بين قصته القصيرة الأولى «العيون الخضر» التي نشرها مطلع الخمسينات، ومجموعته القصصية الأخيرة «خزين اللامرئيات»(دار المدى، دمشق 2005) يمتد مشوار شائك، ووعر، وطويل، مليء بالأحلام، والخيبات، والآمال، والإبداع، مثلما هو مفعم بالشهرة، والتكريم، وكلمات المديح. نصف قرن وأكثر من التجارب والخبرات قضاه الروائي والقاص العراقي الكبير فؤاد التكرلي في دنيا الكتابة والإبداع، وبين أروقة المحاكم، وعلى أجنحة الترحال...حمل قلقه وأوجاعه الصغيرة مذ كان طفلا صغيرا يسكن مع أسرته في دار عتيقة بمحلة باب الشيخ ببغداد حيث ولد سنة (1927)، ومضى يبحث عن موقع لا مكان فيه إلا للورقة واليراع، فقد أدرك منذ الصغر أن سلاحه الوحيد هو «الروي»، وعندما بلغ الثانية عشرة فتحت له الصدفة ذات صيف، بابا ملونا ولج عبره إلى عتبة ذلك العالم الواسع، فكانت البداية مع مجلات، وصحف، وكتب كان يؤمنها له شقيقه الأكبر، الكاتب بدوره، نهاد التكرلي. نما لديه في تلك المرحلة المبكرة ميل إلى الكتابة لكنه كان «ميلا أعمى» - حسب وصفه - فراح يخط يوميات ساذجة تضمد جراح الحيرة أمام السعي للدخول المبكر إلى عالم الكتابة التي منحته، آنذاك، فضيلة الروي: «لم أكن شغوفا بالقصص حسب، فكلمة شغف هنا لا تعبر تماما عما كنت عليه في سنوات مراهقتي الأولى...كنت في الواقع مسكونا أو ممسوسا بهذا الفن»، وبدأ يبحث عن طريقة مثلى لكتابة قصص كالتي يدأب على قراءتها! وانتظر الفتى يعاني من مرارة السؤال حتى العام 1950 حيث كتب قصته الأولى الناضجة فنيا تحت عنوان «العيون الخضر»، ثم جاءت رواية «الوجه الآخر» لتشير إلى كاتب موعود، وعندما نشر رواية «الرجع البعيد» مطلع الثمانينات كان قد أصبح روائيا مكرسا يشار له بالبنان. والمفارقة أن ثمة رواية له اسمها «بصقة في وجه الحياة» كتبها في مرحلة مبكرة جدا لكنها لم تر النور إلا بعد نصف قرن لما تحتويه من جرأة وخرق ل للقيم السائدة. كان ينتمي لأسرة تهتم بالقانون، فاخوته الثلاثة كانوا قضاة، وبذلك تحدد مستقبله في هذا الاتجاه فدرس الحقوق وبعد تخرجه سنة 1949 عين موظفا عدليا في محكمة بمدينة بعقوبة حيث قضى أربعة أعوام أمضاها في الدراسة، والبحث عن وسائل مجدية للوصول إلى التعبير الأدبي الفني الصحيح، وكانت تربطه، آنذاك، صداقة مع القاص العراقي عبد الملك نوري، والشاعر عبد الوهاب البياتي إذ كانوا يشكلون، إضافة إلى شقيقه نهاد، «رابطة أدبية مصغرة» تتحدث في شؤون الفن والأدب والفكر، يستفيدون من آراء بعضهم، ويستمعون للانتقادات، ويقضون معا أوقاتا جميلة وهادئة في نقاشات فكرية، وحوارات ثقافية شهدتها المقهى السويسري بشارع الرشيد، ومطعم «كاردينيا» بشارع أبي نؤاس على شاطئ دجلة. انتقل من بعقوبة سنة 1953ليستقر في بغداد من جديد حيث عمل في سلك القضاء بين عامي 1956 - 1983 سافر خلالها - في منتصف الستينات - إلى باريس لاستكمال دراسته، بعد أن نشر