إطلاق 80 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الأمير محمد بن سلمان    انطلاق المؤتمر الدولي لأكاديميات الشرطة    السعودية الأولى خليجياً وعربياً في مؤشر الأداء الإحصائي    «الجناح السعودي».. ينطلق في «الصين الدولي للطيران والفضاء»    وزير الخارجية: حل الدولتين السبيل الأوحد لتحقيق السلام    «الرابطة» تُرحِّب بقرارات القمّة العربية والإسلامية    رئيس بولندا يشكر خادم الحرمين وولي العهد    الفرج يقود الأخضر أمام «الكنغر»    إسناد التغذية والنقل ل«جودة الخدمات» بإدارات التعليم    «التقني»: إلغاء إجازة الشتاء وتقديم نهاية العام    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة.. نشروا مقاطع منافية لأخلاقيات المهنة    وزير الداخلية يرعى حفل جامعة نايف وتخريج 259 طالباً وطالبة    5 مشاهير عالميين أصيبوا بالسكري    في بيتنا شخص «حلاه زايد».. باقة حب صحية ل«أصدقاء السكري»    ماذا لو نقص الحديد في جسمك ؟    المملكة تحذر من خطورة تصريحات مسؤول إسرائيلي بشأن فرض سيادة الاحتلال على الضفة الغربية    الأهلي يطرح تذاكر مواجهته أمام الوحدة في دوري روشن    غارات إسرائيلية عنيفة على ضاحية بيروت    الذهب يستقر قرب أدنى مستوى في شهر مع انتعاش الدولار    سعود بن نايف يستقبل أمين «بر الشرقية»    أمير الرياض يستعرض إنجازات «صحية تطوع الزلفي»    أمير القصيم يطلق مبادرة الاستزراع    تطوير وتوحيد الأسماء الجغرافية في الوطن العربي    الاتفاق يعلن اقالة المدير الرياضي ودين هولدين مساعد جيرارد    مقتل ضابط إسرائيلي وأربعة جنود في معارك بشمال غزة    نقلة نوعية غير مسبوقة في خدمة فحص المركبات    استعادة التنوع الأحيائي في محمية الأمير محمد بن سلمان    "الحج المركزية" تناقش موسم العمرة وخطط الحج    رحب بتوقيع" وثيقة الآلية الثلاثية لدعم فلسطين".. مجلس الوزراء: القمة العربية والإسلامية تعزز العمل المشترك لوقف الحرب على غزة    فوبيا السيارات الكهربائية    «نأتي إليك» تقدم خدماتها ب20 موقعًا    مجلس الوزراء يجدد التأكيد على وقوف المملكة إلى جانب الأشقاء في فلسطين ولبنان    ولادة أول جراء من نمس مستنسخ    الأخضر يحتاج إلى وقفة الجميع    المنتخب السوداني يسعى لحسم تأهله إلى أمم أفريقيا 2025    «طريق البخور».. رحلة التجارة القديمة في العُلا    السِير الذاتية وتابوهات المجتمع    أحمد محمود الذي عركته الصحافة    وفاء الأهلي المصري    للإعلام واحة    إضطهاد المرأة في اليمن    يسمونه وسخًا ويأكلونه    يأخذكم في رحلة من الملاعب إلى الكواليس.. نتفليكس تعلن عن المسلسل الوثائقي «الدوري السعودي»    «سامسونغ» تعتزم إطلاق خاتمها الذكي    «الغذاء»: الكركم يخفف أعراض التهاب المفاصل    التحذير من تسرب الأدوية من الأوعية الدموية    الرهان السعودي.. خيار الأمتين العربية والإسلامية    أسبوع معارض الطيران    جمعية يبصرون للعيون بمكة المكرمة تطلق فعاليات اليوم العالمي للسكري    إطلاق 80 كائنا فطريا مهددا بالانقراض    نائب الرئيس الإيراني: العلاقات مع السعودية ضرورية ومهمة    التوقيع على وثيقة الآلية الثلاثية لدعم فلسطين بين منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية ومفوضية الاتحاد الإفريقي    الرئيس السوري: تحويل المبادئ حول الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين ولبنان إلى واقع    الأمر بالمعروف بجازان تفعِّل المحتوي التوعوي "جهود المملكة العربية السعودية في مكافحة التطرف والإرهاب" بمحافظة بيش    البرهان: السودان قادر على الخروج إلى بر الأمان    اطلع على مشاريع المياه.. الأمير سعود بن نايف يستقبل أعضاء الشورى المعينين حديثاً    أمير الرياض يطلع على جهود الأمر بالمعروف    مراسل الأخبار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حرب البوسنة والهرسك تهدد الشرق الوسط والغرب يدرس مجموعة خيارات عسكرية لوقفها
