مهما تطيرنا، ومهما انتقدنا او كتبنا او اعدنا النغمة نفسها، فمساحة التلفزيون في حياتنا تتسع وأضواؤه تتعدد الوانها. والتلفزيون ليس جهازاً حسناً وقبيحاً. التلفزيون اداة، يصبح عملها حسناً اذا تداولها أهل الخير او قبيحاً اذا تداولها غيرهم. وقد قرأت خبراً تلفزيونياً اميركياً اثار خواطري، هو ان كارتر براون مدير المتحف القومي للفنون بواشنطن، اعتزل منصبه ليصبح رئيس مجلس ادارة اول قناة من قنوات تلفزيون "الكابل" تبث عبر الاسلاك لا عبر الاثير الاميركية المتخصصة في الفنون الجميلة، ويبدأ ارسالها عام 1994. صرح براون بأن "المشاهدين في اميركا والعالم يحتاجون الى قناة مخصصة للفنون الرفيعة من المسرح والموسيقى والباليه الى الرسم والنحت... كما ان الجمهور العريض يرغب في التقرب من هذه الفنون الرفيعة ليكون عنها معرفة اوسع وأشمل، عن طريق الانباء والمقابلات والندوات والمواضيع الصحافية التلفزيونية". هذه الحكاية اثارت خواطري من جوانب متعددة. اول هذه الجوانب طبعاً، ان طبقة واسعة من المثقفين ومحبي الفنون الرفيعة في بلادنا العربية تفتقد هذا الاهتمام بالفن والابداع، وتعاني من تقصير التلفزيونات العربية الحكومية او شركات الانتاج التلفزيوني الخاصة، في هذا المجال. ويطالعنا اهل الانتاج والارسال التلفزيوني في كل الاقطار العربية بالمعزوفة المكررة عينها، وهي ان المشاهدين العرب تضجرهم الفنون الرفيعة، ويكرهون حتى ان تكون المسرحيات الادبية او الموسيقى او الفنون التشكيلية او الدراسات الفكرية، هي احدى الاختيارات المتاحة من خلال تعدد قنوات الارسال !، فهم اذا اذاعت احدى القنوات التلفزيونية مسرحية "السلطان الحائر" او "الفتى مهران" او "حلاق بغداد"، او ان اذاعت احدى القنوات برنامجاً للباليه او لفن التصوير او النحت... او بثت تحقيقاً مصوراً عن زيارة للاوبرا او لأحد المتاحف، فستحدث كارثة لم يسبق لها مثيل: اذ ان مشاهدي القنوات التلفزيونية الاخرى سيحتجون على اذاعة مثل هذه البرامج، في قناة لا يشاهدونها! وقد عرفنا في مصر منذ عشرات السنين، محطة اذاعية هي "البرامج الثاني" خصصت للمسرحيات العالمية والموسيقى، ولندوات عالية المستوى. لكن هذه الاذاعة الرائعة، ظل الرائعة، ظل مجال ارسالها يضيق حتى اصبح لا يغطي غير بعض احياء في القاهرة فقط. بينما كان المنطقي ان تصبح مثل هذه الاذاعة اليوم، بما حققته من نجاحات لا تنسى في مجالاتها، اذاعة دولية وعربية تعيد للثقافة العربية دوراً مفقوداً او مفتقداً في حياة الناس اليومية، وفي مجريات الامور الحضارية، في التعليم والمجالات العلمية وتقدم المجتمع. هذا جانب من النبأ اثار خواطري. الجانب الثاني المثير للخواطر، هو اننا على الرغم من انتشار الاطباق التلفزيونية فوق الاسطح في الاقطار العربية، فإن بلادنا لا تعرف بعد تلفزيون "الكابل"، علي الرغم من الحسنات الكثيرة التي يتميز بها عن تلفزيون "الاطباق" فهذا الاخير تم اختيار برامجه في الخارج، بينما تلفزيون الكابل لو تأسس في بلادنا، فإن اختيار برامجه - حتى الاجنبي منها - سيتم اختيارها وتحديدها فيبلادنا، حسب المعايير المحلية للرأي العام، وتبعاً لاهتمامات جمهورنا ومتطلباته الواضحة. وهذا الوضع عندي، افضل من الوضع الحالي لتلفزيون "الاطباق" الذي يعمق شعور العربي بالاغتراب عن العالم المعاصر، واحساسه باتساع