلياس. عاصي ما لبث ان ترك التدريس وعُين شرطياً في بلدية انطلياس، أما منصور فعُين سنة 1943 في شرطة بيروت. وفي هذه الاثناء بدأت اجواء الحياة الاجتماعية في انطلياس تتبدل. ومن ذلك وفادة الاب بولس الاشقر الى البلدة وتأسيسه جوقة فنية من شبانها وشاباتها تعنى بالترتيل والموسيقى، فانتسب منصور الى هذه الجوقة التي لم يُقبل عاصي عضواً فيها لرداءة صوته، فجعل يتردد على حلقات الجوقة ودروسها كمستمع غير مشارك، الى أن اكتشف الاب الاشقر نباهته في استيعاب الدروس الموسيقية، فأدخله في عضوية الجوقة. ويذكر منصور أنه وأخاه تتلمذا مدة سنوات ست على الاب بوليس الاشقر اداء وموسيقى. وفي غضون ذلك نشأ في انطلياس ناد ثقافي اجتماعي رياضي كان الاخوان في عداد العاملين فيه، فقدما عروضاً مسرحية من فصل واحد مثل "تاجر حرب" وغيرها، وتألفت فرقة مسرحية محلية اطلق عليها أهل البلدة اسم "فرقة اولاد الرحباني" وانتشر صيتها في البلدات المجاورة. وفي هذا السياق فاتنا ان نذكر ان الاخوين كانا شاركا في إعداد جريدة فنية - ثقافية مدرسية كتبا فيها الزجل والشعر والحكايات الفكاهية.
بعد وفاة الوالد حنا عاصي الرحباني ازدادت احوال عائلته المادية سوءاً، ما دفع بمنصور الرحباني الى التفكير في دخول سلك الرهبنة، بعد ان كان مولعاً بالسحر والتنويم المغناطيسي وضليعاً في فنونهما الى حد انه تسلل ليلاً الى مبنى نادي انطلياس للكشف على الادوات التي استخدمها مهرج أقام حفلات سحر في النادي، وإلى حد حمله ايضاً على متابعة اخبار الداهشية نسبة الى الدكتور داهش الشهير وحلقاتها، فضلاً عن أنه في اثناء حراسته للمساجين بصفته شرطياً عمل على تنويمهم مغناطيسياً. اما شقيقه البكر عاصي فجعل يعمل، الى جانب كونه شرطياً في بلدية انطلياس، عازف كمان ليلياً في مقاهي الزيتونة ومطاعمها.
حدث هذا كله قبل ان يتقدم الاخوان رحباني للعمل في الاذاعة اللبنانية التي كانت تسمى "اذاعة الشرق" في اواخر الاربعينات، فتم قبولهما في عداد عازفي فرقتها الموسيقية. لكن كلام اغنياتهما الجبلي غير الملائم للذوق الغنائي السائذ آنذاك حال دون قبول مطربات الاذاعة القيام بأداء تلك الاغاني القصيرة، فاستمرا في متابعة تلقي دروس موسيقية في الاكاديمية اللبنانية - الفرنسية على برتينان دوبييار، الى ان ساعدهما فؤاد قاسم احد موظفي الاذاعة المقربين من رياض الصلح والمتعصب لادخاله اللهجة اللبنانية الى الغناء في ادخال اغنياتهما في برامج الاذاعة، فأحضرا شقيقتهما سلوى للقيام بأدائها، بعد ان اطلقا عليها اسماً فنياً نجوى، عرفت به كمغنية حتى اعتزالها الغناء وزواجها من عبدالله الخوري نجل الشاعر المعروف بشارة الخوري وهو لقب نفسه "عبدالله الاخطل" تيمناً بوالده الذي اشتهر ب "الاخطل الصغير".
