وليد اخلاصي من الكتّاب البارزين في سورية والعالم العربي منذ الستينات، توزعت ممارسته الابداعية على القصة والمسرح والمقالة والنقد الادبي. ويحاول الكاتب عبر مختلف مجالات نشاطه، اختيار كتابة جديدة تطبع شخصيته الادبية المميزة، مستفيداً من مخزون التجربة المعاشة ومن المناخ الاجتماعي العام. فاذا بالنص المنفلت من عقال القوالب المتعارف عليها، قد تخلص معه من الاعباء التقنية متخذاً لنفسه اشكالاً جديدة قادرة على احتواء التجربة. واذا بالكتابة تستحيل هنا تمريناً دائماً، وبحثاً متواصلاً عن الاسلوب، كأن النشاط الابداعي في النهاية لعبة قابلة للتكرار والتنوع، وتركيب فني يبدأ من البنية العضوية لأي اثر. حول بعض جوانب تجربته الادبية، كان ل "الوسط" مع الكاتب السوري المعروف هذا الحوار الذي يضي ءبعض الجوانب المجهولة من عالمه والذي بدأناه بالسؤال الآتي: * اختبر وليد اخلاصي انواعاً ادبية عدة من القصة والرواية والمسرحية، فما المجال الذي يبقى الاقرب اليه، وأين يعثر على مقعده المريح؟ - عندما اضع على الورق حكاية صغيرة او طويلة، قصة او رواية، فان احساس "الحكواتي" يلازمني، وأشعر بمتعة حقيقية تدفعني الى الانزلاق في شرك الاسترسال. الا ان سيطرة الاقتصاد اللغوي على تكويني العقلي تكبح جماح تلك المتعة وتقصقص اجنحتها الساعية الى الانفلات. وعندما اكتب نصاً درامياً، اتخيل نفسي مباشرة على الخشبة. فأنا لا أتقمص الادوار الانسانية وحسب، بل اتماهى مع المكان المتخيل بتفاصيل الديكور او بقع الضوء او مقطوعات الموسيقى. هكذا تكون النشوة المسرحية الحقيقية قد استحكمت كلياً. اما المقالة او الدراسة فتحيلني اثناء الكتابة الى مواقع حياتية صارمة. كما السياسي او الخطيب او الاستاذ في المدرسة وهم يحاولون التغيير والتوجيه وربما في حالات معينة القمع. وبينما تكون الفرصة متاحة احياناً لظهور رغبة التسلط والاستبداد في المقالات والدراسات التي اكتبها، فان مثل تلك الرغبة تختفي تماماً في القصة او الرواية او المسرحية. كنت في بداياتي الاولى اعمل على استقطاب الانظار. كان همي هو الافصاح عن نفسي، ثم رحت بعد ذلك اسعى بشكل تدريجي الى تركيز الضوء على افكار وقيم كنت احلم بها وأتمنى ان اناضل من اجلها. انني في كل الاحوال ابحث عن نفسي من خلال ما اكتب، ويخيل اليّ عندما انتهي من كتابة نص فني ما، انني قبضت على نفسي. لكن العمل على النص الذي يليه يلغي تلك الراحة. قد تكون اكثر اللحظات قرباً الى الراحة النفسية، هي تلك التي اصاب فيها بالعقم فلا استطيع ان اكتب حرفاً واحداً. وقد تستمر هذه الحالة اياماً بل شهوراً. ذلك انني ادرك فعلاً ما معنى ان اكتب خلال حالات "اللاكتابة" تلك، تماماً كما يحدث للمحب الذي يعيش المعنى الحقيقي لحبه خلال لحظات انتظار حبيب قد لا يأتي. عندما اكتب، اي نص كان، بالعفوية والتألق اللازمين، فانني افكر كثيراً بالعدم والموت. وعندما تشح القدرة على الكتابة لا يكون هناك سوى احساس واحد هو التعلق بالحياة والتمسك بالوجود. وان ضغط العدم والشعور بالموت يتزايدان في حالة التماهي مع فعل الكتابة، الى ان يبلغا درجة الصفر حين انتهي من النص، بينما يقتصر تعلقي بالوجود والحياة على ايام اللاكتابة. وقد يكون ثمة شخص آخر بداخلي هو الذي يكتب ويخلق تلك العوالم البديلة، فكأنه يحاول اعدامي عند كل خطوة من خطوات الكتابة. ومثل هذا الشخص ليس له اي اثر في حالة انتفاء الابداع. لست انا، في كل الاحوال، من يحدد جنس النص. فالقصة تولد قصة، وكذلك المسرحية. ان الشكل الفني النهائي هو الذي يفرض نفسه، وعندما يحدث التطابق بين الشكل والفكرة يجد النص نفسه في المقعد المريح. اللغة هي الكاتب * هل الواقع لديك هو احدى ركائز الكتابة؟ كيف يعثر وليد اخلاصي على مادته الابداعية؟ - الواقع الفني هو اكثر الحقائق بعداً عن الواقع الملموس والمعاش. فالأول يقدم نموذجاً عما يجب ان يكون عليه الثاني. لا شك في ان الفضاء الذي يحيط بأرض الواقع هو الرحم الذي تنمو فيه الافكار المركبة. وأنا لست بعيداً عن الواقع، لكني لست اسيراً ولطالما حاولت ان اخلق الواقع الفني، وهذا التخيل ليس وهماً او حلماً في الفراغ، بل هو امتداد للواقع نفسه. والكتابة الابداعية، من منطلق تبسيطي، هي لغة وأفكار. اما اللغة فهي الكاتب، وأما الافكار فهي انعكاس الحياة بكل ابعادها الزمنية واتجاهاتها وأحوالها العامة الداخلية والخارجية، الافكار هي العلاقات والمواقف المختلفة. والنص المعافى، اي الذي يولد بشكل طبيعي، هو حالة التلاقي المتكاملة والعفوية بين اللغة والفكرة. انها الصور التي عثرت عليّ في اللحظة التي كنت اعثر فيها عليها كثيرة. وهذه الاخيرة لا حصر لها، تصنف في خطوط عريضة هي التي شكلت اعمدة تفكيري وهواجسي بل ووجودي في كثير من الاحيان. لقد بت اعتقد ان الفن هو امثل اشكال العزاء للجنس البشري، ووسيلة بحث عن المعرفة او الحقيقة او المجهول، ودفاع عن كرامة الانسان وحقوقه، وكشف عما هو مزيف وسوقي وانتهازي ومتسلط، والقاء الضوء على ما هو صادق ونبيل. تلك هي مفرداتي، او لنعتبرها اهم الركائز التي يستند اليها فعل الكتابة عندي. عن طريق الكتابة احقق انسانيتي. وأتصالح مع نفسي الممزقة التائهة الضائعة في خضم الحياة. استطيع القول بأن هذا الفعل قد يخفي انانية ما في طياته، لكنها، انانية من نوع اخلاقي. * معظم شخصياتك، كما يتجلى مثلاً بوضوح في "موت الحلزون" من فئات متوسطة، والقصة السورية غرفت مادتها بشكل عام من هذه الشرائح. ما الذي يفرّقك عن سائر كتّاب القصة، على هذا المستوى، وما الذي يجمعك بهم؟ - لا مفر من الاقرار بأن مبدأ التقسيم الاجتماعي وفق الدخل الفردي، كان سائداً لزمن طويل، وما يزال ربما، في الدراسات او الاعمال الادبية، وذلك بتأثير من مبادئ ونظريات علم الاقتصاد التي طغت على ما عداها في فهم وتحليل مجريات الامور. ولست هنا لأناقش هذا المقياس ومدى دقته، بل لأؤكد على ان النماذج الفنية التي تشكل بنية النص وفعل القص، ترتبط ليس فقط بمثل ذلك المقياس بل بشرطها الانساني الواسع والمعقد، والذي لا يشكل الانتماء الطبقي الا جانباً من جوانبه. فالحقيقة التاريخية للبناء الاجتماعي عبر الفترة الزمنية التي نما فيها القص الفني السوري، والتي يمكن تحديدها بشكل تقريبي بنصف قرن من الزمن، تؤكد على ان المسار الاقتصادي يشير الى ثبات شبه نسبي للفئات المتوسطة ضمن النسيج الاجتماعي العام، مع التأكيد على ملاحظات لا بد منها لها علاقة بالتغييرات في بنية تلك الفئات في السنوات الاخيرة، اذ تراجع جزء منها الى خانة الفئات الفقيرة ولربما المسحوقة... وارتقى جزء آخر الى مرتبة الطبقة الانتهازية المستغلة التي تعكس ببراعة ظروف التغيرات الاخلاقية في العلاقة بين الانسان والمال وبين المواطن والمجتمع او بين الكائن الفرد والسلطة الكلية المقدرة بكل اشكالها المتباينة والمتناقضة. وقد اكون واحداً من الكتّاب السوريين الذين يعزفون النوتة نفسها في محاولات جادة للكشف عن حقيقة ما يجري، لكنني