عاد وارن كريستوفر وزير الخارجية الاميركي من رحلته الاخيرة الى منطقة الشرق الاوسط، وأدلى بتصريحات اعرب فيها عن تفاؤل حذر. فهل حقق فعلاً نتائج ملموسة يمكن ان تبرر هذا الموقف؟ وان كان الامر كذلك، فأين تكمن احتمالات حدوث انفراج في الازمة؟ ان اي تفاؤل قد يشيع في اوساط المفاوضين الاميركيين، انما يتعلق في ما يبدو بالتطورات على صعيد المفاوضات السورية - الاسرائيلية. فقد اعجب الاميركيون كثيراً بما ابداه الرئيس السوري حافظ الاسد من استعداد لاستخدام نفوذه لدى "حزب الله"، لاشاعة الاستقرار في جنوبلبنان. كذلك كان رد فعل الاسرائيليين ايجابياً تجاه هذا التطور، الى درجة ان مصدراً اميركياً قال ان اسحق رابين رئيس الوزراء الاسرائيلي "اثارته حقاً" هذه التطورات الجديدة. ولا يخفي رابين تحبيذه التعامل مع الأسد على التعامل مع الفلسطينيين، وهو ما ادى بطبيعة الحال الى ظهور بعض المخاوف من احتمال التوصل الى اتفاق سوري - اسرائيلي منفصل. لكن الجانب الاميركي لا يعتقد بأن مثل هذا الاتفاق امر محتمل، ويراوده الشك الى حد ما في ما يقال من ان حدوث تقدم على الجبهة السورية أولاً، كفيل بممارسة الضغط على الفلسطينيين لجعلهم اكثر مرونة. ولعل الاميركيين يرغبون في ابقاء المسارين الأساسيين للتفاوض ماضيين قدماً، بمعدلات سرعة متشابهة. وحرص الجانب الاميركي - في وصفه لنتائج المفاتحات الاخيرة بين سورية واسرائيل - على عدم الاشارة الى حدوث اي انفراج يُعْتَدُّ به. لكن الاميركيين يصرحون بأن كلا من الجانبين يتفهم الآن الحاجات الحقيقية للجانب الآخر، في صورة افضل من اي وقت مضى. وهم حريصون على عدم الايحاء بأن هذا الجانب او ذاك مستعد للوفاء بهذه الحاجات، وانما يصرون على ادراك الجانبين لما يجب تحقيقه كي يتم التوصل الى اتفاق. وليس بوسعي الا التكهن بالصيغة التي يمكن ان تؤدي الى اتفاق بين اسرائيل وسورية، لكن العناصر الأساسية ستكون بالتأكيد على النحو الآتي: بيان اسرائيلي يقضي - في ظروف يسودها السلام ويستتب فيها الأمن - بألا تطالب اسرائيل بالسيادة على مرتفعات الجولان. وبيان سوري ينص - اذا تحقق السلام الشامل وانسحبت اسرائيل من أراض محتلة - على قبول سورية ابرام معاهدة سلام ملزمة مع اسرائيل، تشتمل على جدول زمني لتطبيع العلاقات تطبيعاً كاملاً. كذلك يتفق الجانبان على الدخول في مفاوضات تتناول الترتيبات الامنية المفصلة، على اساس الاشتراك والتبادل، مع ادراك ان تنفيذ اي اتفاق من هذا النوع انما يتم في غضون فترة محددة سلفاً. وفي حين قد لا يزال من العسير التفاوض على تفاصيل اي بيان من هذا القبيل، ففي ظني ان الاسد ورابين باتا قريبين الى حد ما من قبول هذه الصيغة. اما جبهة المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية فتبدو اكثر تعقيداً من سابقتها، ولكن ليس للأسباب التي ساقها رابين، وهي الخلل في صفوف الفلسطينيين. صحيح ان الخلافات دبت بينهم، لكن الظاهر انها كانت تتعلق عموماً بالاجراءات لا بالجوهر. وليس من دواعي الدهشة ان يستاء الفريق الفلسطيني المفاوض، حين علم ان كريستوفر تسلم بالفعل بياناً بالموقف الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية من الجانب المصري قبل ان يطلع الوفد الفلسطيني نفسه على الوثيقة. والفروق الفعلية بين المسودة التي سلمتها المنظمة الى الجانب المصري، والوثيقة التي قدمها فيصل الحسيني الى كريستوفر في الخامس من آب اغسطس، ليست فروقاً كبيرة، وان كانت كلها تميل الى الالحاح بشكل ما على حقوق الفلسطينيين. وأجريتُ مقارنة بين المسودة الاميركية في تاريخ الثلاثين من حزيران يونيو والمسودة الفلسطينية في تاريخ الخامس من آب، اعتمدت فيها على التدقيق في الكلمات المستخدمة. وراعني للوهلة الأولى ان اتبين وفرة الألفاظ والتعابير المشتركة التي نمت بين الطرفين. لكن الفحص المتأني يكشف مشكلة واحدة رئيسية وعدداً من المشكلات البسيطة. وتتعلق القضية الأساسية بموضوع "ولاية" الحكم الذاتي الفلسطيني اثناء الفترة الانتقالية. فالمسودة الاميركية