استمر عمل الاخوين رحباني في الاذاعة على هذا المنوال حتى انتقال اذاعة "الشرق الادنى" من فلسطين الى قبرص بسبب حرب 1948. وبمبادرة من صبري الشريف احد المشرفين على البرامج الفنية في تلك الاذاعة، انشئ مكتب لها في بيروت تجمعت فيه نخبة من الفنانين والموسيقيين اللبنانيين، منهم الاخوان رحباني. لكن "اذاعة الشرق الادنى" التي كانت تبث برامجها من قبرص ما لبثت ان توقفت، فاستقطبت اذاعة بيروت معظم العاملين فيها ومن هؤلاء صبري الشريف الفلسطيني الاصل المتزوج من مصرية والحائز على الجنسية اللبنانية، وحليم الرومي الذي تزوج من لبنانية وعمل طيلة حياته في التلحين للاذاعة اللبنانية، وغيرهما كثير.
اللقاء مع فيروز...
سنة 1952، لم يكن أحد يحدس او يتوقع ان يمهد لقاء عاصي ومنصور الرحباني، العاملين في الفرقة الموسيقىة للاذاعة اللبنانية، بنهاد حداد، احدى منشدات كورس تلك الاذاعة، لولادة ظاهرة، بل ومؤسسة فنية مثلثة الاركان كُتب لها ان تكون من أهم الظواهر الفنية المؤثرة في لبنان والعالم العربي.
فلا عاصي الرحباني ولا شقيقه منصور توقعا ذلك، ولا نهاد حداد "الصبية الريفية الخجول" حدست او توقعت. وشأن الثلاثة في ذلك شأن حليم الرومي الذي سعى الى تعارفهم في مبنى الاذاعة، والذي اطلق على نهاد اسماً فنياً فدعاها "فيروز"، بعد ان كانت عُرفت قبل ذلك باسم "يولا" او "فتاة الجبل". ومهما حاول كثيرون، ومنهم منصور الرحباني، التقليل من اهمية ذلك اللقاء - التعارف وما آل اليه ونجم عنه على مدى زمني يتجاوز ربع قرن من السنوات، فإنه يبقى علامة بارزة في تدشين مسيرة فنية نجومية جديدة في عالم الفن لكل من الاخوين رحباني وفيروز. مسيرة لا يمكن الفصل بين اركانها الثلاثة، على الرغم مما آلت اليه علاقة كل منهم بالآخر من تمزق درامي ابتداء من مرض عاصي الرحباني وتعطل دوره الفاعل وانفصاله مع اخيه عائلياً وفنياً عن فيروز قبل سنوات من وفاته.
فما هي، اذن، المحطات الاساسية في تلك المسيرة الفنية للظاهرة او للمؤسسة الرحبانية - الفيروزية التي انطلقت مطلع الخمسينات؟
بدأت تلك الظاهرة - المؤسسة المثلثة الاركان نشاطها في وقت توسع النشاط الاذاعي وانتشار اجهزة الراديو في المدن والارياف، وانطلاق توزيع الاسطوانات. فالاذاعة اللبنانية نشأت فعلياً إبان الاستقلال 1943، و"اذاعة الشرق الادنى" توسعت نشاطاً وتأثيراً بعد نكبة فلسطين في العام نفسه، واذاعة دمشق كانت بدأت بثها قبل ذلك العام بمدة قصيرة. أما اللون الغنائي الذي كان مسيطراً على اذواق الفئات المتوسطة والشعبية العربية، فكان مزيجاً من البدوي والمصري. وكان معظم كلمات الاغاني تقريراً مباشراً، كلام عن العزول والحسود والوصال مع شيء من البكاء والندب... من دون ان تقل مدة الاغنية على نصف الساعة.
