أخيراً وصل فيلم ستيفن سبيلبرغ الجديد، والمنتظر منذ سنوات، الى الشاشات الاميركية، ولم يخيب الجمهور ظن الموزعين والمنتجين، بل تدفق بشكل لم يسبق له مثيل: 50 مليون دولار، حققها الفيلم على شكل ايرادات خلال الايام الثلاثة الاولى للعرض، والبقية تأتي. فيلم "جوراسيك بارك" الذي كتبه مخرج منحوس، وحققه واحد من اصحاب اكبر الماكينات الهوليوودية وتتولى بطولته حيوانات ما قبل التاريخ، بينما يكتفي العلماء فيه بالثرثرة ومطاردة مخلوقاتهم حين تغضب وتثور. هو الحدث السينمائي الاميركي لهذا الصيف، وسيكون الحدث السينمائي العالمي خلال الخريف المقبل. الحكاية هي، باختصار، حكاية جزيرة، وحديقة للحيوانات وثلاثة من العلماء الذين يمضون جل وقتهم في المناقشة، ورواية سميكة كتبها مخرج تزداد شهرته ككاتب وتتضاءل كسينمائي مع مرور الوقت، ورجل اعمال لا ضمير له، وطفلين، كما ينبغي ان يكون الامر في كل فيلم من افلام ستيفن سبيلبرغ، وسبعين مليون دولار هي مجموع ما انفق على الفيلم حتى اليوم، وخمسين مليون دولار، هي مجموع ما حققه هذا الفيلم من ايرادات خلال ايام عرضه الثلاثة الاولى في الصالات الاميركية، و12 يوماً هي الايام التي وفرها المخرج عن برنامج التصوير المعد سلفاً، ليس من اجل ضغط الموازنة بالطبع، ولكن لكي يتمكن من الذهاب الى بولندا لتصوير فيلمه التالي "لائحة شندلر"، وهو فيلم بالاسود والابيض يروي قضية اضطهاد النازيين الالمان للبولنديين، من يهود ومن غير اليهود خلال الحرب العالمية الثانية. هذا كله، اذا جمعناه الى بعضه وخلطناه وعصرناه، سنكون وضعنا انفسنا في مواجهة الفيلم الذي لم يتوقف الناس عن الحديث عنه منذ ما لا يقل عن عام كامل، وكان الحاضر - الغائب الاكبر خلال مهرجان "كان" الاخير. الحاضر لان اعلاناته ملأت جدران المدينة الفرنسية ولا سيما منها الاعلان المتحرك الذي اعتلى مدخل فندق الكارلتون العريق. والغائب لان كثيرين كانوا يتوقعون له ان يكون مفاجأة المهرجان، فلم يأت. وكان استنكافه عن الحضور واحداً من اكثر احاديث مهرجان "كان" انتشاراً. عوالم كريشتون الممكنة اذاً، في "كان" او من دون "كان"، ها هو ستيفن سبيلبرغ يخبط من جديد. وها هو ينزل الى الاسواق فيلماً من المؤكد انه سوف يضرب الارقام القياسية بالنسبة الى عدد الناس الذين سيشاهدونه، ولكن ايضاً بالنسبة الى مجموعات كميات الحبر التي سالت او ستسيل للحديث عنه. ففيلم "جوراسيك بارك" فيلم غريب ومدهش ومثير، ليس بسبب موضوعه طبعاً، فالافلام التي تتحدث عن الديناصورات، عرفت طريقها في الماضي الى الشاشة الاميركية وكان ذروتها الفيلم الذي حقق في الخمسينات من رواية سير آرثر كونان دويل "العالم المفقود"، ولكن بسبب التجديدات التقنية التي حكمت العمل فيه، تجديدات هي من التطور والاثارة بحيث يمكن القول دون تردد انها هي النجم الحقيقي لهذا الفيلم. يشهد على هذا ان كل ما كتب ونشر عن "جوراسيك بارك" حتى اليوم، وجه اهتمامه في المقام الاول، واحيانا وجه اهتمامه فقط، الى المسائل