لأكثر من 50 عاماً شغل جهاز التلفزيون غرف جلوس بيوت الإميركيين، مشكلاً أجيالاً من المستهلكين الذين تشاركوا، عقوداً، اللحظات نفسها من خلال برامج بثت عبر شاشاتهم. إلا أن التحول في عالم الاتصالات الى وسائل جديدة كالكابل والساتلايت والفيديو أدى الى تجزئة هذه الكتلة الهائلة من المشاهدين وثمة تقنية جديدة تلوح في الأفق وتهدد بقلب كل شيء، رأساً على عقب، وهي التلفزيون الرقمي الذي من المقرر أن يحل في العام 2006 محل التلفزيون التناظري. ويستدعي هذا الاستحقاق الإعلامي ورشة ضخمة بدأت تأخذ طريقها الى محطات التلفزة التي تعمل ليلاً ونهاراً لاستبدال الأجهزة الرقمية بأجهزتها الحالية، وهي ورشة تكلف ملايين الدولارات، بينما تواصل الدولة مدّ الكابلات الخاصة بهذه التقنية عبر قنوات تحت الأرض لتصل الى بيوت كل الأميركيين. وتشير مراكز الاستطلاع الخاصة بوسائل الإعلام والإعلان الى أن التلفزيون يصل الى 98 في المئة من البيوت في الولاياتالمتحدة ويستخدمه 6،256 مليون مشاهد تزيد أعمارهم عن سنتين، ويبلغ عدد أجهزة التلفزيون قيد الاستعمال 228 مليوناً، نسبة 99 في المئة منها ملون، إلا أن حجم هذا العدد من الأجهزة لا يعني بالضرورة أن الأميركيين مسمّرون الى شاشاتهم. على رغم أن الخيارات مفتوحة أمامهم نظراً الى تعدد المحطات التلفزيونية التي هي بالمئات الى جانب شبكات الإعلام والكابل. ويفيد مركز أبحاث نيلسين لوسائل الإعلام أن تشغيل جهاز التلفزيون في المنزل يتم بمعدل سبع ساعات و12 دقيقة في اليوم. لكن مكتب الراديو الإعلاني يرصد أقل من أربع ساعات يمضيها الأميركي أمام الشاشة يومياً مسجلاً انخفاض نسبة مشاهدة البرامج الرئيسية Prime time بشكل دراماتيكي من 90 في المئة عام 1980 الى 47 في المئة عام 1997. وكلما زاد معدل دخل الفرد قلّت مشاهدته التلفزيون وزاد استماعه الى الراديو بحسب الاستطلاعات. فالأميركيون الذين يجنون أكثر من 60 ألف دولار سنوياً يشاهدون التلفزيون بنسبة 26 في المئة أقل من المشاهد ذي الدخل الأدنى، ويتم التمييز بين فئتين من المشاهدين. فهناك مدمنو مشاهدة التلفزيون ومن النوع الخفيف أو ال"لايت" الذي يشكل 40 في المئة من نسبة المشاهدين ككل وهو يمضي 90 دقيقة فقط من وقته أمام التلفزيون بين السادسة صباحاً ومنتصف الليل. وتصل نسبة أجهزة التلفزيون الموصولة بكابل الى 70 في المئة يتلقى أصحابها 54 قناة بث أو أكثر وتشير الإحصاءات الى أن المشتركين في الكابل هم الذين تجاوز دخلهم السنوي 50 ألف دولار. وأنفق الأميركيون خلال العام 1997 ما قيمته 8.29 بليون دولار على خدمة الكابل فقط، علماً أن هذه التقنية التي عرفت قبل عقدين واعتبرت العدو الرقم واحد للتلفزيون المحلي وشبكات الإعلام، تواجه تحديات جديدة أبرزها البث التلفزيوني المباشر بواسطة الساتلايت الذي تمكن خلال سنوات قليلة من جذب تسعة ملايين مشترك اليه. ويحصي نائب رئيس مكتب التلفزيون للإعلان جوزيف تيريناتو 16 ألف محطة تلفزيونية في الولاياتالمتحدة، 12 ألفاً منها تجارية وأربعة آلاف حكومية أو تتلقى معونات حكومية. وأنفق المعلنون خلال العام 1997 ما قيمته 42 بليون دولار على إعلانات تلفزيونية صُرف أكثر من 22 بليوناً منها على التلفزيونات المحلية وتوزعت ال20 بليوناً الأخرى كالآتي: 12 بليوناً منها على شبكات التلفزة وثمانية على الكابل. ويتوقع