مع استمرار صدور البيانات التي تحضّ هذه البلاد التي تقوم على أساس العدل والنظام بقدر ما تقوم على الاستقرار والضمان الاجتماعي والحريات وحقوق الانسان وتكافؤ الفرص، يبدو ان رئيسة الوزراء التركية الجديدة تانسو تشيلّلر تواجه من المشكلات ما لا طاقة لها على تحمله. اذ ان حكومتها لم تواجه منذ ان نالت ثقة البرلمان في الاسبوع الاخير من شهر حزيران يونيو الماضي سوى القلاقل والمشكلات على نطاق واسع. ذلك ان انقرة التي تواجه من ناحية ازمة امنية هائلة في جنوب شرقي البلاد حيث يخوض المقاتلون الاكراد معركة من اجل الاستقلال منذ عام 1984، تواجه الآن ايضاً قلاقل واضطرابات عمالية خطيرة، وطفرة، في ما يعتقد المسؤولون بأنه حملة اصولية بدعم من ايران، وتعايشاً سلمياً تهتز اركانه بين غالبية السكان من السنّة والأقلية العلوية اضافة الى فراغ السلطة في شؤون الدولة الاساسية وهو فراغ تملؤه القوات التركية المسلحة العلمانية عن طيب خاطر. وفي الاسبوع الماضي استخدمت الشرطة في العاصمة انقرة خراطيم المياه ضد موظفي الحكومة للمرة الأولى منذ اكثر من عقد من الزمن عندما اخفقت تشيللر في منحهم زيادة كافية في رواتبهم. كما ان الاضراب العام لمدة يوم واحد في كل انحاء البلاد تحول تظاهرات شاملة. وفي وقت سابق من هذا الشهر خرج آلاف السنّة الى شوارع مدينة شيواس واتجهوا الى الفندق الذي كان ينزل فيه الكاتب عزيز نيسين وغيره من الضيوف الذين يحضرون احتفالاً شيعياً، وأحرقوا الفندق. وأدى ذلك الى مقتل سبعة وثلاثين شخصاً في ما يبدو انه عرض متعمد للقوة. اما الذريعة فهي الخطاب الذي القاه نيسين ناشر صحيفة "أيدنليك" التي نشرت ايضاً مقتطفات من كتاب سلمان رشدي "الآيات الشيطانية". رسالة خاطئة؟ وربما كان هناك الآن من يلومون تشيللر على ما حدث وعلى تشجيع الفئات الدينية في البلاد بسبب اشاراتها المتكررة في مؤتمر حزب الطريق المستقيم الذي اختارها رئيسة للوزراء، الى الله سبحانه وتعالى والى الاسلام. اذ ان العلمانيين يقولون ان رئيسة الوزراء وجهت رسالة خاطئة منذ ان اعلنت انها ترغب في "سماع الآذان في كل مدينة في تركيا". اذ يقول مصدر عسكري رفيع المستوى في أنقرة: "كان ذلك غلطة جسيمة. اذ انها ربما اعطت بذلك الاشارة التي كانت تنتظرها جهات عدة". لكن الاخطاء ليست امراً نادر الحدوث بالنسبة الى تشيلّلر فهي امرأة معروف عنها انها اجبرت زوجها على ان يسمي نفسه باسم عائلتها بدلاً من ان تسمي هي نفسها باسم عائلة زوجها. وهي امرأة لم تختبر المعترك السياسي لأكثر من عامين ومع ذلك فهي اول امرأة تتولى رئاسة الوزراء في تركيا. ولهذا كانت ايامها الأولى في المنصب اياماً عصيبة. ولم تعترف مع ذلك بأنها متوترة الاعصاب وتؤرق المشاكل مضجعها الا اخيراً. وفي هذا ما يوضح لماذا اشارت الى الرئيس الاذربيجاني ابو الفضل التشي بيه مرات عدة على انه "علي بيه" كما اشارت الى تصويت البرلمان على الثقة بحكومتها على انه "تصويت على الأمن". الا ان اسوأ اخطائها هو انها أبلغت البرلمان في اليوم التالي لاحراق الفندق في شيواس ان "صاحب الفندق هو الذي احرقه". وإثر ذلك تبين انها مزجت بين فندق شيواس وفندق آخر احترق في الاسبوع السابق في