التقنية التي تتجلى من خلال العمل على هذا الفيلم. ولكن قبل التوقف عند هذه المسائل، لا بد لنا من استكشاف بعض العناصر الاخرى، وهي عناصر لا يقل بعضها طرافة وغرابة عن العنصر التقني المذهل في هذا الفيلم الغريب. واول هذه العناصر بالطبع حكاية الرواية التي منها اقتبست احداث "جوراسيك بارك"، فللوهلة الاولى تبدو المسألة عادية: رواية في اكثر من 500 صفحة من القطع الكبير وضعها مؤلف سبق له ان قرئ على نطاق واسع في عدد من اعماله السابقة، وها هي روايته الجديدة هذه تتحول الى فيلم ضخم، بعد ان قرئت منها مئات الوف النسخ. صحيح ان الفيلم لا يستخدم سوى 20 في المئة من احداث الرواية وصفحاتها، حسب ما يقول مايكل كريشتوف، مؤلف الرواية بنفسه. لكن هذا امر طبيعي ليس فيه شيء من الغرابة. الغرابة تكمن في ان المؤلف نفسه مخرج معروف، تدين له السينما ببعض افلام الخيال العلمي الناجحة مثل "وست وورلد" الذي قام فيه بول براينر ذات يوم بدور انسان آلي اتخذ ملامح راعي بقر في الغرب الاميركي، ومثل "كوما" الذي كان ولا يزال يعتبر واحداً من افلام الرعب الحقيقية. عالم مايكل كريشتون هو عالم الخيال العلمي الذي ينطلق من ابجدية الامكانية العلمية وبرسم احداث تقع على مشارف الغد المقبل دون ان تبتعد عنا كثيراً في الزمن، بمعنى ان عوالم كريشتون هي عوالم الممكن والمحتمل. وتبدو للوهلة الاولى وكأنه لا علاقة لها بعوالم ستيفن سبيلبرغ التي تعتمد على حسن المغامرة وعنصر الارهاب المجاني احياناً. ولكن عند هذه النقطة بالذات يكمن الفارق بين الكتاب الذي وضعه كريشتون والفيلم الذي حققه سبيلبرغ. لان ما اخذه هذا الاخير من الرواية ويمثل 20 في المئة منها كما يقول كريشتون يمثل العناصر التي تنتمي الى عالمه بحيث ان الفيلم سيبدو في نهاية الامر وكأنه يجمع بين ملامح "الفك المفترس" حيث الحيوان الضخم الذي ينطلق قاتلاً مدمراً وملامح مغامرات البحث عن الجوهرة الخضراء، اضافة الى حضور طفلين في الفيلم هما بطلاه الحقيقيان، مما يرمينا مباشرة في قلب عالم سبيلبرغ، خاصة وان المخرج يركز على جانب المغامرات. فيما يركز كريشتون في كتابه على الجانب العلمي. ثرثرة العلماء ومعجزات التكنولوجيا باختصار تدور احداث الرواية والفيلم حول لعبة التلاعب الجيني ويسميها البعض الهندسة الجينية التي مكننا اكتشاف عنصر "A.D.N" الاساسي في تركيب الكائنات الحية الوراثي من البدء بدراسات جدية لايجاد السبل للتحكم في المخلوقات. في حقيقة الامر لا نزال من الناحية العلمية بعيدين جداً عن تحقيق مثل هذا التحكم، ولكن في الفيلم يبدو الامر ممكناً، حيث نرى مجموعة من العلماء وقد تمكنوا بعد عثورهم على نقطة صغيرة من دم ديناصور يعود الى عصور ما قبل الطوفان، من استخدام نقطة الدم لصنع شتى انواع الديناصورات الحية. والطريف ان نقطة الدم تكون موجودة داخل ناموسة تحجرت منذ فجر التاريخ، فيأخذها العلماء ويشتغلون عليها مستخرجين عناصر ال A.D.N منها حتى يتمكنوا عبر التلاعب الجيني من تحويلها الى