أن تصل قيمة ما ينفقه المعلنون على التلفزيون هذا العام الى 200 بليون دولار. ويتجه أكثر المعلنين الى التلفزيون لترويج منتوجاتهم لأنها أفضل وسيلة لمحاكاة المستهلكين وهي تدر أرباحاً طائلة. فالأميركي يريد أن يعرف كل شيء عن المنتوج الذي يحتاج اليه بما في ذلك سعره ومكان شرائه، وتعتبر التلفزيونات المحلية أفضل وسيلة لإيصال الرسالة الإعلانية وأبرز الإعلانات في هذه المحطات السيارات التي تأتي في المرتبة الأولى تليها الأطعمة السريعة ثم الكوكا كولا فماكدونالد. ولا يمكن تجاهل الدور الذي تؤديه المحطات الإذاعية، وعددها 11 ألفاً في الولاياتالمتحدة تبث على المستوى المحلي، وهذا عدد هائل بالمقارنة مع عدد السكان الذي يتجاوز ال 252 مليون نسمة، ففي العاصمة واشنطن وحدها عشر محطات تلفزيونية و45 محطة إذاعية معظمها تجاري وخاص. آلاف المحطات التلفزيونية والإذاعية تصل الى بيوت الأميركيين وسياراتهم على مدى 24 ساعة وتعمل في ظل نظام يضمن لها الحرية ويحميها. شعاره "إذا كنت لا تريده أن يُنشر فلا تدعه يحصل"، لكن الأميركيين لا يعنيهم من الأخبار سوى ما يتعلق بأحوال الطقس والرياضة ومتابعة برامج المصارعة إذا كان المشاهد رجلاً، والبرامج المتعلقة بالمنازل والحدائق والمسلسلات الاجتماعية إذا كان المشاهد سيدة. وفي ما عدا ذلك تتنافس المحطات على جذب المشاهد اليها عبر أخبار الإثارة وأبرز مثال فضيحة مونيكا لوينسكي. ويقول رئيس قسم الأخبار العالمية في محطة "فوكس" التلفزيونية براين نوبلوش "ان الأميركيين أقل معرفة بالعالم الذي حولهم. فهم قد لا يعرفون من هو جاك شيراك، والأولوية عندهم معرفة ماذا يحصل في ولايتهم ثم في بلدهم ككل". ويشير الى أن مفهوم الإعلام تغير في وسائل الإعلام الأميركية، "في الخمسينات والستينات كان الهدف إعطاء الناس ما يحتاجون اليه لا ما يريدونه. أما الآن فأصبح إعطاءهم ما يريدونه لأنهم يحتاجون اليه". ويفرض هذا النوع من الإعلام تنافساً على المشاهدين "فالكل منغمس في هذا ال"بيزنس" لأن الإعلام يعني أنك تبيع سلعة اسمها الأخبار والإعلانات وعليك أن تبحث عن مستهلكين". ويقول نوبلوش "بحسب إحصاءاتنا الناس يشاهدون التلفزيون 17 دقيقة متواصلة في اليوم وتختلف المدة خلال عطلة نهاية الأسبوع وتزيد منها الملاحق الأخبارية أو الاخبار الطارئة". وتشير رئيسة قسم الصحافة المرئية في جامعة سيراكيوز دونا هايز "ان تدريس البث الحي للأخبار أصبح، ومنذ أربع سنوات، ضرورياً في تعليم الصحافة بسبب كثرة استخدامه في المحطات التلفزيونية". وتعتقد "ان أصحاب المؤسسات الإعلامية يتجهون الى الإثارة لجني الأموال وهذا يؤثر في النوعية، لأن الأميركي يحق له أن يتملك عدداً كبيراً من المحطات في وقت واحد لكنه لا يحق له البث الى أكثر من 35 في المئة من المشاهدين". وتقول هاينز "اللافت في بعض المحطات انها تتحول من بث الأخبار الى الرياضة لأن هذا ما يريده المشاهد ولكن في أحيان كثيرة تتجاهل محطات عدة أحداثاً على حساب أحداث أخرى تصب في مصلحة المؤسسة الإعلامية وهي مصلحة تجارية بالطبع". ويعتقد الأستاذ الزائر في جامعة سيراكيوز تشارلز كروفورد "ان ما من محطة تلفزيونية تريد المخاطرة، والظهور الحي على الشاشة مطلوب جداً حتى لو لم يكن ضرورياً، لأن الناس يحبون البث الحي وما يحبونه يدر مالاً، لذلك فإن 80 في