تحرص على عدم اثارة موضوع الرقعة الجغرافية للولاية الفلسطينية، كما تستبعد في شكل صريح خضوع الرعايا الاسرائيليين اي المستوطنين لسلطتها. اما المسودة الفلسطينية فصراحتها جافية، اذ تنص على ان يكون للفلسطينيين حق الولاية التامة على كل اراضي الضفة الغربية وقطاع غزةوالقدسالشرقية، وعلى خضوع كل من يقطن هذه الأراضي للقوانين السارية ذاتها. وليس من السهل تبيان سبل التوفيق بين هذه الاختلافات، وان كان لا بد من تطرق المتفاوضين الى احتمالات عدة. فقد ينص الاتفاق صراحة - بادئ ذي بدء - على خضوع كل المقترعين لمصلحة السلطة الفلسطينية لصلاحيات ولايتها، مع مراعاة تحديد مناطق يتفق عليها، تُعامل وفقاً لترتيبات خاصة. ويعني هذا ادراج فلسطينيي القدسالشرقية ضمن صلاحيات سلطة الحكم الذاتي، بمعظم مناحيه، على الا يخضع لها المستوطنون الاسرائيليون الذين لن يصوتوا للسلطة الفلسطينية، اثناء الفترة الانتقالية. وربما وافق الفلسطينيون والاسرائيليون ثانياً - رغبة في تمييز الظروف الخاصة للفترة الانتقالية - على تشكيل محاكم مختلطة لحسم النزاعات التي تطرأ بين الخاضعين للسلطة الاسرائيلية وغيرهم ممن يخضعون للسلطة الفلسطينية. واذا صيغت هذه الاتفاقات بحرص وعناية فسيصبح في امكان الفلسطينيين القول ان سلطتهم تشمل جميع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، مع اتخاذ تدابير موقتة للتعامل مع المستوطنين الاسرائيليين الموجودين على مدى الفترة الانتقالية. اما من وجهة نظر اسرائيل، فسيتراءى لها انها حافظت على مبدأ بقاء مواطنيها تحت ولايتهم الخاصة بهم، انتظاراً للتوصل الى اتفاق نهائي. اما المسائل الاخرى التي يتعين بتها فمنها مبدأ الانسحاب كما قد يطبق اثناء الفترة الانتقالية. وتشير الدلائل الى ان الفلسطينيين راغبون في استخدام لغة اتفاقي كامب ديفيد، وهو ما لا بد ان يرضي الاسرائيليين ايضاً. ثم يمكن حل هذه المشكلة على مستوى المبادئ العريضة. اما التوصل الى اتفاق تفصيلي فقد يكون اصعب منالاً. كذلك طلب الفلسطينيون الاخذ بمبدأ التحكيم في المنازعات التي تنشأ اثناء الفترة الانتقالية. وسيرفض الاسرائيليون هذا المطلب، ولن يقبلوا اكثر من الصيغة المستخدمة في معاهدتهم مع مصر، من حيث السماح بالتحكيم ولكن كحل اخير. ولا يصح ان ننسى قضية طابا، والوقت الطويل الذي انقضى قبل التوصل الى اتفاق. فلو بلغت الفترة الانتقالية خمس سنوات مثلاً كحد اقصى، لانتفت قيمة التحكيم كحد اخير. والبديل من هذا ان يشكل الجانبان هيئة دائمة للتفاوض من خلالها، تكون قادرة على معالجة كل القضايا المتنازع عليها، بل تستطيع البدء ايضاً في بحث المسائل ذات الصبغة النهائية في وقت مبكر. اما آخر القضايا التي وردت في المسودة الفلسطينية فتدور حول التوصل الى نوع من الاتفاق اولاً على مستقبل غزة وأريحا. ولا اعرف حقاً ما هي المشكلة التي يسعى هذا الاشتراط الى حلها، لكن الفكرة باتت الآن رسمياً جزءاً من الموقف الفلسطيني. بم نخلص من كل هذا اذن؟ اولاً هناك بعض التقدم في مسيرة المفاوضات، لكن القرارات الصعبة لم تتخذ - في معظمها - بعد. وثانياً ستكون مشاركة وزير الخارجية الاميركي ضرورية لتحقيق نتائج. وأما الخلاصة الثالثة فهي ان قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لن تعطي الفريق الفلسطيني المفاوض اي استقلال فعلي، وهو ما يعني ان على الولاياتالمتحدة واسرائيل ايجاد وسيلة للتعامل تعاملاً فعالاً مع قيادة المنظمة في تونس، اذا رغبتا في التوصل الى نتائج. وأخيراً ينبغي على الرئيس كلينتون ان يلقي بثقله في مرحلة ما، لدفع الاطراف المعنية على طريق الاتفاق. وقصارى القول ان الوقت آخذ في النفاد، لكن فرصة التوصل الى اتفاق على المبادئ الأساسية لم تضع. وسيحتاج الامر - كما هو الحال دائماً - الى خصال الزعامة والجسارة والتصميم، للتغلب على العقبات المتبقية. ولا احسب ان هذه الخصال متوافرة الآن في اي من العواصم المعنية بالمحادثات. * مستشار الرئيس الاميركي السابق كارتر وخبير بارز في شؤون الشرق الاوسط.