حيوانات عملاقة تعد بالعشرات وتتخذ شتى الاحجام التي كانت لها في تلك العصور الغابرة. طبعاً لا يفوت الفيلم ان يرينا النقاش محتدماً بين العلماء حول صلاحية ما يقومون به، خاصة وان هناك، كالعادة، عالماً يحذر من مغبة ما يفعلون. لكن في مقابل عنصر العلم هذا، هناك - وايضاً كالعادة - عنصر المال، اذ يطالعنا، رجل اعمال يمثل دوره السير ريتشارد اتنبورو، الممثل الانكليزي المعروف ومخرج "غاندي" و"شابلن" بين اعمال اخرى، يقرر ان يجمع الحيوانات العملاقة التي يتم انتاجها، في بارك يقيمه داخل جزيرة يشتريها لهذه الغاية. بعد هذا يصبح كل شيء ممكناً: الحيوانات التي تنطلق في ثورتها، الطفلان اللذان يلعبان دوراً اساسياً في التصدي لثورة الحيوانات، العلماء الذين يواصلون سجالاتهم، وخاصة عنصر الكارثة التي سيكون من شأنها - اذ يصورها الفيلم بالحجم الطبيعي - ان تجعل الذين لم يرتجفوا حين شاهدوا "دراكولا" كوبولا - وهم قلة على اي حال - يرتجفون هذه المرة عن حق وحقيق. فما الذي يجعلهم يرتجفون، هم الذين كان سبق لهم ان ضحكوا كثيراً امام حركة ديناصورات "العالم المفقود" ومغامرات كينغ كونغ؟ بكل بساطة: الاساليب التقنية التي استخدمت لتحريك الحيوانات، وليس مصادفة في هذا المجال، ان يكون 60 في المئة من موازنة الفيلم انفق على مشاهد التحريك بمعنى ان تلك المشاهد وحدها كلفت ما يزيد عن 40 مليون دولار. لو سألت مايكل كريشتون عن السبب الذي جعله، وهو المخرج المعروف، يستنكف عن تحقيق روايته بنفسه، لقال لك حقيقة ان الفيلم كان من شأنه ان يكلف كل هذه الملايين "في الواقع، يقول كريشتون، انا لم اكتب الرواية اولا لتتحول بعد ذلك الى سيناريو. بل كتبتها في المقام الاول على شكل سيناريو كنت أزمع ان احوله الى فيلم بنفسي، قبل سنوات. لكن سرعان ما تخليت عن الفكرة لانني ادركت ان ما من منتج سيقبل بأن ينفق عشرات الملايين على مثل هذا المشروع. فكان ان حولت السيناريو الى رواية افرغت فيها كل رؤاي وأحلامي العلمية. وبعد ذلك بزمن طويل دخل سبيلبرغ على الخط. وكان من المنطقي ان يتولى اخراج - وانتاج - الفيلم بنفسه فهو معتاد على هذا النوع من الخبطات الكبيرة". ما لم يقله كريشتون في كلامه هذا، عنصر مهم في الموضوع فالحال ان رواية كريشتون راحت تتخذ، بعد ان ايقن صاحبها استحالة تمكنه من اخراجها بنفسه، ابعاداً تجعلها قريبة من عوالم سبيلبرغ: عنصر الرعب الحيواني، الضخامة في كل شيء، حس المغامرة... الخ. فاذا اضفنا الى هذا واقع ان الاحداث كلها تدور في "بارك" وان سبيلبرغ، الى جانب عمله السينمائي يعتبر سيد هذا النوع من ادوات الترفيه دون منازع، حيث تعرف انه اسس، ضمن اطار ستديوهات يونيفرسال عدداً من الباركات التي تستعير مواضيع افلامه المشهورة، يمكننا ان نفهم اللعبة: ان نفهم ان كريشتون انما عاد وكتب روايته وفي ذهنه ان سبيلبرغ سينقض علىها ما ان يقرأها. وهذا ما حدث بالفعل. وكان من الطبيعي لسبيلبرغ الا يرى العمل ممكناً الا من خلال البعد التكنولوجي