نشر في الحياة يوم 13 - 07 - 1992

يبدو أن أقدار يوغوسلافيا تدفعها إلى صنع التاريخ مرة أخرى. ومن الصعب أن يتخيل المرء أن قارة أوروبا ستشهد المزيد من الفواجع، ولكن الصراع في منطقة البلقان المتقلبة كشف عن العديد من أوجه القصور في الأفكار الغربية بشأن عالم ما بعد الحرب الباردة. ومن المحتمل أن تؤدي أوجه القصور هذه إلى هزات تمتد عبر القارة الأوروبية وتتعداها إلى منطقة الشرق الأوسط. ومن المهم بالطبع أن يفهم المرء يوغوسلافيا، لأن الموقف هناك يعكس في كثير من جوانبه الحيوية الظروف السائدة في العديد من مناطق روسيا والجمهوريات الأخرى في الاتحاد السوفياتي سابقا. ففي تلك المناطق يمكن أن تشتعل العداوات العرقية التي كانت خامدة في ظل الشيوعية، ويمكن أن تؤدي هذه العداوات إلى حروب أهلية فتاكة تدفع ملايين اللاجئين إلى النزوح إلى أوروبا الغربية وتهديد استقرارها.
ومع انتشار الإدراك في الأسابيع الأخيرة بمدى خطورة الموقف في يوغوسلافيا، بدأت إدارة بوش تتحرك جديا لتطويق الأزمة، بعد أن حثتها على ذلك تركيا علانية وبعض الدول العربية سرا. ولكن لماذا هذا التأخير؟ ولماذا صبر الغرب على عام كامل من القتال الذي أدى إلى قدر من الدمار والتشريد لم تشهد له أوروبا مثيلا له منذ الحرب العالمية الثانية، لفهم هذا البطء الواضح في ردود الفعل الدولية، لا بد لنا من التطلع إلى العوامل التاريخية الكامنة وراء المسائل الجارية التي بدأت تظهر جلية أمام أعين القادة السياسيين والرأي العام العالمي.
ويمكن الحصول على فكرة عامة عن الطبيعة الفريدة ليوغسلافيا عن طريق دراسة الطبيعة العنيفة لعيدها الوطني الذي احتفلت به لتوها يوم 27 حزيران يونيو الماضي، وهو أيضا اليوم الذي اختاره الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران لزيارته الجريئة إلى ساراييفو المحاصرة. ويوافق هذا التاريخ ثلاثة أحداث تاريخية فاجعة في ما أصبح يعرف الآن باسم يوغوسلافيا، وذلك على النحو التالي:
- في 1948 خرج المارشال تيتو من صفوف الدول التابعة لروسيا الستالينية، مما منح يوغوسلافيا وضعا خاصا متميزا، وجعلها تصبح الدولة الشيوعية المفضلة لدى الغرب، باعتبار أن نظام حكمها خرج من الكتلة التي تقودها موسكو.
- في 1914 اغتال شخص من البوسنة موال للصرب ولي عهد الإمبراطورية النمساوية - الهنغارية في ساراييفو، مما أدى إلى اشتعال العداوات بين الدول الأوروبية واندلاع نيران الحرب العالمية الأولى التي أضعفت أوروبا ويسرت بزوغ نجم روسيا في أعقاب الثورة البولشيفية وظهور الولايات المتحدة كقوة عالمية رائدة.
- في 1389 تعرض الجيش الصربي لهزيمة ساحقة على يد الجيوش الإسلامية، مما أدى إلى دخول الإمبراطورية العثمانية إلى قلب أوروبا، والى وجود إسلامي دائم في الركن الجنوبي الشرقي من القارة الأوروبية. وكان خط الحدود بين المسلمين والمسيحيين هناك أقل وضوحا وأكثر تعقيدا مما هو عليه عند الطرف الآخر لأوروبا بين المغرب العربي وإسبانيا أولا ثم فرنسا من ورائها.