المئة من العمل الإعلامي اليوم في الولاياتالمتحدة هو تجارة استعراضية". لكنه في المقابل يؤكد حرية نقل الخبر بعيداً من تأثير المعلنين والممولين "وإذا علم صحافي بقضية تمس الأمن القومي فلا أحد يستطيع أن يفرض عليه تأجيل نشرها حتى ل24 ساعة. يمكن مقاضاة الصحافي في المحاكم بعد النشر، ولكن لا أحد يستطيع أن يحول دون نشره لها ولو كان الرئيس شخصياً". وتعتقد الأستاذة المساعدة في جامعة سيراكيوز كريستينا برس "ان هناك خيطاً رفيعاً يفصل بين ما تريد المؤسسات الإعلامية أن يشاهده الأميركيون وبين ما يريد المشاهدون رؤيته، وما هو ملاحظ ان الأميركيين لا يعرفون كثيراً عن الأحداث التي تدور داخل البلاد وخارجها. هم يعرفون العناوين الكبرى لأحداث كبرى كالانفجارات وعمليات الإرهاب، وبعدها يتراجع الاهتمام". وترصد برس تراجعاً دراماتيكياً في النشرات الأخبارية في المحطات الإذاعية لأن الصحافيين يفضلون العمل في التلفزيون على الإذاعة لأنه يجلب الشهرة أكثر". لكن الرأي العام الأميركي مؤثر جداً في القضايا العامة وهو في اعتقاد السيدة غايل باركر من مركز الصحافة الأجنبية "محافظ جداً ويستطيع أن يحدد مسار البرامج التلفزيونية صعوداً أو هبوطاً، تبعاً لتطابقها مع أسلوب حياته ومعتقداته، فالمسلسل الاجتماعي "ألن" الذي لا تزال تبثه إحدى محطات التلفزة في لبنان، توقف عرضه في الولاياتالمتحدة بعدما كان ضرب رقماً قياسياً في عدد مشاهديه، والسبب أن بطلة المسلسل جهرت بأنها سحاقية. وهذا سلوك يتنافى مع محاولة الأميركيين التشبث بالروابط الاجتماعية ورفضهم أنواع الشذوذ الجنسي". وتوضح السيدة باركر أن المعلنين في الولاياتالمتحدة يتجنبون ثلاثة أنواع من البرامج التلفزيونية: تلك التي تتناول الإجهاض والشذوذ الجنسي والترويج للجنس مع الأطفال والبرامج التي تتضمن كلمات بذيئة. لكن الرأي العام قد يكون تأثيره سلبياً في بعض الأحيان، إذ قد يعترض على برامج تتناول مثلاً الإسلام أو السود أو حتى استخدام اللهجة الكندية، ويؤدي هذا الاعتراض الى تحول مدينة بكاملها من محطة الى أخرى". لكن ثمة مفارقات في هذه الحرية الإعلامية تصل الى حد التناقض. فإذا كان الأميركيون يعرفون القليل عما يدور في النصف الثاني من الكرة الأرضية على رغم أن بلادهم تعتبر القوة العظمى في العالم، فإن الأقليات التي تعيش في الولاياتالمتحدة تكاد تعرف تفاصيل ما يدور ما بعد المحيطين الأطلسي والهادىء لحظة بلحظة. وطبعاً عبر إعلام غير أميركي لكنه يصدر ويبث في قلب بلاد العم سام. في ولاية كاليفورنيا وتحديداً في مدينة لوس انجليس تتداخل الحياة الأميركية مع الآسيوية، مشكّلة تجانساً قلّ نظيره في دولة أخرى. هي مدينة الكوريين والصينيين والتايوانيين والفيتناميين المفضلة يأتون اليها عابرين المحيط شباناً وشابات حاملين في حقائبهم بعض الأمتعة والكثير من الأحلام، ونقل هؤلاء الأميركيون الجدد ثقافاتهم وأشكال عيشهم معهم حتى أنهم استحدثوا اعلامهم الخاص، ويقول مدير المؤسسة الكورية للنشر والإعلام المرئي والمسموع ان الإذاعة والتلفزيون يخصصان عشر دقائق فقط للأخبار المحلية أي أخبار الولاياتالمتحدة والباقي لأخبار الوطن. ويشير الى أن نسبة 20 في المئة من الإعلانات تأتي من السوق الكورية وتبث الإذاعة المعروفة ب"إذاعة سيول" موسيقى كورية قديمة وحديثة في حين تطبع الصحيفة