الذي اشرنا سابقاً الى انه البطل الحقيقي لپ"جوراسيك بارك". هو البطل الحقيقي لأن فيلماً من هذا النوع ما كان بامكانه ان ينجح ان لم تكن عناصره التكنولوجية متكاملة ومقنعة. فالفيلم كان من شأنه ان يسقط لو اتخذ اي حيوان فيه سمة سخيفة كشفت عن مقدار التلاعب الكامن خلفه. بمعنى ان نجاح الفيلم كان متوقفاً على عنصر الاقناع. فاذا اقتنع المتفرجون بأن الحيوانات التي يرونها حقيقية مئة في المئة نجح الفيلم، اما اذا تذكروا ولو للحظة انهم امام مخلوقات دمى من كاوتشوك وورق، وجلد مستعار، فان المشروع كله سيفشل. وكان التحدي كبيراً. لكن الذين رأوا الفيلم يقولون اليوم، ان سبيلبرغ والذين عملوا معه، تمكنوا من الاستجابة للتحدي بنجاح مذهل. كل ما سبق لعبة اطفال ولأن احداً لا يمكنه ان يقنع المتفرجين الذين يتدفقون اليوم لمشاهدة "جوراسيك بارك" بالملايين، ان الحيوانات التي يرونها على الشاشة هي دمى كبيرة الحجم. ابداً... ما يرونه انما هو مخلوقات حقيقية تنظر وتركض وتغضب وتتنفس وتحرك عضلاتها، بل وتحرك عشرات العضلات في وجهها الملتهب بنار الغضب حتى في اللقطات الكبيرة التي كانت الامتحان الحقيقي لامكانات الفيلم. ولكن خاصة للامكانات التي توفرها التقنيات الحديثة. التقنيات الحديثة لأن مثل هذا الفيلم ما كان بامكانه ان يكون ممكناً ومقنعاً، قبل سنوات قليلة. مثل هذا الفيلم كان بحاجة الى شتى التكنولوجيات الحديثة التي يوفرها الكومبيوتر. صحيح ان بعض المشاهد استخدم اسلوب الصورة/صورة، وبعضها الآخر لجأ الى اسلوب الصورة المركبة عن طريق الكمبيوتر... لكن هذا كان اضحى عادياً خلال السنوات الماضية، ولم يعد كافياً لمثل هذا الفيلم. وانطلاقاً من هذا الواقع، ولأن سبيلبرغ كان يريد ان يتفوق على المؤتمرات الخاصة الاعجازية التي تحققت لفيلم "ترمينايتور 2"، الذي كان يعتبر حتى ظهور "جوراسيك بارك" اهم تحفة فنية في هذا المجال، شكل أطقماً عدة وضع على رأسها بعض اكبر الخبراء الهوليووديين من الذين اعتادوا العمل مع شركة "انداستريال لايت اند ماجيك" المتخصصة في شتى اعمال الخدع السينمائية، والتي كان بعض مخضرميها مسؤولين عن كل الغرائب التي طبعت فيلم "الامبراطورية تشن هجوماً معاكساً" الذي حققه جورج لوكاس، رفيق ستيفن سبيلبرغ وزميله قبل سنوات، ومنها خاصة تلك الدبابات الحيوانية الطائرة التي اعتبرت تطوراً تقنياً عظيماً في حينه. يومها كان دنيس مورن هو الذي صمم تلك الدبابات، وهو بنفسه الذي تولى هذه المرة تصميم "التيرانوسور"، الذي لا يقل وزنه عن اربعة اطنان لكنه يتحرك في "جوراسيك بارك" وكأنه حصان عربي خفيف الوزن. الى جانب دنيس مورن، عمل على فيلم سبيلبرغ الجديد كل من ستان ونستون الذي كلف بتصميم السمات الخارجية للحيوانات، وفيل تيير الذي تولى مسؤولية البرمجة على الكمبيوتر، ومايكل لانتييري الذي اقتصرت مهمته على قراءة النص الروائي وتحديد المشاهد الممكنة تكنولوجياً منذ البداية. وجه الديناصور الغاضب "لقد كان من اسهل الامور علينا، يقول