وتشير هذه الأحداث التاريخية إلى ثلاثة عوامل حيوية تفسر إلى حد كبير أسلوب التفكير والحسابات الدولية الحالية مع تطور أحداث الأزمة اليوغسلافية وهي:
- حالة عمى في فترة الحرب الباردة منعت تبين الطبيعة الحقيقية والأطماع الشخصية لقادة يوغوسلافيا الشيوعيين. وبينما كان الغرب يهلل لتيتو بسبب خروجه من صفوف الشيوعية العالمية، يلتفت الزعماء الغربيون إلى العادات الديكتاتورية لقادة يوغوسلافيا، والى قادة المعارضة الداخلية الذين لم يكن لديهم فهم كبير للسرعة التي تتغير بها طبيعة المجتمع العالمي.
- التقليل من شأن الأطماع الصربية الحادة التي بدت خامدة لفترة طويلة. والصرب يمثلون العنصر الغالب في يوغوسلافيا، ويشتهرون بتاريخهم العسكري الطويل. وكان الصرب يشعرون بان سياسة تيتو، المعتمدة على المزج بين القوميات وتقسيم السلطات المحلية، تمنعهم من الحصول على دولة خاصة بهم.
- كان الجميع - باستثناء الدول العربية - يتجاهلون العامل الإسلامي طوال فترة طويلة من الزمن. وفجأة اكتسبت الطائفة الإسلامية في يوغوسلافيا، وخصوصا في البوسنة، أهمية دولية جديدة بسبب الصحوة الإسلامية شرقا في تركيا ووسط آسيا، وغربا في بعض مناطق أوروبا حيث يسعى القادة السياسيون إلى تجنب أي صراع يمكن أن يشعل الحساسيات الإسلامية.
ومن الناحية المنطقية كان من السهل توقع المأساة اليوغوسلافية. وقد توقعت بتفاصيل هذه المأساة بالفعل دراسة أميركية هي عبارة عن تقرير تشترك في وضعه أجهزة المخابرات الأميركية، ويطلق عليه اسم "التقدير الوطني للمعلومات". وفي نسخة سرية من هذا التقرير صدرت في تشرين الثاني نوفمبر 1991، وحصلت عليها "الوسط" كان هناك توقع بأن يوغوسلافيا ستتفسخ في حرب أهلية دائمة في 1992. ولك حتى بعد اشتعال القتال بعد ستة شهور، كما توقع التقرير، لم تكن هناك أية حكومة غربية على استعداد للتسليم بأن هذا القتال سيستمر أكثر من أشهر عدة.
لماذا؟ حدث ذلك؟ ذكر هذا التقرير الأميركي أن العداوات المحلية كان لا بد لها من أن تنفجر بعد وفاة تيتو بصورة لا يمكن السيطرة عليها، لأنه ليست هناك قوة في بلغراد أو على الساحة الدولية، تحول دون ذلك وتستطيع كبح جماح المطامع الصربي. ومع ذلك استهان القادة السياسيون بهذا التقرير لأن مؤلفيه من المتخصصين الأكاديميين الذين ليست لديهم خبرة فعلية بيوغسلافيا.
وكان الأوروبيون والأميركيون يعتقدون أن يوغوسلافيا - مثلها في ذلك مثل لبنان في السبعينات - تسير في طريق التحديث، على رغم ماضيها المتفجر. وألف عدد كبير من الساسة اليساريين الفرنسيين كتبا في الستينات يشيدون فيها بمثال الحكم الذاتي في يوغوسلافيا باعتباره نموذجا يجب أن تحذو حذوه بعض الدول الأخرى. وحذر البعض، من أمثال الزعيم المعارض دجيلاس، أصدقاءهم في الغرب من الأطماع الشخصية الخطيرة التي تجيش في صدر الرئيس الصربي ميلوسوفيتش، ولكن الغرب فسر هذه المخاوف على أساس أن الصرب قد يحاولون يوما تعديل حدودهم مع كرواتيا - الجمهورية اليوغوسلافية المجاورة لهم - حتى يصبح هناك اتصال بري مع الجيوب الصربية التي تعمد تيتو وضعها تحت سيطرة كرواتيا التي كانت تكن عداء شديدا لصربيا خلال فترة الحرب العالمية الثانية. وكان الاقتصاد اليوغوسلافي بدأ في الانتعاش اعتبارا من الستينات، ولذلك كان الخبراء مقتنعين بأن الصرب والكرواتيين والسلوفيين والعناصر الأخرى لن يعرضوا مكاسبهم للخطر بعد أن حصلوا عليها بشق الأنفس، ولن يديروا ظهورهم إلى ما يبدو أنه المسار الطبيعي للتاريخ لكي يعودوا الى صراع الآباء والأجداد.