مقاطعة وان. الارهاب المشكلة الأولى الا ان هذا كله يمثل الجانب الخفيف من المشكلات التي تواجهها تشيللر وأنقرة الآن. اذ فور تولي رئيسة الوزراء الجديدة التي درست في اميركا وليست لديها اي خبرة على الاطلاق الا في المجال الاقتصادي، منصبها واجهت ما دعاه سلفها الرئيس الحالي سليمان ديميريل "مشكلة البلاد الأولى" وهي الارهاب. فقد صعد حزب العمال الكردستاني عملياته العسكرية خارج تركيا وداخلها بعد هدنة شهرين انتهت في ايار مايو ما ادى الى مقتل العشرات كل يوم. فمن قواعد الحزب في ايران وفي شمال العراق الخاضع للسيطرة الكردية وفي ارمينيا دخل مئات من المقاتلين الاكراد لكي ينضموا الى الحملة الجديدة في تركيا. ويقدر بعض المصادر العسكرية التركية هذا العدد بحوالي عشرة آلاف رجل. وبضغط من القادة العسكريين الاتراك الذين بنوا مبادئهم على افكار مؤسس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال اتاتورك قررت تشيللر فجأة ان تنكر حتى وجود مشكلة كردية في تركيا. اذ قالت في الاسبوع الماضي مرددة ما قاله لها كبار ضباط الجيش حين اجتمعوا اليها: "ان المطالبة بحقوق كردية واذاعة وتلفزيون كرديين وتعليم كردي ليست سوى مطالبة بتقسيم تركيا مرحلة بعد اخرى". وواقع الحال هو ان رئيسة الوزراء، على رغم خطط الحكومة لتشجيع الاستثمارات في جنوب شرقي البلاد، وعلى رغم برنامجها لتعويض العاطلين عن العمل، ومنح القروض الزراعية من دون فوائد، وعلى رغم الحوافز الاخرى التي اعلنتها، أدارت ظهرها كلياً لخطط الاصلاح التي كان الرئيس الراحل تورغوت اوزال اعلنها، كما ان الحكومة تخلت عن مسؤولياتها كاملة تجاه القضية الكردية للجيش. فالعسكريون عموماً يحاججون بأن الحقوق الكردية ليس لها اي وجود، وهي في رأيهم مخططات لتقسيم البلاد. كذلك يرى جنرالات القوات المسلحة ان جنوب شرقي تركيا سيصبح في سلام وأمان بمجرد الحاق الهزيمة بالارهاب. وانطلاقاً من هذه الحجة شنت القوات التركية قبل بضعة ايام حملة شاملة من القمع على وحدات حزب العمال الكردستاني، بل هناك تكهنات الآن مفادها ان تركيا ربما عادت الى شمال العراق بدعوى ضرب قواعد الانفصاليين. كأن هذه المشكلات ليس فيها ما يكفي لحكومة تشيللر. فسياستها الاقتصادية لم تترك اي اثر في البلاد. وفي هذا ما حدا برئيس الدولة سليمان ديميريل الى القول الاسبوع الماضي ان اضطرابات الموظفين الحكوميين كانت نتيجة الافراط في الوعود بتحقيق الآمال. ولربما كان هذا صحيحاً لأن تشيللر بالغت في الوعود من اجل تحسين سمعتها عند الناخبين. وهناك من يقول ان رئيسة الوزراء كانت اصلاً وزيرة الاقتصاد في حكومة ديميريل، ولو كان في وسعها ان تحقق المعجزات كما تقول الآن لكانت فعلت ذلك حين كانت وزيرة. امامها الكثير لتتعلم اما سمعة تشيللر الطيبة في الخارج فتعود في الدرجة الأولى الى دراستها في الولاياتالمتحدة والى انها رئيسة وزراء في بلاد اسلامية التوجه. لكن جميع الاتراك يتفقون على ان امامها الكثير مما يجب ان تتعلمه في مجال السياسة الخارجية. اذ تقول مصادر مقربة من الحكومة ان اول شيء فعلته تشيللر بعد انتخابها رئيسة للوزراء كان الطلب من ولكان ورال وهو سفير مقتدر مخضرم ان يصبح مستشاراً