البداية من الصفر
الاخوان رحباني، كما قال منصور، بدآ حياتهما الفنية معتبرين ان "ليس لدينا موسيقى وليس لدينا كلمات أغنية، وعلينا ان نبدأ من الصفر. اي من التركيب والاختبار ودمج كثرة من الألوان للخروج بلون غنائي جديد. وكانت عناصر ذلك التركيب مستمدة من كافة انواع الموسيقى التي تقع في سمعهما من ايقاعات الفولكلور المحلي، الى الموسيقى الشعبية العفوية، الى الموسيقى الاوروبية التي كانت تصل اما مسجلة على اسطوانات واما عبر الاذاعات…" وربما تكون هذه الاخيرة المرجع الغالب في ذلك التركيب. فالأخوان رحباني، في بدايتهما الفنية، قاما باعادة توزيع مئات من الاغنيات الاجنبية ووضعا لها كلاماً عربياً باللهجة اللبنانية، وصبري الشريف الذي وضع امكانات اذاعة الشرق الأدنى في تصرفهما، كان يبحث عن العازفين الموسيقيين المهرة في حانات الزيتونة التي كانت تحوي كثرة من العازفين العالميين آنذاك، فيتعاقد معهم ويؤلف منهم أوركسترا تقوم بالتنفيذ الموسيقي الذي كان الأخوان يترجمانه عن الموسيقى الاجنبية ويعيدان توزيعه كألحان لأغنيات عربية غنتها فيروز ولاقت رواجاً. فأغنيات مثل "نحن والقمر جيران"، و"هيك مشق الزعرورة"، "البنت الشلبية"، "ميل يا غزيل" وغيرها، كان المستمعون يحسبون ان موسيقاها مستمدة من التراث الفولكلوري المحلي، لكن الحقيقة ان الحان هذه الاغنيات مأخوذة من موسيقى أجنبية معاد توزيعها رحبانياً، من دون ان تتجاوز مدة الاغنية الواحدة منها الدقائق العشر.
هكذا بدأت الظاهرة الرحبانية - الفيروزية تعاكس الذوق الفني السائد في الغناء، كلاماً وموسيقى، وذلك من اذاعات ثلاث: اذاعة بيروت، الشرق الأدنى، ودمشق. لكن ذلك لم يحصل من دون ان يلقى موجةً من الاستياء. فأغنية "عتاب" التي أعدت للاذاعة اللبنانية ولم تشتهر الا بعد بثها من اذاعة دمشق، أثارت موجة من السخط في أوساط العاصمة السورية، هي والاسكتشات التي بثتها الاذاعة المذكورة بتسهيل كل من أحمد عسلي ونشأت التغلبي اللذين فتحا ابواب الاذاعة السورية للأخوين رحباني وفيروز وفيلمون وهبي ونصري شمس الدين. وكان على رأس موجة السخط تلك كل من "المجمع العلمي" ومجلس النواب في دمشق اللذين اعتبرا ان ما قدمه الرحبانيان وفيروز يشوه اللغة العربية والذوق العام.
وفي سنة 1955 انطلقت من اذاعة القاهرة مغناة "راجعون" الاذاعية الشهيرة التي حملت لواء القضية الفلسطينية، فأضافت الى رصيد الرحبانيين وفيروز بعداً جديداً. وذلك قبل انطلاقتهم في ميدان المسرح الغنائي ضمن مهرجانات بعلبك الدولية سنة 1957.
ماذا يبقى من بعلبك؟!
كان تأسيس "لجنة مهرجانات بعلبك الدولية" في العام 1956 يكني في وجه من وجوهه عن ميل الى "لبننة" النشاطات والعروض الفنية التي كانت تقدم بين وقت وآخر في قلعة بعلبك منذ العام 1922، وجعلها متنوعة لتستقطب جمهوراً جديداً واسعاً، بعد أن كانت كلها العروض والمهرجانات ناطقة باللغة الفرنسية وتم البدء في احيائها بمبادرة من فرنسيين تؤازرهم نخبة لبنانية متفرنسة. هكذا جاء ادراج برنامج "الليالي اللبنانية" الغنائي الفولكلوري في برامج المهرجانات المذكورة ابتداء من العام 1957، ليؤكد هذا الميل ويحققه. وبحسب الفنان توفيق الباشا ادرجت "الليالي اللبنانية" في مهرجانات بعلبك بعد تدخل زلفا كميل شمعون، زوجة رئيس الجمهورية آنذاك، وضغطها على لجنة المهرجانات. اما منصور الرحباني فذكر ان حبيب ابو شهلا استدعاه وأخاه عاصي وبحث معهما في احياء "ليال لبنانية" لكسر سيطرة البرامج الفنية الأجنبية، وتالياً حدث تدخل الرئيس شمعون وزوجته زلفا محرضين ومشجعين. ومما قاله الرئيس للأخوين مازحاً: كنتيجة لما تقدمانه في بعلبك "يا بنيشنكم، اي نضع على صدريكما أوسمة ونياشين، يا بنيشنكم، اي نعدمكما رمياً بالرصاص، في حال اخفاقكما".