وهناك عامل آخر ساعد في إخفاء الحقيقة عن المراقبين الخارجيين. ويعبر ديبلوماسي أميركي عن هذا العامل بقوله: "لقد كانوا يكذبون علينا. كلهم كان يكذب علينا كلنا طوال الوقت". وحتى تاريخ اشتعال القتال الفعلي قبل عام واحد، كان السلوفينيون والكرواتيون، وأيضا الصرب على وجه الخصوص، يقولون للحكومات الأجنبية أنهم يتخذون الاحتياطات اللازمة لمنع أية جمهورية يوغوسلافية من المناورة السياسية، وان خططهم الخاصة مجرد خطط دفاعية محضة. وكانوا يقولون أيضا أن أية محاولة لتغيير السلطة المركزية القديمة لن تتم الا عن طريق التطور الحريص والواعي على امتداد فترة زمنية طويلة. وكانت الجمهوريات المختلفة تعترف بأنها تنتج عملتها الخاصة، وتصدر جوازات سفر مختلفة، وتحاول الحصول على أكبر قدر ممكن من السلاح، ولكنها كانت تدعي أن هذه الإجراءات كلها دفاعية، وليس هناك ما يدعو إلى القلق بشأنها. وبالنسبة إلى القادة السياسيين، الذين يحاولون استيعاب عواقب انهيار الاتحاد السوفياتي، كانت هذه الكلمات المطمئنة ما يودون سماعه بالضبط، وخصوصا بالنسبة إلى أشخاص مثل وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر، الذي كان يخشى أن يؤدي انهيار يوغوسلافيا إلى تأثير مشابه على الجمهوريات السوفياتية سابقا. ولم يكن هناك مبرر لتلك المخاوف في الماضي، ولكنها يمكن أن تعود إلى الظهور بصورة تنذر بالخطر في الوقت الحالي.
وهكذا كانت يوغوسلافيا مرشحة لأن تصبح الضحية الأولى لانتهاء الحرب الباردة، وبمجرد أن الضحية الأولى لانتهاء الحرب الباردة، وبمجرد أن انتفت الحاجة إليها في المواجهة مع موسكو، تبخر اهتمام الغرب بها. وعندما بدأت الأطماع المحلية في الظهور نتيجة لفراغ السلطة في البلاد، كان الغرب غافلا عند مخاطر عودة الشياطين القديمة لكي تدفع يوغوسلافيا إلى مأساة تاريخية.
وبالطبع كان الشيء الذي غفل عنه خبراء الشؤون اليوغوسلافية في الغرب أيضا هو الشعور الحماسي بالقومية الصربية، وهو الشعور الذي أدى إلى حادثة الاغتيال في ساراييفو عام 1914، وكما اغتال بوسني مؤيد للصرب ولي العهد النمساوي احتجاجا على محاولات فيينا للتقليل من النفوذ الصربي في البوسنة، تحاول المدفعية الصربية اليوم إعادة سلطة الصرب إلى هناك بأوامر صادرة من بلغراد، على رغم التصريحات العلنية التي تنفي ذلك. وتهدف خطة الصرب في هذه المرة إلى طرد المجموعات العرقية الأخرى كلها التي تهدد نقاء صربيا الكبرى. وتهدف أساليب قتل الأطباء والمدرسين، وقصف الأهداف المدنية، إلى "تطهير" تلك المناطق، بحيث لا تتمكن أي مجموعة عرقية أخرى من المناداة بحق الحياة أو التصويت في الانتخابات هناك.
