التقيته في حديقة عند مدخل مكتب جريدة القوميين الروس. وعندما عرف انني امثل مجلة عربية طلب عدم ذكر اسمه موضحاً: "سأتوجه بعد ايام الى البوسنة من جديد والمسلمون يعرفون الكثيرين منا باسمائهم". هذا الملازم السابق في الجيش السوفياتي، البالغ من العمر ثلاثين سنة، المتعمد بالدم في افغانستان، عاد قبل شهر فقط من البوسنة الشرقية بعدما اشترك مع غيره من المتطوعين الروس في القتال ضد المسلمين. ويقول ان فصائل المتطوعين موجودة في اكثر من عشرة اماكن في اراضي البوسنة وحدها. اما اذا حسبنا يوغوسلافيا السابقة كلها، ففيها اليوم ما يراوح بين الف والف وخمسمئة من المتطوعين الروس. وأضاف: "اننا نحارب الفصائل المسلحة لكننا لم نشترك مرة في ما يسمى "التطهير العرقي" ضد السكان المدنيين". وذكر ان خسائر المتطوعين الروس في اثناء المعارك ضد المسلمين عند فيشيغراد في البوسنة الشرقية بلغت مطلع حزيران يونيو 25 قتيلاً. وفقاً للمعطيات التي حصلت عليها "الوسط" من مصادر مطلعة قريبة الى الاوساط القومية الروسية، فان الروس خسروا في يوغوسلافيا في نصف العام الاخير ما يزيد مجموعه على مئة شخص. لكن بعض المصادر في ساراييفو يقول ان عدد خسائرهم زاد على مئتين. في الحالات التي يمكن فيها نقل جثث القتلى الروس من ساحة المعارك، فانها تحمل الى بلغراد وتدفن هناك في جنازات عسكرية. وقد انشئت اخيراً في باحة احدى الكنائس الارثوذكسية وسط بلغراد مقبرة دفن فيها قتلى روس الى جانب ضريح الجنرال فرانغيل الذي رأس مطلع العشرينات "الجيش الابيض" ضد الشيوعيين ثم هرب الى تركيا بعد هزيمته ومنها الى صربيا حيث امضى بقية ايامه. كان الصرب الذين يدينون، كالروس، بالمذهب الارثوذكسي يعتبرون في السنوات المئة والخمسين الاخيرة الدعامة الرئيسية والحلفاء الطبيعيين لروسيا في البلقان. وفي هذه الاثناء هب الروس مراراً لمساعدتهم في اصعب الاوقات. وفي المناطق التي يقطنها الصرب يلفظ هؤلاء باحترام اسم الجنرال الروسي تشيرنيايف، الذي قاد في اواخر السبعينات من القرن الماضي حملة على البلقان في اطار حرب روسيا مع الامبراطورية العثمانية. وحتى الآن توضع الزهور على قبور مقاتلي ما يسمى "المتطوعون الموسكوف" الذين سقطوا في المعارك ضد الاتراك سنة 1916. وخلافاً للكرواتيين الذين وقفوا في الحرب العالمية الثانية الى جانب المانيا النازية، رحب الصرب بدخول الجيش الاحمر بلغراد ربيع 1945. ومع ان الكرملين الرسمي لم يعد اليوم يشملهم بعطفه السابق، بقوا يتطلعون بأمل نحو روسيا. وقال مؤرخ صربي زار موسكو اخيراً ان "عددنا مع الروس يناهز المئتي مليون". ولكن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سالت مياه كثيرة تحت الجسور ولم يعد في مقدور روسيا التي اصبحت لها، بنتيجة تمزق الاتحاد السوفياتي، بضعة الوف الكيلومترات من الحدود مع دول اسلامية جديدة، اضافة الى ان بين سكانها 13 مليون مسلم، اقول لم يعد في مقدور روسيا اليوم، ان تسمح لنفسها بالانحياز بلا قيد ولا شرط الى الصرب ضد المسلمين، كما كانت تفعل عندما كانت قوة امبراطوريتها في اوجها". نظرتان متعارضتان وفي المجتمع الروسي اليوم نظرتان على الاقل متعارضتان بالنسبة الى النزاع في البلقان. ففي حين تؤيد الاوساط الموالية للغرب تأييداً كاملاً السياسة الخارجية لحكومة الرئيس بوريس يلتسن، والتي تنسق اعمالها مع الولاياتالمتحدةوالمانيا وغيرها من الدول الاوروبية، نرى المعارضة التي تضم تشكيلة كبيرة من القوى، بدءاً بالاكثرية البرلمانية المحافظة وانتهاء بالاحزاب القومية المتطرفة، تلوم يلتسن على "خيانته