مجموعته القصصية «الوجه الآخر» سنة 1960 التي احتوت على رواية قصيرة، وفي العام 1980 نشر روايته «الرجع البعيد» التي ترجمت إلى الفرنسية بعد سنتين من نشرها. وبعد عودته من إقامته الباريسية الثانية منتصف الثمانينات، غادر العراق سنة 1990 ليستقر في تونس مع زوجته التونسية الكاتبة والمترجمة رشيدة التركي، وكتب هناك رواية «خاتم الرمل» التي صدرت عن دار الآداب البيروتية منتصف التسعينات، كما كتب في تلك الفترة مجموعة من الحواريات المسرحية منها «الكف»، «الصخرة»، «لعبة الأحلام» وغيرها وهي نوع أدبي تتأرجح بين النص المسرحي والرواية قاصدا من خلالها - كما يقول - تقديم «مواقف غير جدية تماما ومن زاوية غير مألوفة، للتعبير عن رأي يخلط بين السياسة وشؤون البشر العامة وأفكارهم...في محاولة لصقل الحوار باللغة العربية وجعله خفيفا وفعالا وممتعا». أنجز في نهاية التسعينات وفي فترة قياسية رواية «المسرات والأوجاع»، وأصدر مؤخرا مجموعته القصصية «خزين اللامرئيات» وهو في كل هذه الأعمال استطاع أن يكرس لاسم لا يمكن إغفاله لدى أي حديث يتناول الأدب وهمومه ومشاغله سواء في العراق أو العالم العربي بصورة عامة، فقد كتب في الأجناس الأدبية المختلفة، رغم بروزه في الرواية، ولاقت أعماله صدى طيبا، وواسعا على الصعيدين النقدي والجماهيري نظرا إلى جرأته في الطرح، وصراحته في ملامسة ومناقشة هموم المواطن العراقي، وتحليله العميق لمشكلات ومعضلات الواقع السياسي والاجتماعي في هذا البلد، فضلا عن الاعتناء بالشكل الفني والجمالي، وقد ترجمت أعماله إلى عدة لغات عالمية. ولعل هذا التحليل العميق الذي نقرأه في رواياته لمشكلات الواقع العراقي نابع من عمله لسنوات طويلة كرئيس في محكمة ببغداد إذ أضفت هذه المعايشة اليومية في أروقة المحاكم لنماذج وشرائح من المجتمع العراقي على تجربته بعدا متفردا وصادقا يقول: «كان عملا محترما ومفيدا بالنسبة لي كأديب قصصي يبحث عن المادة الخام العراقية الحقيقية. لقد فتحت أمامي أبواب مختلف طبقات المجتمع العراقي وخاصة السفلى منها...هذه الطبقة التي كنت مولعا بالكتابة عن أفرادها، أولئك الذين كانوا يقتربون من تخطي كل الحدود. لقد ساعدني عملي في القضاء على معرفة أنماط البشر الذين يتكون منهم المجتمع العراقي، وعلى طبيعة المشاكل الحياتية التي يواجهونها، وأنواع الحلول التي يفكرون بها...كانت تلك المادة الخام الثمينة تأتيني من منبعها الأصلي طرية وذات دلالات قوية ولا تصدق أغلب الأوقات». بعد عودته من تونس قبل حوالي السنتين اختار التكرلي الإقامة في دمشق. يأتي كل صباح إلى دار المدى حيث يقيّم مخطوطات النصوص الروائية المقدمة للنشر، تراه هادئا، وقورا...يوجه تحية الصباح بابتسامة حيية ويلتفت إلى أوراقه وكتبه ومخطوطاته. مهذب إلى حد بعيد، ومتواضع بقدر شهرته الواسعة، وإذ اقترحت عليه إجراء هذا الحوار رحب بمودة، فهو، في يقيني، لا يملك، في شخصيته، ما يعينه على الرفض، فليس في قاموسه ما يؤذي مشاعر الآخر، وهذا الآخر، أيا كان، لا يملك إلا ان يكن له الاحترام والتقدير...