وقد تم وضع هذه الاستراتيجية العسكرية موضع الاختبار في ساراييفو. وتوجه رئيس البوسنة والهرسك علي عزت بيكوفيتش بنداء استغاثة إلى الرئيس ميتران قائلا: "سنقاتل حتى آخر شخص". وذلك لأن أهالي البوسنة يخشون ألا يتمكنوا من العودة أبدا إذا غادروا ديارهم.
ويقول اللورد كارينغتون، الذي يتولى مهمة الوساطة في يوغوسلافيا باسم المجموعة الأوروبية، في أحاديثه الخاصة: "مع وصول القوات الصربية إلى نقطة إنهاء النزاع المسلح مع كرواتيا، ستستدير القوات إلى حدود يوغوسلافيا القديمة، سيؤدي ذلك إلى زيادة حادة في مخاطر خروج النزاع عن تلك الدائرة الضيقة وإشعال نيران النزاعات الإقليمية".
وإذا نجحت القوات الصربية - المؤلفة من القوات النظامية إلى جانب الميليشيات - في تحقيق اتصال على الأرض بين كل الجيوب الصربية الواقعة على عبر الحدود المحلية في أراضي كرواتيا والبوسنة، فإنها ستتحول بعد ذلك إلى الداخل، وستبدأ في طرد المجموعات السكانية الهنغارية وكل المجموعات غير الصربية الأخرى التي تعيش في صربيا منذ قرون عدة. وإذا لم يتم إيقاف بلغراد، فان المرحلة الأخيرة من هذه الحملة العسكرية ستتمثل في محاولة تصفية الألبان الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من سكان كوسوفو ويعيشون هناك تحت سيطرة عدد صغير من الصرب الذين يمثلون صفوة السكان، وهو موقف يشبه إلى حد ما موقف المستوطنين الفرنسيين في الجزائر قبل استقلالها. وستتحول الأطماع الصربية إلى تهديد إقليمي في مقدونيا أيضا، إذا أن السكان هناك ليسوا من الصرب، وهم يشعرون بأنهم أقرب من الناحية العرقية إلى بلغاريا المجاورة لهم. ومع ذلك يمكن أن تتعاون بلغراد في هذا الصدد مع أثينا التي تخشى استقلال مقدونيا لأن الكثيرين من سكان مقدونيا منهم إلى سكان اليونان. وتبدو تركيا مصممة في الوقت ذاته على منع اليونان من سحق المجموعات العرقية الأخرى - وخصوصا المجموعات المسلمة - في المنطقة الواقعة بين بحر ايجه والبحر الأدرياتيكي.
تدخل الملك فهد
وباختصار، سيؤدي تصعيد الحرب ووصولها إلى ما يبدو الآن وكأنه ذروتها المتوقعة، إلى تشكيل تهديد استراتيجي لأوروبا، وقد تتسع رقعة هذا التهديد لكي تثير القلاقل أيضا في الولايات المتحدة وروسيا والشرق الأوسط.
ويقود الرئيس الصربي ميلوسوفيتش، الذي ورث عن يوغوسلافيا الموحدة قوة عسكرية كبيرة، هذه العملية ويسعى إلى توسيع رقعة بلاده لإنشاء صربيا الكبرى. ويمكن أن يؤدي هذا المثال إلى إثارة قلق الملايين من أعضاء الأقليات الضعيفة المنتشرة في أوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا. ويمكن أن يحذو القادة الوطنيون في تلك المناطق أيضا حذو ذلك المثال الصربي. وحتى قبل أن ترد هذه العواقب في الحسبان، يمكن أن يؤدي انتصار الصرب إلى قلاقل في الدول الأوروبية الست التي لها حدود مشتركة مع يوغوسلافيا السابقة.
ومن بين الملامح المتفجرة الأخرى لهذه الأزمة العامل الإسلامي الذي لا يناقشه كثيرون لأنه يتعلق بحساسيات سياسية أخرى. وهناك شعور بالقلق - وخصوصا في تركيا والدول العربية - إزاء أوضاع المسلمين في يوغوسلافيا، وفي البوسنة على وجه الخصوص.