صربيا" وتضامنه مع "الامبريالية الاميركية"، الامر الذي يضر، في رأيها، بهيبة روسيا الدولية وبمصالحها الحيوية في البلقان. ولا عجب في هذا الصدد ان تلعب المعارضة بنشاط في الفترة الاخيرة "الورقة الصربية"، وان تظهر في صحفها، بعد كل زيارة لمنطقة النزاع يقوم بها وفد من البرلمانيين او الكتّاب من ذوي الاتجاهات القومية، مقالات تؤيد الصرب. وأصبح من المألوف في الفترة الاخيرة ان نجد في اثناء تظاهرات واجتماعات للاحزاب القومية في ساحة القصر في بطرسبورغ مبعوثين لما يسمى "الحزب الروسي" وهم في الملابس العسكرية المبقعة ينظمون تسجيل الشبان المتطوعين لارسالهم الى يوغوسلافيا. ويجب القول لوجه الحق ان عدد الذين يسجلون انفسهم متطوعين لا يتجاوز العشرات، على رغم كل الجهود المبذولة. ومع ذلك تشكلت في هذه الاجتماعات اول مجموعة من 25 شخصاً طارت في تشرين الأول اكتوبر 1992 من مطار بولكوفو المحلي الى بلغراد، ثم سرعان ما زاد عدد المتطوعين الذاهبين من بطرسبورغ الى يوغوسلافيا على المئة. بالقطار... أو سيراً قال نيقولاي بونداريك نائب رئيس الحزب الروسي الذي يشرف على عملية تجنيد المقاتلين الروس: "بعدما اعلن الحصار الجوي على الصرب اصبح رجالنا يسافرون الى بلغراد بالقطار. ولكن لم يكن هذا ممكناً دائماً واضطروا في بعض الحالات الى السفر الى المجر او رومانيا، ومن هناك الى خط الجبهة سيراً". وأضاف ان فصائل المتطوعين الروس تتألف عادة من 10 - 15 فرداً، ولكن يحدث ان تكون الفصيلة صغيرة جداً من 2 - 3 افراد ويضعون جميعاً انفسهم، لدى وصولهم الى البوسنة، تحت تصرف القادة الصرب ويخضعون لهم في كل شيء. نفقات... وقواعد سرية ان عملية نقل كل مقاتل من روسيا الى البوسنة تكلف 100 دولار تقريباً، تدخل فيها نفقات استخراج جواز السفر وشراء ارخص تذكرة سفر بالقطار. ويعوض الجانب الصربي هذه المبالغ على الروس الذين يجندون المتطوعين. اما تذكرة سفر العودة، فلا يستطيع المقاتل الروسي بمقتضى اتفاق غير مكتوب، ان يحصل عليها الا بعد ان يمضي في منطقة النزاع ما لا يقل عن شهرين. والى بطرسبورغ توجد نقاط لتجنيد المتطوعين في موسكو وبعض مدن روسيا الكبيرة الاخرى. ومع ان الغالبية الساحقة من الذاهبين الى يوغوسلافيا للقتال تتألف من ضباط من الجيش السوفياتي السابق، فانهم جميعاً يتلقون اعداداً عسكرياً في قواعد سرية. ويتردد المتطوعون احياناً الى دروس في ايام الاحد مرة في الاسبوع، وينزلون قبل السفر في معسكرات للتدريب يتلقون فيها دورات مركزة لمدة اسبوع. وعندما يصلون الى صربيا يجدون جميعاً انفسهم وقد تحولوا اناساً غير شرعيين اذ تؤخذ جوازات سفرهم ولا يعطون بطاقات هوية، وفي وسع الشرطة المحلية، من حيث المبدأ، ان تتهمهم بدخول البلاد في صورة غير قانونية وان تقبض عليهم. لكن هذا لا يحدث عملياً، واذا لقي احد من الروس مصرعه في القتال عين الصرب لاسرته في روسيا معاشاً شهرياً يزيد بقليل على 20 دولاراً. مرتزقة ان اكثر الروس الذين يقاتلون المسلمين في البوسنة يعتبرون انفسهم متطوعين هبوا لمساعدة "اخوانهم في الدين". ويغضبون اذا سمتهم الصحف الروسية "مرتزقة". والمعروف ان البروتوكول الثاني الذي اقر سنة 1977 كاضافة الى اتفاقية جنيف لسنة 1949 في خصوص حماية ضحايا الحرب، يدرج في باب المرتزقة الاشخاص الذين ليسوا مواطنين للدولة التي يحاربون الى جانبها وليسوا في عداد القوات المسلحة لتلك الدولة ويتقاضون اجراً اكبر بكثير من اجر العسكريين المحليين. والمرتزقة في عرف القانون الدولي هم مجرمو حرب وقد يعدمون رمياً بالرصاص فوراً اذا وقعوا في الاسر، من