الهوة وعمق الاختلاف بينه وبين الاخرين. فهذا الشعور له اثاره السلبية، وهو يتزايد في بلادنا مع تقدم وسائل الاعلام ووسائط التلفزيون، التي دخلت بيوتنا وتؤثر بالضرورة في حياتنا. تلفزيون "الكابل" يمكن ان تتحكم في اختياراته هيئات محلية وشخصيات اعلامية وثقافية عربية، تتدارك هذا الشعور المتزايد عند العربي بالاغتراب في العالم، او بالانبهار دون روية بأسلوب حياة الآخرين. "الكابل" عندي هو التلفزيون الافضل لبلادنا، شرط ان تتحلى السلطات بالانفتاح اللازم، لا ان تتحول سياسة البرمجة الى ممارسة رقابية جديدة تزيد من احساس الكبت والحرمان لدى الجمهور، وتعمق القطيعة وازمة الثقة بينه وبين حكامه. والميل في الغرب يختلف عن الميل في الشرق الى تلفزيون "الاطباق". فتلفزيون "الكابل" اكثر انتشاراً في الغرب - وقد زاد عدد مشاهدي "الكابل" في الولاياتالمتحدة من 17 مليون مشاهد عام 1980 الى 56 مليون مشاهد عام 1992 يختارون بين 37 قناة بث، وقد تزيد الي مئة قناة في السنوات المقبلة. والواقع التلفزيوني الجديد، لا بد ان يختلف معه، وبسببه، التوجه القديم للقيادات التلفزيونية. فبالامس، كان اتجاه القيادات التلفزيونية هو ارضاء اغلبية المشاهدين، وكان اساس التخطيط للبرامج يأخذ في حسابه ضرورة التوجه الى كل الفئات، بدءاً بربات البيوت ومحدودي الثقافة وأصحاب الميل للفنون التقليدية الدارجة او للثقافات الشديدة التبسيط والمألوفة لدى عامة الناس. وهنا التوجه كان له ما يبرره، ما دام البث يقتصر على قناة واحدة او اثنتين على الاكثر. ولكن التقدم التكنولوجي والاعلامي بوجه عام اتاح التعددية، وفتحت القدرة التكنولوجية المجال واسعاً امام انشاء محطات "الكابل" وامكاناته الواسعة. هنا يجب ان يتوقف المفكر والمخطط التلفزيوني للانتقال من مرحلة ارضاء الاغلبية حسب وجهة نظره الى مرحلة اشباع رغبات جميع المشاهدين وكل فئاتهم، وذلك بتخصيص قنوات لكل فئة منهم. وتعالوا هنا نحدد التعبير عن احتياج ورغبة فئة عريضة من المثقين العرب بوجه عام، والمثقفين في كل قطر عربي على حدة! فنحن ايضاً نحتاج الى قناة للفنون الرفيعة والثقافة العالية، وآن الأوان لأن تتنبه التلفزيونات الحكومية او الشركات الخاصة الى هذه الحاجة وتلك الرغبة. ولا يفوتني في هذه المناسبة ان أدعو المثقفين وأهل التذوق الرفيع للفنون في مصر وفي عالمنا العربي كله، الى مطالبة الاذاعة المصرية ووزارة الاعلام باعادة الاعتبار الى البرنامج الثاني الثقافي، وتجديد آلاته بحيث يستطيع ان يغطي ببثه العالم العربي كله. ان متذوقي الفن والثقافة العرب يستحقون، هم ايضاً، ان يكون لهم نصيبهم من الاثير، ومن الثمرات العالية للابداع العربي الفني والثقافي والاعلامي. والغرض من هذه المطالبة، ومن التعبير عن حاجات المثقفين وحقوقهم، ليس الا توسيع دائرة الانتفاع من قدرات الاذاعة والتلفزيون على قاعدة التنوع والتعدد واتساع رقعة الاختيار. التكنولوجيا اتاحت للتلفزيون والاذاعة هذه القدرة على التعدد وتنوع الألوان فلماذا نحصر رغبات المشاهدين والمستمعين، ونشد عيونهم الى لون تلفزيوني واحد ونضيق عليهم القدرة على الاختيار؟ لماذا ننكر عليهم تعدد المشارب والميول والاذواق والاحتياجات، متجاهلين الامكانات الحضارية الهائلة التي يقدمها التلفزيون على ابواب قرن جديد؟... * كاتب وناقد مسرحي مصري.