وهناك - بخلاف ذلك - تساؤل مهم عما سيحدث في المنطقة الجنوبية الكبيرة الواقعة حول موتسين - وسكانها من المسلمين - إذا اقتنعت القوات الصربية بانتصار جزئي في البوسنة والهرسك، وتركت بعض الأراضي لكرواتيا في صورة جائزة للترضية. والاحتمال القوي القائم هو أن تصبح هذه المنطقة أول دولة إسلامية في أوروبا. وقد تركز الانتباه في الأسابيع الأخيرة على النتائج الجغرافية والسياسية المتمثلة في أسلوب التفكير الديكتاتوري الشيوعي المتصلب، والمطامع الصربية الجامحة، والعامل الإسلامي. وكانت هناك رؤية جديدة للموقف في بداية أيار مايو الماضي في واشنطن، وأصبح خبراء التخطيط السياسي الأميركيون قادرين على فهم الأهداف والأساليب الصربية مع استمرار عمليات التدمير المتواصلة لمدينة ساراييفو، التي "لا تمثل حربا أهلية، وإنما حرب يقتل فيها المدنيون". وحتى ذلك الوقت كانت عمليات إراقة الدماء في يوغوسلافيا تبدو بالنسبة إلى أميركا وأوروبا بعيدة للغاية، مضطربة ومثيرة للاضطراب، إلى درجة أن الحكومات الغربية كانت مصممة على الاستمرار في ممارسة المناورات الديبلوماسية مع بعضها البعض بهذا الشأن، بدلا من محاولة حل المشكلة.
وجاءت الصدمة الأخرى لهذا الأسلوب الغرب في التفكير في الشرق الأوسط، عندما حذرت تركيا الدول المتحالفة معها في منتصف حزيران يونيو الماضي من أن تصدع يوغوسلافيا يؤدي إلى انتشار التوتر على حدودها الغربية، ودعت إلى التدخل العسكري تحت إشراف الأمم المتحدة. وتصغي العواصم الغربية - وأيضا موسكو - بانتباه الآن إلى ما تقوله أنقرة بسبب نفوذها المحتمل على التطورات في آسيا الوسطى. وفي الوقت ذاته عبر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز عن قلقه في رسالة خاصة بعث بها إلى الرئيس جورج بوش، وطلب فيها تدخل المجتمع الدولي في البوسنة لحماية السكان المدنيين، ومنهم المسلمون بالطبع، وهم أضعف الأقليات العرقية من الناحية العسكرية وتأكد استعداد المملكة العربية السعودية للمشاركة في حل الأزمة، عندما قام وزير الخارجية الفرنسي رولان دوما، بزيارة إلى المملكة لبحث الأزمة في البوسنة وضرورة القيام بعمل دولي. وكانت هذه أول مبادرة تقوم بها الحكومة الفرنسية إزاء الوضع هناك بعد الزيارة الجريئة التي قام بها الرئيس ميتران إلى ساراييفو.
ويعكس هذا الاهتمام الجديد بالعمل الدولي تغييرات أساسية في مواقف بعض الحكومات من الأزمة في الأشهر الأخيرة، بعد أن أثبتت الأحداث مدى العقم الخطير للمناورات الديبلوماسية التي كانت الحكومات الغربية تقوم بها حيال تطور الأوضاع في يوغوسلافيا.
وهكذا حدث تحول في اتجاه توجيه اللوم إلى الصرب باعتبارهم الجانب المعتدي، وأكد الرئيس ميتران هذا التحول علانية في الشهر الماضي لدى مغادرته ساراييفو في محاولة لتنبيه الصرب إلى ضرورة الحد من أطماعهم. ويشير هذا التحول إلى أن الدول الغربية قد يتعين عليها اللجوء الى عمل عسكري لمنع بلغراد من اشعال منطقة البلقان بأسرها. ويبدو احتمال التدخل العسكري أمرا مغريا بالنسبة إلى فرنسا، لأنه سيمكنها من تذكير بون بأن القوة العسكرية الألمانية لا تزال مشلولة من الناحية السياسية، بينما تستطيع فرنسا استخدام قوتها من دون أن يسبب لها ذلك أي قلق سياسي. ويذكرنا ذلك بالموقف الفرنسي الخاص في حرب الخليج، وهو الموقف الذي عاد إلى الظهور مرة أخرى بالقرب من الحدود الفرنسية ذاتها، في عملية عدوانية بدأت تثير الذعر في قلوب الأوروبيين بالصورة نفسها التي أثار بها الغزو العراقي للكويت قلق شعوب منطقة الخليج بأكملها.