اختلف عن بعض زملائي في انني لا انطلق من افكار ثابتة او ايديولوجية محددة سلفاً. الا انني في الوقت نفسه لا اقف معادياً لأية عقيدة او ايديولوجية. اي انني لا اؤسس نصي على ارضية المماحكة الفكرية او العقائدية، كما انني لا احاول القيام بأي شكل من اشكال الدعاية المعروفة والسائدة، عبر ممارسة الكتابة لاثبات موقف جاهز. انا لا ابحث اصلاً عن بطل معين بل انه هو الذي يبحث عني عادة ليكون وسيطاً ادبياً: يأتيني بكامل عدته، ليرشدني بنفسه الى اللغة الفنية التي تناسبه، فيرتديها بحرية ثم ينطلق معي ونروح ننقب عن شيء ما. وأستطيع القول اني كاتب تجريبي في مرحلة ما زال فيها اليقين الجاهز اكثر حضوراً من الفن. لذا فان الالتقاء مع كتّاب آخرين له منطلق اساسي هو محاولة تحقق غريزة التجريب. المرحلة غير ناضجة؟ * الادب السوري، في غالبيته، يعتمد على ذاكرة فرد وتجربته، اكثر مما يعتمد على تاريخ حقبة او مرحلة. هل هو عجز عن المغامرة ام كسل، ام ان التاريخ اقل او اكبر من ان يتحول الى مادة ابداعية؟ - الأدب لا يمكن ان يكون تأريخاً، ولكنه لا يمكن ان ينفصل عن المسار التاريخي العضوي بأي حال من الاحوال، والمشكلة بظني هي في ان علاقة الادب السائد بالازمنة المعروفة الثلاثة، ما زالت علاقة قاصرة او مبتورة او احادية النظرة. ان التعلق بالرمز الماضي يؤدي عادة الى الجمود او الفخر المجاني او السلفية المنفلشة. واما الارتباط بالزمن الحاضر فهو يعني الواقعية الفجة ولربما التصوير الحسي او الفوتوغرافي، وهو على كل حال ادب له صفة الآنية. وكذلك فان الارتباط من طرف واحد بالمستقبل قد يؤدي الى الوهم او الحلم المريض، بمعنى انه يمكن ان يؤدي الى "فانتازيا" مفرغة من المضمون والحس بالتاريخ. الادب، هو المختبر الاكثر فعالية في الارتباط بكل مجالات الزمن وحقبه المختلفة، للوصول عبر ذلك التفاعل الى الشكل الفني المطلوب. ولكنني هنا اريد ان اشير الى ظاهرة لا بد من الاقرار بأحقيتها في البحث. فالحساسية السياسية او الاجتماعية، تمنع الكاتب احياناً من ربط نصه بمرحلة معينة، وفق شرط ابداعي كامل الحرية. وكثيراً ما يلجأ الكاتب الى تغييب مرحلة ما، او انه يلجأ الى الترميز المفتعل كي يتخطى عقبة ما، او انها ليست بأي حال مشكلة الكاتب بقدر ما هي مشكلة عدم نضج المرحلة السائدة والتي ما زالت تسيطر على الافراد وبعض المؤسسات القائمة. ثم ان الادب ليس هو الوجه العاجز الوحيد في بلورة المجتمع المتعدد الاسطح، بل ان الحقائق التاريخية نفسها ما زالت غير متوافرة للتداول بشكل دقيق ووثائقي. والكاتب الروائي على سبيل المثال، اذا اراد ان يُدخل في نسيج روايته مرحلة ما، ولو حديثة كمرحلة الاستعمار التركي او الفرنسي، فانه لن يجد قطعاً المراجع والوثائق الكافية او الوثائق المتاحة لتكون له سنداً، ومعظم ما له علاقة بالتاريخ في النصوص الادبية السائدة، يعتمد على الخبر المتناقل والاشاعات التاريخية المتواترة، والنظرة الفردية التي تأسس بعضها على مواقف مسبقة اكثر مما يعتمد على الوثائق التي تلجأ الآن معظم دول العالم الى تنظيمها ووضعها بين ايدي الباحثين والمبدعين على حد سواء. * وليد اخلاصي، لمن تقرأ في القصة والأدب السوريين، لمن تقرأ في القصة والأدب العربيين؟ - تستحكم فيّ منذ سنوات طويلة عادة مفادها البحث المستمر عن كتابات الاجيال التي تلين من حيث العمر والتجربة، او بالكتابات الاولى لأي كاتب يظهر على ساحة الادب. واعتقد ان مثل هذا الامر مرده الى خوفي المستمر من ان اصبح متخلفاً في ميدان التجريب والبحث عن نفسي وعن صيغ جديدة ومعاصرة. ثم انني اعترف بأن آخر الاهتمامات في سلم القراءات عندي هو الأدب كالقصة والرواية وغيرها. لأنني مغرم اكثر بقراءة العلوم بأشكالها الانسانية المختلفة: كالتاريخ وعلم الاجتماع، وكذلك الابحاث الفكرية والسياسية والدراسات التي لها علاقة بموقف نقدي دقيق وغير مجاني. الا ان هذا الامر لم يمنع متابعتي بشيء من الجدية والحب لنتاجات زملائي الكتاب من كل اتجاه ولون. وأستطيع القول انه على الرغم من تقدم الابداع الادبي فان تعثراً يرافقه على مستوى الكاتب او مجموع الكتاب. هناك كتّاب يصمتون بعد تألق، وهناك اعمال متميزة لم تتكرر بعد ذلك. الا ان العدل في النظرة الى المشهد العام يستجب منا الا نتوقع انجازات ابداعية متواترة بشكل منتظم. زكريا تامر اثار اهتمامي، وأقرأ لعبدالسلام العجيلي الذي اعتبره "حكواتياً" كبيراً، وصاحب مقالة منجزة بفنية عالية. محمد الماغوط اكثر الاسبقين فتنة. وأحب ادونيس منقباً في عالم الجماليات بازميل الشعر. سعدالله ونوس يجذب اهتمامي في امور المسرح وفي تنقيباته الفكرية، وفي دأبه الروائي المستمر. وهناك اسماء كثيرة معتقة وأخرى مستجدة، تعمل ضمن شروط صعبة لكنها تتجاوز العقبات باندفاع تستحق عليه الثناء، وتستوجب من المؤسسات الثقافية والتعليمية حصراً لجهودها ووضع المصنفات التعريفية بانجازاتها. بكشل عام، أنا اتابع باعجاب ما كتبه نجيب محفوظ. جبرا ابراهيم جبرا يشدني عمله الروائي وحسه الحضاري النقدي. الطيب صالح وعبدالرحمن منيف روائيان فاتنان. محمود درويش نجم لا يغيب عن فضاء الشعر. الاعمال الفكرية المتفوقة لعابد الجابري وهشام شرابي وادوار سعيد وصادق جلال العظم وآخرين تساهم الآن في بناء صرح فني فكري قد يتفوق بظني كل ما سلف من انتاج عربي قديم، او انه سيعطي للفكر العربي اهمية تفوق مجالات الابداع الاخرى. * لو أخذنا بمعايير الاجيال. الى اي جيل تنتمي؟ وما هي مفردات هذا الانتماء وتعبيراته؟ - من حيث العمر فأنا امثل قمة الكهولة، وأحمل ملامح الشيخوخة المقبلة وأمثل ذروة شباب الأدب الباحث عن نفسه في مغامرة التجريب التي لا حد لطموحاتها. انا ابن فترة جاءت بين حربين طاحنتين، وولدت خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي، وانتمي الى الكارثة الفلسطينية باليأس، وترعرعت في احضان الاحكام القبلية والأبوية لأتعلم التمرد والامل، وما زلت الرضيع الذي يستسيغ حليب الوطن الطبيعي في زمن يكاد الحليب الاصطناعي ان يسود، لذا فان اسنان الكتابة عندي ما زالت قوية لا تبشر بتسوس او بسقوط مبكر. أبرز أعمال وليد اخلاصي "قصص" مجموعة قصصية، دار مجلة الشعر - بيروت 1963 "العالم من قبل ومن بعد" مسرحيتان، دار الفن الحديث - دمشق 1965. "شتاء البحر اليابس" رواية، دار عويدات - بيروت 1965. "الطين" مجموعة قصصية، دار عويدات - بيروت 1971. "احزان الرماد" رواية، دار ابجد - بيروت 1975. "موت الحلزون" قصتان، اتحاد الكتّاب العرب - دمشق 1978. "الحنظل الأليف" رواية، دار الكرمل - دمشق 1980. "أوديب" مسرحية، المنشأة الشعبية - طرابلس الغرب 1981. "زهرة الصندل" رواية، دار الكرمل - دمشق 1981. "قطعة وطن على شاطئ" 4 مسرحيات، الدار العربية للكتاب - تونس 1983. "خان الورد" مجموعة قصصية، اتحاد كتاب العرب - دمشق 1984. "حكايات الهدهد" رواية، دار فكر - بيروت 1984. "اغنيات الممثل الوحيد" 4 مسرحيات، وزارة الثقافة - دمشق 1984.