وقدم الأخوان رحباني وفيروز البرنامج الغنائي الفولكلوري الأول الناطق بالعربية في مهرجانات بعلبك الدولية للعام 1957. وكان عنوانه "ايام الحصاد" وهو رقصات فولكلورية تخللتها اغنيات من فيروز، منها "لبنان يا أخضر حلو". وفي الحقيقية لم تكتم لجنة المهرجانات آنذاك غيظها وتذمرها من تقديم هذا البرنامج في المهرجانات الدولية، ظناً من اعضائها ان "الاغنيات ستطول وستمزق المناديل وسط نحيب الجمهور"، بحسب ما أورد مفيد ابو مراد في كتابه عن مسرح الاخوين رحباني، نقلاً عن احدى عضوات اللجنة.
لكن برنامج "الليالي اللبنانية" الذي دشنه الرحبانيان وفيروز في بعلبك لم يلبث ان أسفر عن بروز امكانات الثلاثة ومثابرتهما على اعداد اعمال فرضت نفسها ونالت رضى اللجنة وبدأت تستقطب جمهوراً واسعاً. فبين العام 1960 والعام 1966 لم يغب الرحبانيان عن بعلبك الا في موسم واحد، بسبب احيائهما، وللمرة الاولى، مهرجانات الأرز الدولية في العام 1964. وفي غضون ذلك تحولت عروض الليالي اللبنانية الى احتفال يتوافد الى حضوره حشود من اللبنانيين والسوريين والمصطافين العرب والأجانب، وفي تلك الليالي العشر كانت أرتال السيارات وأضواؤها والغبار الخفيف تملأ الطريق الذي يخترق سهل البقاع بين بعلبك وشتورا ورياق وزحلة وصولاً الى ظهر البيدر، حتى ساعات متأخرة من الليل.
"كنا سعيدين في تلك اللحظات"، قال منصور، "والسعادة تلك كانت كناية عن ومضة كهربائية عابرة كنا نعيش تحت تأثيرها فترة طويلة. فهي تشبه حصاة صغيرة تسقط على صفحة مياه راكدة فتغرق فجأة الى القعر، فيما تستمر التموجات فترة أطول على صفحة المياه. كانت سعادتنا تبدأ حين نشرع في كتابة العمل وتبلغ ذروتها حين نراه مجسداً على أدراج القلعة التاريخية. آنذاك يميل العمل الى ان يصير من الماضي. لكن الحزن والبؤس يبدآن في حفلة الليلة الأخيرة، بعد ان يخرج الناس وتفرغ القلعة منهم، فنبقى، عاصي وأنا وبعض العاملين، وحيدين مع الملابس والديكور والكراسي الفارغة وأصداء الليالي التي مرت سريعاً مثل حلم. عندها كان علينا ان نعود الى عزلتنا ومشاكلنا اليومية الصغيرة… لكن ذلك كله لم يفضِ بنا الى غير القلق والتفكير بالعمل القادم… فما الذي يبقى، اذن من الرواية؟! قصص صغيرة تشردها الريح؟!".
أول ظهور للأخوين رحباني وفيروز في العاصمة بيروت، قبل ظهورهم الموسمي على مسرح قصر البيكاديللي في شارع الحمراء حدث في 29 كانون الاول ديسمبر من العام 1962، على مسرح سينما كابيتول في ساحة رياض الصلح في وسط بيروت التجاري. كان ذلك في مناسبة عيد الاستقلال الذي تحول الاحتفال به الى "مسيرات على انغام موسيقى الجيش اللبناني في شوارع بيروت" في أعقاب فشل محاولة انقلاب القوميين السوريين على الرئيس فؤاد شهاب. وفي ذلك النهار ظهرت فيروز على مسرح السينما المذكورة، ضمن برنامج فني عنوانه "يوم الوفاء"، منشدة أغنية "سالم غفيان مش بردان… نايم ع تلي ومغطى بعلم لبنان"، كاشارة الى شهداء الجيش اللبناني الذي مجدته تمثيلية "عودة العسكر" الرحبانية، فأنشدت فيروز في نهايتها أغنية: "عافا يا عسكر لبنان/ يا بو الزنود القوية/ بتتغاوى أرزة لبنان/ فوق جبال الحرية".