وهي "كوريان تايمز" بلغة الوطن ناقلة أخباره اليومية. الشركة التلفزيونية الأميركية المخصصة للجاليات الأجنبية منذ عشرين عاماً وهي KSCI متصلة بخمسة ملايين و900 جهاز تلفزيون منزلي في لوس انجليس وسان دييغو، وتبث على 18 قناة وتقدم الخدمة الإعلامية للسوق الوطنية الثانية الأكبر في سوق التلفزيونات. وتقول المسؤولة في المحطة "أن الجالية الآسيوية تنمو في سرعة في المنطقة وتعتبر الجالية الصينية الأكبر وتأتي بعدها الفيليبينية ثم الكورية، لكن البرامج الرئيسية في المحطة هي كورية لأن هذه الجالية لديها قدرات مالية أفضل من غيرها، علماً أن 50 في المئة من برامج المحطة هي لبرامج ال"توك شو" الصينية، وتعمل هذه المحطة من طريق بيع الوقت للمنتجين المحليين من أي جالية قادرة على انتاج البرامج. وهناك برامج متفاوتة التوقيت الموجهة الى السود واليابانيين والإيرانيين والكمبوديين والكوريين والفيتناميين والأرمن والهندوس والتايوانيين والإسرائيليين والعرب. وتشير الى أن التنافس شديد بين البرامج المصرية واللبنانية. وتقول ان البث الى الجالية العربية يتم منذ 18 عاماً إلا أن الوقت المحدد للبرامج العربية قليل نظراً الى قلة التمويل المقدم من هذه الجالية الى المنتجين، مشيرة الى أن في لوس أنجليس أيضاً ثلاث محطات تلفزيونية تبث باللغة الإسبانية موجهة الى الجاليات التي تتحدث بهذه اللغة. وتخصص هذه المحطة برامج لتعليم الجاليات الأجنبية على المواطنية الأميركية، وتبث بست لغات. ومن المحطات الإعلامية اللافتة اذاعة KMOJ التي تبث من مدينة منيابوليس في ولاية مينسيسوتا ومخصصة للمجتمع الآخر أو الأميركيين السود. ويوضح مديرها فوزوموزي زولو أن هذه الإذاعة غير تجارية، مملوكة من السود وموجهة الى الفئات الشعبية وهدفها التعليم والتوعية، وتتفاوت أعمار المستمعين اليها بين 30 و35 سنة بمعدل ست ساعات ونصف ساعة يومياً، ويبلغ عدد المستمعين عموماً 50 ألف مستمع ومعظم العاملين فيها من المتطوعين، أما التمويل فيعتمد الإعلانات ومخصصات ولاية مينسيسوتا. ويعتقد زولو "ان السود في أميركا ليسوا أحراراً، فالعنصرية لا تزال حية والسود يعانونها كما يعانيها الهنود مثلاً، ونحن نهدف عبر إذاعتنا الى المطالبة بالمساواة، الإعلام الأميركي يدور على فكرتين: النجومية والتمتع بالحياة، هو دائماً يقفز فوق الوقائع للحديث عن الزمن الجميل، ولا يرى الجزء الذي كان فيه السود عبيداً. ما نحاول أن نفعله أن نكون أولاً مسؤولين عن مجتمعنا وعندما نقدم الأخبار نقدمها من وجهة نظر أفريقية حتى الموسيقى التي نبثها ندعو الناس الى فهمها. وهناك أنواع من الموسيقى التي نتجنبها كتلك التي تتحدث عن المرأة كأنها أنثى كلب أو التي تستخدم كلمات مبطنة عن السود وتحط من شأنهم، أو تلك التي تروج لحرب العصابات، مهمتنا نحن الأفارقة الأميركيين أن نعلم أنفسنا ومهمة الأوروبيين الأميركيين أن يعلموا أنفسهم، وإذا استمعوا الينا فهذا ممتاز، دورنا أن نتعاطى مع "من نحن" وليس "من هم"، فنحن متساوون عندما خلقنا". جاء في كتاب "صحافة بلا أغلال" لوكالة الإعلام الأميركية "ان حق الشعب في رفع صوته من خلال صحافة حرة هو صفة تميز المجتمع الديموقراطي". ويجمع الإعلاميون الأميركيون على "أن صحافة حرة، أياً تكن تبعاتها، تبقى أفضل من نظام يتحكم بما نريد قوله"... انها أميركا.