تيبر، الخبير في مسائل البرمجة على الكومبيوتر، ان نلجأ الى الاساليب التقنية المعتادة: الصورة المركبة، واسلوب صورة/صورة، لكن سبيلبرغ كان يريد اكثر من هذا بكثير، كان يريد حركة مقنعة، وحيوانات طبيعية. لذلك ارغمنا على الابتكار". والحقيقة ان الابتكارات والتجديدات لم تتوقف طوال فترة التصوير نفسها، على الرغم من ان الاستعدادات الفنية والتكنولوجية التي سبقت التصوير كانت استغرقت عامين واكثر. واليوم يضحك وينستون ويقول: "اقسم لكم ان ابتكاراتنا تواصلت بشكل راحت معه بعض المشاهد التي صورناها في البداية تبدو وكأنها صارت موضة قديمة". ولا بد ان نذكر هناان الابتكارات كلها قد تمحورت من حول قضية التحريك نفسها. فالاساس هنا كان ضرورة تصميم وتنفيذ حيوانات بالحجم الحقيقي بشتى الاحجام الحقيقية، في الواقع، اما الانجاز التكنولوجي فقام على تحريك تلك الحيوانات. وهو العمل الذي انجزته الطواقم التقنية بكل نجاح. والفكرة تبدو اليوم في غاية البساطة. فالخبراء التكنولوجيون درسوا مسبقاً كل الحركات الممكنة لكل الحيوانات التي تمكنوا من دراستها: حركتها في ركضها ومشيها ونومها واكلها واستسلامها لغرائزها وغضبها. درسوا عشرات الحيوانات في مختلف ظروف عيشها اليومي، ثم لقنوا كل تلك التفاصيل لعشرات الحاسوبات الآلية التي تولت تصنيف الحركات واختزنتها. وتلك الحاسوبات كانت هي التي تولت تحريك عشرات الحيوانات في كافة مشاهد الفيلم، محققة في هذا "بعض الامور التي تبدو لنا اليوم من قبيل العجائب العلمية، لكنها ستعم فيما بعد بحيث تصبح اموراً عادية" كما يقول ونستون. وحسبنا ان نشاهد اي لقطة من اللقطات المبكرة لأي حيوان من حيوانات الفيلم حتى نتيقن من هذا. ففي اللقطات المبكرة مثلا، سوف نلاحظ ان وجه الحيوان المصور يتحرك بأشكال عدة وفي كافة الاتجاهات تبعاً لتراوح نظرته بين الغضب والرضى... وهكذا. هناك بشر أيضاً لئن كان ستيفن سبيلبرغ، مخرج الفيلم ومنتجه اضطر الى عدم حضور آخر ايام العمل التقني على الفيلم، بسبب التزامه بمواعيد محددة لتصوير فيلمه الجديد في بولندا، تاركا مهمة انجاز اللمسات الاخيرة لصديقه جورج لوكاس، فان من شأن هذا الواقع ان يكشف لنا عن البعد غير الشخصي في هذا العمل. لقد سبق لنا ان اشرنا الى ان الجانب الاساسي في هذا لافيلم، كان الجانب التقني، وان النجوم الحقيقيين فيه، هم اولئك الخبراء التقنيون الذين حققوا ما يبدو اليوم معجزات صغيرة يندر ان عرف فن السينما ما يشبهها او يدنو منها. ومن هنا التساؤل حول الدور الحقيقي الذي يمكن للمخرج المبدع ان يلعبه في مثل هذا العمل. وستيفن سبيلبرغ لا يحمل، في الحقيقة، اوهاماً كثيرة حول دوره، فهو لم يكف عن القول حين كان يسأل عن الفيلم، وحتى قبل انخراطه في عمله الجديد، بانه اذا كانت هناك اسئلة ينبغي ان توجه لأحد بصدد هذا الفيلم، فان المخولين بالاجابة عنها هم اساطين التكنولوجيا الذي حققوا 90 في المئة من اشغال الفيلم. وبكل تواضع يرى سبيلبرغ انه هو شخصياً لم يحقق سوى نسبة 10 