على هذه الأرضية جرى الحوار في مكتبه بدار المدى بدمشق: - كيف شغفت بعالم الكتابة، والإبداع؟ كيف كانت البدايات ؟ ٭ الجيل العربي في الأربعينات قرأ كتبا متشابهة، وبالنسبة لي فان أخي الكبير نهاد كان يجلب لي عددا كبيرا من روايات الجيب التي كانت تصدر في مصر أوائل الأربعينات، وكانت تحوي، ليس فقط روايات بوليسية مثل روايات أغاثا كريستي وأرسين لوبين وغيرهما، بل ان هذه السلسة كانت تضم أيضا روايات عالمية لسومرست موم، وتولستوي، وستيفان تسفايج، وديستوفسكي وغيرها من الروايات العظيمة التي كانت تترجم بتلخيص واختزال، فتأثرت بهذه السلسلة. لا أستطيع أن اشرح طبيعة تأثيرها علي لكنها لعبت دورا كبيرا في تكويني النفسي والذوقي الذي تغير باتجاه الكتابة القصصية، فتوجهت إلى كتابة بعض المذكرات والقصص رغم أنني كنت ادرس القانون. أتذكر رواية روسية عنوانها «سانين» اطلعت عليها في الستينات بالصدفة وهي تدعو إلى التمرد على سيئات المجتمع، تأثرت بها كثيرا لأنها لامست ما اشعر به، فأنا أيضا كنت ضد تقاليد المجتمع السيئة وجسدت ذلك في كتاباتي. - لدى الشروع في الكتابة ما هي المقاييس التي تحدد لك هذا الجنس الأدبي دون ذاك، لاسيما وانك كتبت الأجناس الأدبية المختلفة: الرواية، القصة القصيرة، النص المسرحي، المقال الأدبي؟ ٭ هنالك عناصر متعددة تعمل، بصورة مباشرة وبصورة غير مباشرة، في تحديد جنس أو صنف العمل الأدبي الذي أنا بصدد إنجازه. لن أتكلم عن الحافز الأول الذي يحرضني على الكتابة، فذلك شأن آخر، ولكني سأتكلم بعد تبلور فكرة العمل في ذهني. هذه هي الخطوة، ما ان تنبع الفكرة في الذهن حتى ينبع معها سؤال حول كيفية صياغة هذه الفكرة فنيا. بكلمة أخرى أي طريقة يمكن ان اختار لكي اعبر فنيا عن هذه الفكرة؟ أغلب الأفكار تأتي ومعها شبه حل فني لها، غير ان ذلك لا يمثل إلا خطوة أولى. إذ يحدث ، أحيانا، أن تتوسع تفاصيل التنفيذ، ويوسع معها مشروع كتابة الفكرة. بالنسبة لي غالبا ما قررت منذ البداية أية طريقة يجب ان اختار لتنفيذ الفكرة اعتمادا على تجربتي في الكتابة، ورغم طول التجربة فالكاتب يخطئ في بعض المرات. أتذكر فكرة عن جماعة من العراقيين يسكنون في عمان وتحدث لهم بعض الحوادث وذلك في سنة 1991 بعد انتهاء حرب الخليج الثانية. لقد وجدت الفكرة تصلح لأقصوصة، يمكن ان تطول قليلا. إلا أني رغم أربع محاولات فشلت في تنفيذها، ولم أكملها. ثم جرت كتابتها كمسرحية فأنجزتها خلال يومين. اعتقد أن كتابة الرواية تقتضي بعض الاستقرار والروتين في الحياة اليومية، ولم أكتب رواية وأنا غير مستقر أو يساورني القلق. أما كتابة الأقصوصة فلا تستوجب ذلك. ومجموعة «خزين اللامرئيات» كتبتها بعد الانتهاء من كتابة رواية «المسرات والأوجاع». - في هذه المجموعة التي أشرت إليها «خزين اللامرئيات» والتي صدرت مؤخرا، ثمة نبرة حزن طاغية على أجواء هذه القصص، وثمة صدى للخيبات والمرارات. إلام تعزو ذلك؟ ٭ هذا صحيح، وهو أمر لا يمكن نكرانه، خاصة بالنسبة لأمثالي من العراقيين الذين حرموا من الأمن والاستقرار ورفقة الأهل في الوطن. لا يمكن لكاتب عراقي عاش في النصف الثاني من القرن العشرين أن يمجد الاستقرار والازدهار ونظافة الأخلاق والمجتمع والاطمئنان إلى المستقبل. سيكون مزورا ومشبوها. ما أكتبه يعبر عن مرحلة مضطربة وعصيبة في تاريخ العراق، ولا بد ان تكون متشحا بالحزن والألم. - في هذه المجموعة أيضا وتحديدا في قصة «النهاية الثانية» تعود إلى موضوعة الحرب العراقية الإيرانية، ما الذي دفعك للعودة إلى تداعيات هذه الحرب بعد انقضاء هذه السنوات؟ ٭ القصة التي تتكلم عنها هي ليست عودة إلى الحرب العراقية الإيرانية المفجعة. هذه الحرب التي لا مثيل لها في تاريخ الشعوب العربية تحتاج إلى مجلدات من القصص والروايات للتعبير عن مأساتها. كلا، أنا لم أتجرأ على كتابة أقصوصة عن هذه الحرب، ولكني استعملتها فنيا لتنفيذ الفكرة الفلسفية التي يتشبث بها بطل القصة من اجل ان يستطيع الاستمرار في الحياة. تلك الفكرة هي (تبدأ الحياة حين لا تنتهي) فإذا حدث وانتهت ؟ما العمل؟ هذا هو محور الأقصوصة، ولو تفضلت واعدت قراءتها لتحققت من صحة هذا الكلام. - بعض النقاد يدرجون كتاباتك، خصوصا الأخيرة منها، تحت بند (الكلاسيكية الجديدة)، فثمة عناصر سينمائية كالتقطيع السينمائي والفلاش باك، وهي تقترب كذلك من السيناريو السينمائي. كيف تعلق على هذا الرأي؟ ٭ اتفق مع الرأي القائل بإدراج أعمالي تحت بند «الكلاسيكية الجديدة»، واعتقد أن القارئ يمكن ان يستجيب لها ويتمتع بها فنيا. الأسلوب السينمائي لم الجأ إليه إلا أخيرا، قبل ذلك كنت أحاول ان استغل مخيلة القارئ لأحركها بواسطة اللغة فتترسّم عليها صور تتحرك وتؤثر في نفس هذا القارئ، هذه عملية شبه سينمائية، ولكنها لا تتبع الأسلوب السينمائي. تأثرت ببدايات «الواقعية الجديدة» في السينما الإيطالية وبخاصة لدى دي سيكا في فيلمه «سائق الدراجة» المشهور، وفيلم «الطريق» لفلليني، و«الليلة» و«فوق الغيوم» لانتونيوني. سحرتني فيها بساطة الأسلوب، وعمق الصورة وما يتولد من دراما إنسانية مؤثرة للغاية. وبسبب اختلاف وسائل التعبير، وتعقيد التقنيات السينمائية المعاصرة، يصعب على المؤلف الروائي أن يتأثر اكثر مما يجب بما يفعله المخرجون الحاليون. كل تقنية سينمائية يجب ان تؤخذ بحذر حين نحتاج إلى تطبيقها أدبيا. لدينا الصورة وكيفية تقديمها، ووجهة النظر، ثم التقطيع والانتقال الزماني والمكاني. صحيح ان هذه التقنيات توسّع أمامك مجالات الاختيار ولكن يجب ان تُستغل من اجل تقديم الفكرة الأدبية بصورة جيدة، ولذلك فقد مارست بعض هذه التقنيات من أجل استكمال فكرتي الروائية. - كيف ينبغي ان نقرأ الأدب عموما ؟ هل نقرأه كوثيقة تاريخية، أم كنص متخيل لا يجوز محاسبة المبدع على مضامينه؟ ٭ الأدب أساسا نص متخيل، ولكنه قد يرتفع ويسمو فيصير وثيقة تاريخية، تُراجع من أجل معرفة الحقائق في الشأن الذي تبحث فيه، وفي جميع الأحوال لا يجوز محاسبة المبدع على ما ورد في نصوصه، أو ما جاء على لسان شخصياته. بإمكان الناقد الأدبي، بالطبع، توجيه النقد إلى العمل من الناحية الجمالية والفنية، ومن ناحية الصياغة والتراكيب واللغة والأسلوب، أما مسألة أن يحاسب الأديب على ما تتفوه به شخصياته فهذا لا يجوز، لأن النص الأدبي في نهاية المطاف، هو نص فني متخيل. من الصعب ان تتناول الرواية بمعزل عن المتعة الفنية والجمالية فقراءة الرواية على أساس أنها وثيقة خطأ كبير وقعت فيه مدرسة الواقعية الاشتراكية. يجب ان ينظر إليها كفن بعد ذلك سنجد أنها وثيقة وسجل اصدق من التاريخ أحيانا لأنها تقدم لك تفاصيل وخلفيات وأسباب أخرى للأحداث والوقائع وكل ذلك في قالب فني جميل. - هناك من يقول بان المبدع العراقي في عهد النظام السابق كان أمامه ثلاثة خيارات: الصمت أو مدح النظام، أو الرحيل(الطوعي أو القسري) إلى المنفى. كيف وفق فؤاد التكرلي بين البقاء في العراق والكتابة دون ان يمدح النظام بل قام بنقده وإن بصورة غير مباشرة؟ ٭ خرجت من العراق إلى تونس سنة 1990 لان زوجتي تونسية، وزرت بغداد خلال إقامتي في تونس عدة مرات وكنت أتقاضى راتبي التقاعدي، فقد كنت رئيس محكمة ببغداد، وتقاعدت سنة 1983 وكنت أعيش في العراق بشكل طبيعي، فأنا اخترت خيارا رابعا مختلفا عن الخيارات التي ذكرتها، فعندما نشرت رواية «الرجع البعيد» في بيروت بعد أن منع الرقيب طباعتها في بغداد لأنها في أساسها ورؤياها نقد للنظام، شعرت بصورة لا واعية بأنني لا يمكن ان أُمس بسبب هذه الرواية، وصدرت الرواية فعلا في مطلع الثمانينات وكان هناك بعض المخاطرة لكنني فوجئت بان الرواية تدخل العراق دون أي عقبات، وتلقفتها الجماهير، لكن السلطة لم تتحرش بي وعدت إلى بغداد نهاية سنة 80 دون أية تعقيدات. وقيل لي ان بعضهم سيكشف ما فيها من وجهات نظر جريئة لكن الأدباء الشباب ممن احتفوا بالرواية عبر الكتابة عنها في الصحف لم يقتربوا من الممنوع والمحظور فيها، ولم يحقق معي بشأنها. يمكن القول بان السلطة اتبعت معي سياسة غض الطرف، خصوصا أنني لم اكن بعثيا، و«الرجع البعيد» يدور حول انقلاب شباط 1963 لدى مجيء «حزب البعث» إلى السلطة وما فعله قادة الانقلاب (أو الثورة في أدبيات البعث) بالشعب العراقي، وفيها إدانة للبعثيين بشكل صريح، وينبغي التذكير بأنه لدى نشر الرواية كنت قد تجاوزت الخمسين فوجدوا ان من الحكمة عدم التحرش بي. إذ يبدو ان السلطة استشارت الأدباء البعثيين وارتأت ألا تسبب لي إزعاجا قد يتحول إلى «فضيحة» لأنني حينها عرفت في الخارج بصورة جيدة، خاصة وان الرواية نشرت في بيروت