"منذ البداية قررنا أنا وعاصي"، يقول منصور، "ألا نمدح غير الأرض والشعب والأوطان والانسان، من دون ان نقبل هدايا وتقديمات. لقد تعرضنا بسبب سلوكنا هذا الى احراجات كثيرة في اثناء رحلاتنا الفنية الى الخارج. حدث ذلك في ايران ايام الشاه وفي تونس بورقيبة. والحاج حسين العويني حاول الوقوف في وجهنا لأننا رفضنا الانحراف عن هذا السلوك الذي كنا نتبعه ثأراً من تاريخ الذل والعار الذي وقع فيه كثرة من الشعراء والفنانين، منذ ايام الخلفاء وحتى الآن".
لبنان الاخوين رحباني
في الستينات أرست الظاهرة الرحبانية - الفيروزية مسار تحولها الى "مؤسسة" فنية نجومية استقطابية متعددة النشاطات ومتنوعة الحضور: غناء واسكتشات اذاعية، برامج تلفزيونية، عروض مسرحية غنائية موسمية في بعلبك والارز ودمشق وبيروت، انتاج سينمائي بالتعاون مع يوسف شاهين وهنري بركات بياع الخواتم، سفر برلك، الفيلم الاول كان اول فيلم سينمائي عربي يعرض في صالات شارع الحمراء في بيروت صيف العام 1965، فضلاً عن تقديم برامج غنائية ضخمة في عواصم عربية الجزائر، تونس، مصر، المغرب وعالمية نيويورك، باريس.
طيلة هذه السنوات وحتى العام 1974 لم تهدأ نشاطات المؤسسة الرحبانية التي اعتبر كثيرون انها وحدها تمثل لبنان الذي ارتبط اسمه ارتباطاً وثيقاً لا تنفصم عراه بنجوميتها، الى الحد الذي حمل سعيد عقل على اطلاق لقب "سفيرة لبنان الى النجوم" على فيروز، وحمل أنسي الحاج من بعده على اطلاق عبارة "لبنان الأخوين رحباني". فيما كتب نشأت التغلبي، في معرض تحسره على لبنان الذي دمرته الحرب، اننا كنا في زمن السلم نعيش فيه "العصر الرحباني". ذلك من دون ان يدرك الأخوان "أهمية ما كانا يقومان به" في تلك السنوات. فعاصي الرحباني، بحسب نظرة أنسي الحاج لشخصيته، كان كثيراً ما يصاب بموجات من التواضع والدروشة، فيأخذ تواضعه هذا طابع الشك في ذاته، فيقول: "كفى كتابة عنا، انا رجل تافه، ولست سوى زجال يكتب الاغاني". لكنه في احيان اخرى كان يعتبر ان جميع الفنانين سواه تافهون. فهو كان يكتب مسرحية كاملة في ليلة واحدة. وباعتراف منصور ان وجهة عاصي الفنية هي التي انتصرت وجرته الى احتراف المسرح الغنائي. فبعد نجاح الليالي اللبنانية في بعلبك ضيع منصور حلمه القديم الذي كان يراوده منذ بداية تعلمه الموسيقى: رغبته في ان يتجه الى التأليف الموسيقي السمفوني. لكنه في الحقيقة لا يأسف كثيراً على ضياع هذه الرغبة، لأنهما في عملهما المشترك أرسيا مسلكية فنية خاصة. فالموسيقى والشعر والصوت صوت فيروز كانت تشكل نصف العمل، اما نصفه الآخر فكان تلك المسلكية الفنية المتعالية او النبيلة" التي كرساها. ويعتبر منصور ان المسرح الرحباني الغنائي قام على مثلث من العناصر: الله، الأرض، والحبيب. والشخصية الأساسية في هذا المسرح لا تتطور لأنها تدرك، منذ البداية، أنها منذورة، وكأنها تبصر مصيرها المأسوي منذ البداية.