في المئة الباقية، وهذه النسبة تتضمن بالطبع، التخطيط للعمل ككل، وتصوير المشاهد التي ترينا الشخصيات البشرية في الفيلم. ويبتسم سبيلبرغ ويقول:"ان الشخصيات البشرية لا تلعب هنا سوى دور ثانوي، بالمقارنة مع الدور الذي تلعبه الحيوانات". ومن هنا كان من الطبيعي للفيلم الا يحمل اي اسم من اسماء النجوم الذين اعتاد سبيلبرغ العمل معهم، فاشخاص مثل شون كونري وهاريسون فورد وداستين هوفمان، كان من شأنهم ان يضيعوا في هكذا عمل. ومع هذا لا يخلو الفيلم من اسماء لامعة، ومن ابرزها كما اشرنا سابقاً: سير ريتشارد اتنبورو، ولكن ايضاً دورا ديرن وجيف غولدبلوم، وخاصة سام نيل، الذي رأيناه في فيلم "البيانو" يلعب دور زوج هولي هانتر. وهؤلاء الثلاثة يلعبون في الفيلم دور العلماء المسؤولين عن خلق الحيوانات والذين يجدون انفسهم مجبرين على التصدي للكارثة حين تقع... الكارثة التي كان غولدبلوم تنبأ بها، طوال المشاهد الاولى للفيلم حين نبه رفاقه من مغبة ما يفعلون. الديناصورات ستغزو كوابيسكم مهما يكن فان فيلم "جوراسيك بارك" صار اليوم حقيقة واقعة، ويهدد بأن يضرب كافة الارقام القياسية في عدد الحضور. وهو لئن كان بدأ يحقق وعوده في عروضه الاميركية، فان عروضه في شتى انحاء العالم لن تبدأ قبل الثامن والعشرين من تشرين الاول اكتوبر المقبل. في انتظار ذلك يمكن للناس ان يقرأوا الرواية التي ترجمت الى اكثر من عشرين لغة حتى الان، وجعلت اسم مايكل كريشتون على كل شفة ولسان، هو الذي لم تكن افلامه العديدة، رغم جودتها، حققت له اي شهرة على الاطلاق. وفي انتظار ذلك يمكن للناس ان يقرأوا عشرات المقالات حول الفيلم وتقنيته المتقدمة ويستعيدوا في اذهانهم افلاماً مماثلة: ليس افلام سبيلبرغ فقط، من "الفك المفترس" الى "البحث عن الجوهرة الخضراء" ومن "اللون القرمزي" الى "هوك" و"1942"... بل كذلك افلام من نوع "كينغ كونغ" و"الافق المفقود" و"العالم المفقود" وغيرها. وفي اثناء ذلك كله تدور الماكينة الهوليوودية بكل قوة. فمن ناحية يتبرع المخرج المنتج سبيلبرغ ب 25 الف دولار لجمعية علمية جدية تعنى بشؤون الديناصور فتحول اسم قاعتها الرئيسية من "آنكيلوصور"، الى "نيديغوا بيفركيموريم" وهي كلمة مشتقة من اسماء ابطال الفيلم !، ويستعد روجر كورمان لتحقيق فيلم جديد عن الديناصور، وتصدر عشرات الكتب حول الموضوع، وتشتغل ماكينات المصانع لانتاج عشرات البضائع الشارات، العلب، القمصان، القبعات، التماثيل من كاوتشوك والعاب الفيديو وكلها تتمحور حول الفيلم وحيواناته، ولا تقل موازنة هذا كله عن 100 مليون دولار! "جوراسيك بارك" واحد من ماكينات هوليوود الاكثر ضخامة، وفيلم من الافلام الاقل شخصية وذاتية. ومع هذا هيئوا انفسكم ايها المتفرجون لساعتين من الرعب المتواصل، ولأيام تتلوها من الدهشة المتواصلة... فديناصورات "جوراسيك بارك" قادمة من اميركا بسرعة لتشغل احلامكم وكوابيسكم، وتقول لكم ان السينما لا تزال اكبر ماكينة لانتاج الاحلام والكوابيس والدولارات في عصرنا هذا.