ولكن احتمال العمل العسكري ينطوي على مشكلة خطيرة بالنسبة إلى فرنسا، فمن الواضح أن أوروبا لا تستطيع القيام منفردة بهذه المهمة، ويجب عليها الاعتماد مرة أخرى على الولايات المتحدة التي يجب أن تتولى المسؤولية الرئيسية في هذا الصدد. وإذا تدخلت القوات الغربية بالفعل في يوغوسلافيات سيكون من الضروري طلب مساعدات كبيرة من الجيش الروسي الذي يملك وحدات كبيرة ومجهزة جيدة بالقرب من حدود يوغوسلافيا يمكنها القيام بعمليات عسكرية كبيرة. ولكن ظهور القوات الروسية في يوغوسلافيا يعني بالضرورة مشاركة القوات الأميركية هناك أيضا، لأن سكان يوغوسلافيا سيعمدون إلى توحيد صفوفهم ضد القوات الروسية التي سيعتبرونها قوة غزو خطيرة، وسيحاولون طرد الروس، تمام كما طردوا الجيوش النازية قبل العودة إلى خلافاتهم المحلية.
وتعمل فرنسا مع بعض القادة السياسيين الألمان للتقليل من النفوذ الأميركي في أوروبا، ولذلك سعت باريس إلى الحصول على موافقة بعض الحكومات الأوروبية الأخرى على تأييد فكرة التدخل العسكري المحدود قبل أن تدخل واشنطن إلى الساحة.
ومع ذلك فشلت الخطة الفرنسية بهذا الصدد نتيجة عدم استعداد الدول الأوروبية الأخرى للتورط في مثل هذه المبادرة الخطيرة، وقد تجسد ذلك في المعارضة البريطانية العنيدة للتدخل العسكري، حتى إذا مثل هذا التدخل محدودا. فبريطانيا تدرك جيدا مخاطر التورط في حرب عصابات في أراضي يوغوسلافيا الجبلية. والإدارة الأميركية، من جانبها، كانت تذكر العالم باستمرار طوال العام 1991 بأن أوروبا هي التي تعالج مشكلة يوغوسلافيا. وكان الشيء الذي لا تقوله واشنطن علنا في هذا الصدد هو" انظروا كيف تبدو الدول الأوروبية قليلة الحيلة وغير قادرة على الحركة من دون مشاركة الولايات المتحدة". وفي أيار مايو الماضي صرح أحد المساعدين المقربين من وزير الخارجية الفرنسية رولان دوما لكاتب هذا المقال: "إن اهتمام بيكر بيوغوسلافيا ينصب على إظهارنا في صورة سيئة". وقد رفضت هذا التفسير للسياسة الأميركية، وقلت أن أميركا لا يمكن أن تهتم بانتشار الأزمة حتى تهدد استقرار أوروبا، بصرف النظر عن المناورات الديبلوماسية. وليست لدي أسرار تدعم ما أقوله في هذا الصدد، ولكنني أكدت لهذا الديبلوماسي الفرنسي توقعاتي بان القوات العسكرية الأميركية والأوروبية ستدخل يوغوسلافيا قبل نهاية العام الحالي.
الخيارات العسكرية
ويبدو أن توقعاتي ستتحقق بالفعل لأن الرئيس ميتران وضع سمعته الشخصية في الميزان من أجل تحرير ساراييفو من قبضة الصرب. ولكن من الصحيح أيضا أن الولايات المتحدة - وخصوصا البنتاغون، وأيضا الرئيس بوش في عام الانتخابات - لا ترغب في رؤية قواتها متورطة في مستنقع يوغوسلافي.
وباستثناء وقوع حرب برية واسعة النطاق في يوغوسلافيا، هناك خيارات عسكرية أخرى كثيرة يدرسها المسؤولون الغربيون حاليا ويمكن أن تمهد الطريق أيضا على المدى الطويل للتدخل الكامل - إذا دعت الضرورة إلى ذلك - من أجل وضع حد للمطامع الصربية.