التوأم الثالث
الا تشبه هذه الشخصية في مأسويتها لبنان في تكونه كمجتمع وشعب ودولة؟ سألنا منصور.
"لا، لا أعتقد"، أجاب، لكنه اضاف ان "لبنان فيه شيء من الاستشهاد والمأسوية. فلبنان يعرف ان قدره ومصيره مأسويان. لذا يعيش اللبناني في قلق وتوتر أكثر من غيره". اما أنسي الحاج فيعتبر ان لبنان كما صوره الرحبانيان ينتسب الى الحلم اكثر من انتسابه الى الواقع.
هي العروض المسرحية الغنائية الموسمية ما جعل الأخوين رحباني وفيروز أقطاباً ثلاثة في مؤسسة فنية شهدت اندفاعة نجومية كبرى ما بين عامي 1960 و1975. ففي هذه السنوات قدم الاخوان رحباني مع فيروز حوالي 18 عملاً مسرحياً غنائياً بين بيروت ودمشق وبعلبك والأرز. وربما يكون عاصي هو القطب الأكثر فعالية في هذه الاعمال، كما ذكر منصور وضآلة الفرق في السن بين الأخوين جعلتهما ينشآن ويعيشان كتوأمين في الحياة والفن. وبحكم اقتران عاصي بفيروز سنة 1954 "انضاف الى التوأمين توأم ثالث"، فاقترنت الاسماء الثلاثة حتى بات يصعب الفصل بينها، بل يستحيل. عاصي ومنصور كانا صديقين اكثر منهما أخوين، كما ذكر منصور. والاغنيات الأولى للرحبانيين كتبها عاصي تحت الحاح حبه لفيروز كما ذكر أنسي الحاج. وفي سنوات صبا الأخوين ومراهقتهما الفنية كثيراً ما كان منصور يقلد عاصي في كتابة كراريس شعرية خاصة ينسخها بخط يده. وعندما كان عليهما ان يضعا اسماً على اول عمل فني قدماه كتبا على ذلك العمل بعفوية وبداهة ومن دون مناقشة "الاخوان رحباني". وهذا التوقيع ظل على حاله حتى الأمس القريب، يكتب بخط رفيع في اسفل الاعلانات، فلم يتصدر لا الافيشات ولا بطاقات الدخول الى اي من الاعمال الرحبانية - الفيروزية. لقد تركا صدر الاعلانات والافيشات لاسم فيروز بصفتها نجمة هذه الاعمال، ولانها كانت بصوتها، كما ذكر منصور، مؤدية رسالة الاخوين رحباني الى الناس والعالم. لكن منصور لم يقل ان ذلك من ضرورات صناعة النجوم، في الغناء والمسرح والسينما.
في التأليف الموسيقي وتأليف الشعر الغنائي كان الاخوان يتبادلان الادوار من دون سابق تصور وتصميم. وفيما ندر كانا يؤلفان سوياً. والمسرحيات الغنائية لم يكن موضوعها يحضر كاملاً مكتملاً منذ البداية، فلا يعرفان في اي اتجاه تقودهما الكتابة ولا متى وكيف ستنتهي. فليس لديهما آراء يريدان ايصالها، بل يقومان بتشكيل مناخات واجواء يحركان شخصياتهما في داخلها. احياناً كان عاصي يكتب الكتابة الاولى بعد نقاش ثنائي مشترك للمناخ العام للمسرحية، ثم يقوم منصور بالكتابة الثانية، واحياناً كان العكس يحصل.