ووزعت في العالم العربي، وكذلك بحكم منصبي في القضاء. أثناء إقامتي في تونس التي امتدت حوالي عشر سنوات، كتبت روايتين هما «خاتم الرمل»، و«المسرات والأوجاع» وهما كذلك ضد السلطة، ومع ذلك كنت أزور العراق، بل دخلت الروايتان إلى العراق عن طريق «الاستنساخ» وهي الطريقة الوحيدة التي كانت متوفرة لدخول الكتب في ظل تجاهل السلطة لحاجة جماهير القراء إلى ضرورة إدخال الكتاب بصورة رسمية إلى العراق من الخارج، وكتبت عن الروايتين أشياء كثيرة لكن حتى النقاد لا يستطيعون الإشارة إلى «مكمن الخطر» في الأعمال الأدبية بشكل صريح لأن ذلك يعرضهم أيضا للمساءلة والملاحقة. باختصار كل أعمالي هي ضد سلطة البعث التي كانت تقمع الشعب العراقي وتضطهده، ومع ذلك فهي كتبت إما في العراق أو كتبت خارج العراق ثم عادت إليه دون أي عقبات. - هل كنت مستثنى من الملاحقة والمحاسبة كما حدث للكثير من المبدعين العراقيين ؟ ٭ لا الأمر ليس كذلك في اعتقادي، فكما قلت لك ثمة خيار آخر تمثل في الكتابة العميقة التي تبحث في المشاكل الحقيقية لدى الشعب العراقي بعيدا عن أسلوب النقد المباشر الخطابي وعن الشتائم، وكانت طريقة الشتم هي الطريقة الوحيدة التي يفهمها البعثيون، أما ان تكتب بذكاء، وبطريقة رمزية غير مباشرة فذلك يجنبك العقاب وهذا ما حصل معي. كتبت عن الحريات، وبينت ان ممارسات النظام تؤدي إلى تدمير العراق وتدمير نفسية الشعب العراقي وغيرها من القضايا لكن بصورة مواربة. والأدباء العراقيون كانوا محاصرين من جهتين فلا أحد ينشر لهم في الخارج، والسلطة في الداخل تقمعهم، فكيف تريد من هذا الأديب الشاب ان يكتب ويبرز وهو بحاجة إلى تشجيع، ورغم توفر الطاقة الإبداعية والموهبة لديه لكنه يجد كل الطرق مسدودة أمامه، وقرأت بعض الروايات مؤخرا لأدباء عراقيين كانوا في الداخل فيها بذور موهبة وإشارات مبدعة قوية قد لا تتوفر في أدب المنفى، فالأديب العراقي في الداخل لا يلام فمن جهة هو محاصر ومقيد، ومن جهة أخرى تغلق دور النشر العربية أبوابها أمامه، كانت لديه روح المغامرة والتجريب لكن الواقع في الداخل، والخارج أحبطه. - إلى أي مدى أفادتك دراسة القانون، ومن ثم وظيفتك كقاض، في أعمالك الأدبية؟ ٭ أنا عشت في طبقة برجوازية ولم اكن على معرفة تامة بأعماق بعض فئات الشعب العراقي، واستفدت كثيرا من الاطلاع على قضاياهم، فمن خلال المحاكم وعملي في القضاء، استطعت الاطلاع على هموم شرائح واسعة من المجتمع العراقي لاسيما تلك الطبقات الفقيرة والمسحوقة، واكتشفت في أروقة المحاكم أمورا لا يمكن للعقل تصورها، لكنني لم أوظف ذلك بشكل مباشر لان الكتابة، كما تعرف، مشروطة بأساليب وتقنيات كثيرة ومعقدة، غير أني استفدت من طبيعة مشاعر المواطن العراقي، وطبيعة انفعالاته تجاه بعض المواقف، وطبيعة تصرفاته لحل مشاكله الحياتية، واستطعت الوصول إلى معرفة دواخل الإنسان العراقي وهواجسه وأحلامه وآماله...