خاصاً لها. وفي هذا ما يفسر اتخاذ معظم قرارات السياسة الخارجية هذه الأيام بعد التشاور مع ورال الذي يعمل بمباركة وزير الخارجية حكمت تشيتين. وقد لا يكون هناك ذنب لرئيسة الوزراء في فشل السياسة الخارجية التركية هذه الأيام، لأن اللوم يقع على حكومتها الائتلافية مثلما هو الحال بالنسبة الى جميع الحكومات الائتلافية حيت يتعلق الامر بالسياسة الخارجية. وفي هذا الصدد يستشهد المراقبون بأمثلة عدة من بينها اخفاق تركيا في ضمان اي استجابة غربية تجاه المذابح التي يتعرض لها المسلمون في البوسنة، واساءة التصرف في اذربيجان ما ادى الى هزيمة الرئيس أبو الفضل التشي بيه الموالي لتركيا، واستمرار محنة قبرص. وفي الوقت نفسه يعارض القادة العسكريون في جنوب شرقي البلاد بقوة اقامة اي "علاقات ديبلوماسية وثيقة" مع دول مثل ايرانوالعراق لأنهما في رأيهم تؤيدان "الارهاب". وهكذا تجد تشيللر نفسها في مواجهة الكثير من المشكلات التي لا بد لها من معالجتها سواء أبت ام ارادت. وأمامها لكي تبدأ في ذلك اربعة اشهر قبل انعقاد المؤتمر العام لحزبها في تشرين الثاني نوفمبر المقبل. اذ ان وفود الحزب اختارتها رئيسة الشهر الماضي ولكن من دون موافقة نواب الحزب في البرلمان. ولهذا فان قدرتها على السيطرة على الحزب محدودة. يضاف الى ذلك ان الناخبين الاتراك يعرفون ان ديميريل لم يكن بين مؤيديها حين تولت رئاسة الحزب والحكومة. وتقول المصادر المقربة من ديميريل انه يرى ان الاشهر الاربعة التالية تحت رئاسة تشيللر اشهر ضائعة. لكن الجميع متفقون على ان معالم الصورة الكاملة لن تتضح الا اذا حلت المشكلة الكردية. الجنوب الشرقي ومستقبل الديموقراطية في هذه الاثناء تستمر اراقة الدماء في جنوب شرقي تركيا حيث زاد عدد القتلى في الاعوام التسعة الماضية على ستة آلاف وثلاثمائة شخص. واذا نجح العسكر فعلاً في التعامل مع الارهاب مثلما وعدوا مراراً، وهو نجاح لن يتحقق الا بالاجراءات العسكرية وحدها، فان نجاحهم سيكون نجاحاً لرئيسة الوزراء التي تخلت عن جميع صلاحياتها في هذه القضية للعسكر. لكن السؤال المهم هو: ما الذي سيحصل اذا فشلوا؟ تبعاً لما يقوله رئيس هيئة الاركان العامة الجنرال دوغان غورس ليست هناك بدائل او خيارات كثيرة امام تركيا. اذ قال الاسبوع الماضي: "اذا لم نهزم الارهاب بحلول فصل الشتاء فان تركيا ستواجه مرة اخرى امكان حكم القانون العسكري". بمعنى آخر: لم يعد مجرد مستقبل حكومة تشيللر فحسب مرتبطاً بالازمة الكردية بل مستقبل الديموقراطية التركية ايضاً. ومع استمرار اراقة الدماء، وتوارد الانباء عن انتهاك حقوق الانسان في صورة مضطردة، وانتشار الارهاب تدريجاً في المنتجعات السياحية، وتصاعد التوتر بين الطوائف الاسلامية في البلاد، وازدياد عدد قواعد الانفصاليين في الدول المجاورة، وارتفاع نشاط الاصوليين الذين ترعاهم ايران، والتردي الاقتصادي، نجد أن العدّ التنازلي من اجل ايجاد حل سريع قد بدأ بسرعة. وما لم تباشر تشيللر معالجة هذه المشكلات كلها خلال فترة قصيرة فان الاتراك سيخلصون قريباً الى نتيجة بسيطة هي ان الصورة الاعلامية التي يساندها الغرب لرئيسة الوزراء التركية الجديدة ليست سوى صورة خالية من اي مضمون.