في البداية اوكل الاخوان مهمة الاخراج المسرحي لصبري الشريف، ولاحقاً تولى برج فازليان هذه المهمة، لكن افكار عاصي الاخراجية هي التي كانت مسيطرة في الغالب. اما الدبكة فبدأت في مسرحهما من دون سابق تصور وتصميم، ابتداء من اعمالهما المحلية في نادي انطلياس، حيث كانت الدبكات تقدم كمادة خام، قبل ان تتبلور في المسرح الغنائي وتخضع للضبط والتهذيب والتصميم مع انشائهما الفرقة الشعبية اللبنانية سنة 1960، في اعقاب تعاونهما سنة 1957 مع مروان وبديعة جرار. اما عبدالحليم كركلا فكان في الاصل بطلاً في القفز، قبل ان يدخل راقصاً في الفرقة الشعبية اللبنانية ويتخرج منها ليشكل فرقة راقصة محترفة بدأت بالبروز على مستوى عالمي بعد تقديمها اعمالاً مستقلة. وربما يكون شأن عبدالحليم كركلا في الرقص كشأن الاخوين رحباني في الموسيقى والمسرح الغنائي. فهو، كما قال منصور، لم يأت الى الرقص من تدريبات مدرسية اكاديمية، بل من بعلبك واهل بعلبك الذين تعيش الدبكة في دمهم. اما العمل الاكاديمي والبحث والدرس فيأتي دورهما تالياً، مع السفر الى اوروبا حيث درس سنوات عدة.
مرارة النهايات
في صيف العام 1973، ما إن انتهت عروض مسرحية "قصيدة حب" في بعلبك حتى حزم الاخوان رحباني وفيروز امرهم وتوجهوا الى دمشق لبدء عرض مسرحية "المحطة" على مسرح "معرض دمشق الدولي". كانت الحدود اللبنانية - السورية مقفلة آنذاك نتيجة لاحداث بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية. لكن حضور مدير معرض دمشق الدولي الى بعلبك وتباحثه مع الاخوين رحباني اديا الى فتح الحدود، فغنت فيروز للمرة الخامسة والثمانين في دمشق وبدأ اللبنانيون القليلون هناك يغنون ويرقصون، فيما السوريون يرددون: "على وجه فيروز فتحت الحدود".
اما في بعلبك فكان عرض الليلة المجانية المخصصة لأهالي المنطقة وهو تقليد اتبعته لجنة المهرجانات الدولية في العروض المحلية منذ العام 1970 قد تحول الى احتفال شعبي صاخب بلغت فيه الفوضى اوجها. ففي تلك الليلة تمتلئ المقاعد كلها منذ الساعة الرابعة، فيما الواقفون على الادراج وفي الساحات داخل القلعة اكثر من الجالسين. ويصل حوالي 50 الف شخص بالشاحنات والباصات وسيارات الجيب، ويظلون حتى بعد بدء العرض واقفين على الطرقات خارج القلعة. اما الصبية والفتيان فكانوا يقفزون فوق الحواجز العالية ويدخلون خلسة. ذلك فضلاً عن نسوة ينتحين جانباً من معبد جوبيتير المواجه للمسرح حيث يطبخن ورق العنب على الفحم وسط دكاكين صغيرة مرتجلة لبيع المأكولات والمرطبات واللحم المشوي.