والخيار الأول في هذا الصدد يتمثل في استخدام القوات البحرية والجوية من أجل دعم المقاطعة التي فرضتها الأمم المتحدة على التجارة في بلغراد. وسوف يعتبر ذلك تجسيدا لرغبات الرأي العام الغربي، لكن لن تكون له فائدة سياسية أو واقعية كبيرة، إذ تتم عمليات التهريب عن طريق البر، وليس عن طريق البحر أو الجو. والأهم من ذلك أن الهدف غير المعلن للمقاطعة التجارية هو التسبب في مصاعب اقتصادية تؤدي إلى الإطاحة بالزعيم الصربي ميلوسيفيتش غير المرغوب فيه. وليست هناك أسباب كثيرة تدعو إلى الاعتقاد بأن المقاطعة الاقتصادية يمكن أن تؤدي إلى مثل هذا التأثير بالنسبة للزعيم الصربي ميلوسيفيتش الذي يتمتع بجهاز شيوعي قوي للقمع.
والخيار الثاني يتمثل في استخدام القوة العسكرية لحماية القوافل التي تحمل الأغذية والإمدادات الطبية لتخفيف الضغط عن ساراييفو وأية مدن أخرى محاصرة. ومن الناحية العملية سيتم تنفيذ ذلك على الأرجح عن طريق القوات الجوية المجهزة بصواريخ "سمارت" والأجهزة الإلكترونية الأخرى التي تم استخدامها بكفاءة في عملية عاصفة الصحراء. وسينم استخدام هذه الطائرات لإسكات أي قصف مدفعي على قوافل الإمداد. وبمجرد اتخاذ هذه الإجراءات ضد المدفعية الصربية، يمكن التوسع في العملية لإبطال مفعول القوات الجوية الصربية، وأيضا لإسكات أية أسلحة صربية ثقيلة يتم إطلاقها أو تحريكها إلى مواقع جديدة لتوسيع نطاق الحرب. وهذا هو الخيار الأرجح، ولكن ربما لا يتم تنفيذه فورا بسبب انسحاب صربي تكتيكي على أمل أن يتحول اهتمام العالم إلى قضية أخرى. وفي الوقت ذاته يمكن أن يتم تنفيذ هذا الاحتمال في المستقبل القريب لأن قادة الصرب لا يبدون أي استعداد للتخلي عن أحلامهم الجامحة.
وينطوي الاحتمال الثالث - وهو غير وارد على الإطلاق في المرحلة الحالية - على استخدام القوات البرية في أراضي يوغوسلافيا القديمة بدء بالقرى الآمنة التي لا يرغب سكانها في المشاركة في الحرب الأهلية. وتبدأ قوات حفظ السلام في الانطلاق في هذه المواقع لكي تنضم بالتدريج وبحذر مع سكان القرى الأخرى المشابهة لكي تشكل في مرحلة لاحقة مساحات واسعة يمكن الدفاع عنها بسهولة وتمثل سياجا يعترض طريق الهجمات الصربية.
وتعارض وزارة الدفاع الأميركية بشدة هذه الخطة الطموحة التي تعتمد أساسا على مبدأ "التحييد" الذي تم استخدامه في فيتنام.
ويرفض البنتاغون الدخول في حرب يمكن أن تؤثر على الروح المعنوية للجيش الأميركي الذي أدى نجاحه في منطقة الخليج إلى مسح آثار الهزيمة التي تعرض لها في فيتنام.
وهناك احتمال رابع ينطوي على إرسال فريق قوي من المراقبين إلى كل المناطق التي تشترك في الحدود مع صربيا في محاولة لمنع بلغراد من استخدام عمليات الاستفزاز لتوسيع رقعة النزاع.
وينصب اهتمام الجهات الخارجية المهتمة بهذا النزاع الآن - في أوروبا وأميركا والشرق الأوسط - على احتواء المشكلة اليوغوسلافية، وبذلك تصبح مأساتها العميقة قاصرة على الأطراف التي عانت منها، وحتى لا يتكرر وقوعها في أي مكان آخر من العالم.
* المحرر الديبلوماسي لصحيفة "الهيرالد تريببيون"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.