دون ان يشكل هذا مخالفة لاتفاقية جنيف لسنة 1949 الخاصة بأسرى الحرب. لكن القوميين الروس الذين يجندون ويرسلون المقاتلين الى منطقة العمليات الحربية يعترضون على هذا قائلين ان الروس يحاربون في البوسنة ليس من اجل المال، بل في سبيل فكرة، وانهم لا يتقاضون سوى 25 دولاراً في الشهر فضلاً عن طعامهم. وهذا يعادل ما يناله الجندي الصربي. ويشيرون الى ان هذا المبلغ نفسه تقريباً يتقاضاه المقاتلون الأوروبيون في كرواتيا والعرب والايرانيون والمجاهدون الافغان الذين يحاربون الى جانب المسلمين. صحيح ان القانون الدولي يفرّق بين المرتزقة والمتطوعين ويدرج في خانة المتطوعين الذين يذهبون الى منطقة النزاع حسب اتفاقات بين دولتين او اكثر او بدافع شخصي ويلتحقون رسمياً بخدمة الجيش النظامي للدولة التي يحاربون بجانبها. وليس من الصعب ملاحظة ان المقاتلين الروس في يوغوسلافيا لا ينطبق عليهم هذا التعريف، لانهم لا يحاربون في صفوف الجيش الصربي، بل في تشكيلات مسلحة لكيانين صربيين غير معترف بهما في البوسنة وكرواتيا، ولكن في اراضي دولتين معترف بهما دولياً وهما كرواتيا والبوسنة والهرسك. يخالفون القوانين وقال فلاديمير افانوفسكي مدير شعبة يوغوسلافيا في وزارة الخارجية الروسية: "ان كل المقاتلين الروس اتوا الى يوغوسلافيا بدافع شخصي ولهذا لا تتحمل روسيا اية مسؤولية حيالهم". وأضاف: "انهم يخالفون قوانين البلد الذي يوجدون فيه وليس في وسع الحكومة الروسية الا ان تطلب التسامح معهم لاعتبارات انسانية". ومع ذلك، يواصل بعض الاحزاب والمجموعات القومية العمل لارسال فصائل المقاتلين الى البوسنة، حتى ان يوري بيليايف رئيس الحزب الشعبي الاجتماعي، وهو ايضاً نائب في مجلس محافظة لينينغراد، يعلن صراحة "ان لنا قاعدة في يوغوسلافيا نرسل اليها شباننا للقتال بجانب الصرب". من شأن اقوال كهذه وحدها ان تستتبع في كثير من البلدان الاحالة على القضاء، لكن المفارقة تكمن في ان روسيا لا يوجد فيها حتى الآن قانون خاص بالمسؤولية عن المشاركة في عمليات حربية في الخارج. اما مشروع القانون الخاص بالمسؤولية عن تجنيد وتسليح وتمويل وتدريب واستخدام للمرتزقة، والذي قدمه المدعي العام فالنتين ستيبانكوف الى البرلمان في آذار مارس الماضي، فلم يصادق عليه الا في القراءة الثانية وليس واضحاً حتى الآن متى سيبدأ العمل به. وفي غضون ذلك تظهر في الصحف الروسية انباء تقول ان فصيلة جديدة من المتطوعين تعدادها 50 عنصراً سافرت من موسكو الى يوغوسلافيا، وينتظر قريباً ظهور اولى النساء الروسيات القناصات على خط المواجهة الصربية - الاسلامية في البوسنة. ومن جهة اخرى، ينبغي ان نتوقع، على الاكثر، في اقرب وقت ازدياد عدد المسلمين من سكان روسيا والجمهوريات السوفياتية السابقة الذين يقاتلون الى جانب اخوانهم في الدين في البوسنة. وأكد ايوب غانيتش رئيس وفد البرلمان البوسني هذا الاحتمال في اثناء زيارته الاخيرة لموسكو، معلناً ان السفارة البوسنية يحاصرها، بكل معنى الكلمة، مسلمون من روسيا وبلدان رابطة الدول المستقلة مطالبين بارسالهم الى البوسنة، وان بعضهم اصبح يحارب هناك. ويقول كثيرون من المقاتلين الروس العائدين من يوغوسلافيا ان في جيش مسلمي البوسنة اليوم ثمانية مجاهدين من الشيشان. ومن المفارقات ان يكون الروس والمسلمون من سكان روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق والذين سبق لمعظمهم ان خاض الحرب في افغانستان في جيش واحد، يقفون اليوم في جانبين مختلفين من المتاريس، ويستبعد ان ترتعش يد احدهم اذا رأى مصادفة امامه "رفيقه في السلاح"... بالامس.