انه مشهد من العام 1973 الذي تحققت فيه توقعات لجنة مهرجانات بعلبك التي كان اعضاؤها خائفين عليها من ان تتحول الى مناسبة شعبية لا يمكن ضبطها والسيطرة عليها. هل كان هذا المشهد يشير الى ما ستؤول اليه حال لبنان ومهرجانات بعلبك وقلعتها، بعد سنوات قليلة؟
منذ العام 1972، بدأت "الدراما النجومية المسرحية" للاعمال الرحبانية - الفيروزية تتحول الى "دراما عائلية" بسبب اصابة عاصي الرحباني بجلطة دماغية حادة في الايام الاخيرة من ايلول سبتمبر ذلك العام. وعلى الرغم من مشاركة عاصي الطفيفة وغير الفعلية في الاعمال التي قدمت في اعقاب ذلك العام: "المحطة"، "قصيدة حب"، "لولو"، "ميس الريم"، ظلت المؤسسة الرحبانية - الفيروزية متماسكة الاركان، حتى اندلاع الحرب الاهلية في لبنان وانفراط لحمة هذه المؤسسة من الداخل على نحو دراماتيكي: فمنذ العام 1975 جعل عبدالحليم كركلا يقدم اعمالاً راقصة خاصة به. وعاصي الرحباني غرق في العام 1972 في صمته وذاكرته المفقودة، قبل ان تنفصل عنه فيروز عائلياً وعن منصور فنياً. واصحاب الادوار الرئيسية والثانوية الى جانب فيروز توزعوا كل في طريقه وعمله الخاص: نصري شمس الدين مات وهو يقدم احدى حفلاته الخاصة في دمشق فرثاه منصور الرحباني رثاءً مراً. فيلمون وهبة اختلف معپمنصور ثم مات مؤخراً… وجاء زمن زياد الرحباني الذي قدم مسرحية "شي فاشل" التي سخر فيها من تاريخ وارث والديه عاصي وفيروز المسرحي والغنائي.
اما محاولة منصور الرحباني التقاط انفاس المؤسسة الثلاثية بتقديم "المؤامرة مستمرة"، "الربيع السابع"، "صيف 1840" بتوقيع الاخوين رحباني، فمن الصعب علينا ان نلمح فيها ذلك البريق القديم الذي انقضى عهده. وفيروز بدورها حالت الحروب المتتالية دون رغبتها في استعادة بارقة من ذكريات "العصر الرحباني - الفيروزي" القديم عبر تقديمها حفلة واحدة في البيكاديللي - بيروت.
وفي مكتب الاخوين رحباني في شارع بدارو التقينا منصور الرحباني قبيل انتهاء الحرب في جلسات ثلاث لتسجيل ذكرياته، كان ظل عاصي الرحباني الغائب حاضراً. وكان ظل الحرب طاغياً يترصدنا من خشب الابواب والطاولات والموكيت والجدران والستائر، فلم اتجرأ ان اسأل محدثي: من اين اتى هذا الشحوب الى الاشياء، ولماذا لم يتوقف الزمن لتظل الاشياء في تألقها وزهوها وليظل الناس بلا اعمار، كما في اغنيات الرحابنة القديمة؟!
"الوصيّة" في سطور
خلافاً لعمل منصور الرحباني السابق، "صيف 1840"، 1987 الذي يستقي موضوعه من المادة التاريخية عامية إنطلياس، تدور أحداث "الوصية" في إطار معاصر، وضمن قالب أقرب الى الكوميديا منه الى الدراما الوطنية والنفس الملحمي. الحبكة في منتهى البساطة: سعد الله رجل سبعيني ثري وغير متزوج، أوصى أن يرثه أهله إذا عاش حتّى الثمانين، وأن تكون ثروته من نصيب جمعيات خيرية إذا توفاه الاجل قبل ذلك الحين... وأذيع سرّ وصيته، مما انعكس صراعاً بين أصحاب المصلحة في وصول سعدالله الى الثمانين، وبين من يريدون له الموت الفوري.
فكرة المسرحية، كما يحرص منصور على التذكير في كل مناسبة، ولدت خلال جلسة مع الشاعر عبدالله الاخطل أي عبدالله الخوري نجل الشاعر الشهير بشارة الذي عرف ب "الأخطل الصغير". أما الموسيقى، فتتنزه - حسب صاحبها - "بين الفولكلورية والتراثية، وصولاً الى الموسيقى الحديثة المنفتحة على كل التيارات المعاصرة". شاركه في التلحين والتوزيع شقيقه الفنان الياس الرحباني ونجلاه غدي وأسامة. يتقاسم بطولة العمل الجديد، كما في "صيف 1840"، كل من هدى وغسان صليبا. الملابس من تصميم كابي أبي راشد، الديكور لروجيه جلخ، الكوريغرافيا لوهيب عاصي، والاضاءة لعيسى سكاف. أما الاخراج، فيحمل توقيع المسرحي نقولا دانيال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.