موقف موسكو المتشدد حيال الغارات على يوغوسلافيا يعزى الى مخاوفها من تهميش دورها في العالم، وهدم النظام الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية. الا ان هناك ابعاداً تاريخية ودينية وقومية تحرك موقف الكرملين. ارتبط الروس والصرب بعنصرين مهمين يتمثلان في اللغة السلافية والطائفة الارثوذكسية. اللغة الصربية القديمة متطابقة مع الروسية "الفصحى" القديمة التي كانت في الماضي عماداً للأدب، ولكنها توارت اليوم الا انها ما برحت تستخدم في الطقوس الكنسية في روسيا. وكان القديسان السلافيان كيريل وميغودي اللذان بشّرا بالمسيحية ترجما الكتاب المقدس من الاغريقية الى لغة الصقالبة القدماء التي لا تختلف عن الصربية او البلغارية آنذاك. وساهم الرهبان والكهنة الصرب في نشر المسيحية في روسيا، الى جانب القساوسة اليونانيين، وفي ما بعد كان لهم دور مهم في الحركة الثقافية الروسية. وبعد سيطرة العثمانيين على البلقان تدفقت أعداد كبيرة من الصرب الى روسيا، حيث عملوا في مرافق عدة ابتداء من التعليم وانتهاء بالقوات المسلحة. ومنذ القرن السابع عشر قدمت موسكو مساعدة الى "الاشقاء السلافيين" في مواجهة الاتراك، وتعاظم هذا الدعم بعد ان أقام بطرس الاكبر امبراطورية واسعة، دعمت انتفاضات صربيا والجبل الاسود وقدمت الى المشاركين فيها السلاح والمؤونة، وارسلت ضباطاً لتدريبهم، وآوت روسيا عشرات الآلاف من اللاجئين الصرب والبلغار الذين استوطنوا مناطق واسعة جنوباوكرانيا الحالية. وخدم كثير من الوافدين الصرب في الجيش الروسي وعرفوا بشدة البأس. وبضغط من روسيا اضطر الباب العالي الى منح الصرب حكماً ذاتياً، على رغم ان الروس دعموا سعي الصرب الى الاستقلال. وعندما بدأت الحرب الصربية - التركية عام 1876 تدفق المتطوعون الروس وكان الجيش الصربي يضم سبعة آلاف عنصر روسي بينهم قائد الجيش الجنرال تشيرنيايف وداخل روسيا شكّلت "لجان سلافية" في مختلف الاقاليم ضمت وجوهاً بارزة مارست ضغطاً قوياً على البلاط القيصري لدفعه الى "انقاذ" الصرب والبلغار. وبعد حرب البلقان حافظ الصرب على ولائهم لروسيا، فيما وقعت بلغاريا تدريجاً تحت تأثير النمسا والمانيا. وفي عام 1914 لم يتردد آخر قياصرة روسيا نيكولاي الثاني في مهاجمة الامبراطورية النمسوية دفاعاً عن صربيا، وادى تورط روسيا في الحرب العالمية الاولى الى سقوط عرش آل رومانوف واندلاع الثورة البلشفية. وتكررت الاحداث بعد زهاء ثلاثة عقود، ففي الحرب العالمية الثانية قاد الصرب الانتفاضة المسلحة ضد الالمان وعرقلوا مسيرة زهاء 20 فرقة المانية كان هتلر يريد نقلها الى الجبهة السوفياتية. وعلى رغم ان قطيعة بدأت بين الزعيمين اليوغوسلافي جوزيف بروز تيتو والسوفياتي جوزيف ستالين عام 1949، فان الروابط التاريخية لم تنقطع تماماً بل عادت الى الازدهار بعد اعتذار نيكيتا خروشوف عن "الممارسات الستالينية" ضد بلغراد. وغدت يوغوسلافيا اهم شريك تجاري لموسكو واكبر مشتر للسلاح السوفياتي على رغم انها رفضت الانتماء الى حلف وارسو. واليوم يعوّل الصرب على مساعدة "روسيا الام" فيما يتظاهر الكثيرون من الروس دعماً ل "الأشقاء" الذين تربطهم، اضافة الى العلاقات القومية والدينية، سمات سيكولوجية مشتركة. ولكن من الواضح ان العالم تحكمه اعتبارات اخرى اليوم، من ضمنها المصالح الجيوسياسية، اذ ان فقدان صربيا يعني لروسيا خسارة آخر حليف لها في اوروبا، وخصوصاً في خاصرتها البلقانية، اضافة الى ان القيادة في موسكو تدرك ان التخلي عن بلغراد قد يصبح ورقة تستغلها المعارضة لاسقاط حكم الرئيس بوريس يلتسن.