وهي معرفة لا ينالها أي شخص، فحتى القضاة الذين لا علاقة لهم بالكتابة لم يستطيعوا الوصول إلى ما توصلت إليه، وذلك كله أغنى تجربتي الكتابية. - ثمة دائما مسحة حزن تكتنف الأدب والفن والغناء العراقي. إلام تعزو ذلك ؟ ٭ هذا سؤال صعب لكن يمكن القول بإيجاز بان الاضطرابات، والكوارث، والمعارك، والصراعات التي شهدتها بلاد ما بين النهرين عبر التاريخ، والاجتياحات والغزوات المتكررة لهذه المنطقة من تيمور لنك وهولاكو وغيرهما وصولا إلى الأزمنة المعاصرة، وما خلفتها من ماس وآلام كل ذلك لعله دخل في جينات هذه الشعوب فجعلت الحياة غير مبهجة، وتتسم بالحزن، وهذا امتد إلى الفن والأدب، وربما لعبت بعض الشعائر والطقوس الحزينة لدى طائفة الشيعة دورا في هذا المنحى بحيث جعلت نظرة العراقيين حزينة وقاتمة تجاه الحياة. - ما هي الهموم التي تشغلك، الآن، بعد هذه التجربة الطويلة من الإبداع ؟ ٭ هموم الاستقرار في العراق، فهو الآن بلد مسروق وأنا ابحث عن الاستقرار من اجل الكتابة مرة أخرى وباستمرار لان الحياة، دون كتابة، قاحلة. - هل أنت متفائل بمستقبل الكتاب الورقي في ظل التكنولوجيا الإلكترونية المهيمنة، وطغيان ثقافة الصورة ؟ ٭ سيبقى للكتاب مستقبله الخاص والكتابة لها مجالها الخاص المختلف، ومن اعتاد على القراءة لا يستطيع ان يعوض عنها بالتلفزيون أو الإنترنت، فالكتاب بين يديك يحاورك وتحاوره لذلك لا تستطيع الصورة السينمائية أو التلفزيونية أو أية وسيلة اتصال حديثة ان تؤثر على مسيرة الكتاب الأزلية، وعلى مكانته الرفيعة. - ما هي الروايات التي استوقفتك في السنوات القليلة الأخيرة ؟ ٭ في السنوات الأخيرة تندر، كما يبدو، الرواية الجيدة. نادرا ما تجد رواية تستحوذ على اهتمامك، فحتى روايات الفائزين بجائزة نوبل هي في اغلبها متوسطة القيمة، فالكاتب الجنوب أفريقي كويتزي، مثلا، الذي فاز بنوبل في السنوات الأخيرة قرأت له روايتين «العار»، و«في انتظار البرابرة» فوجدتهما متوسطتي القيمة. هل هذا هو الأدب العالمي الموجود؟ كذلك فان الأسماء المشهورة التي تظهر في أمريكا وأوروبا وتباع كتبها بالملايين، مثل البرازيلي باولو كويلو الذي صار مليونيرا من مبيعات رواياته الضخمة، هذه الأسماء هي في اغلبها خرافة تافهة لا يمكن احترامها كأسماء أدبية لها نتاجات قيمة، وحتى الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز لم يكتب سوى روايتين مدهشتين هما «مئة عام من العزلة»، و«الجنرال في متاهة» أما روايته «خريف البطريرك»، على سبيل المثال، فلا تعدو كونها ارتدادات وكآبة وتداعيات لا قيمة أدبية لها، ولا أزال ابحث عن رواية جيدة تستحوذ علي من البداية إلى النهاية دون جدوى. قرأت روايات كثيرة ولم أجد ما يضاهي «الحرب والسلام» لتولستوي مثلا أو ما يضاهي روايات ديستوفسكي... فهذه تمنحك سعادة من نوع خاص، أما الروايات الجديدة فلا تحقق لي مثل هذه السعادة.