يذهب الأستاذ حلمي النمنم في كتابه "الرائدة المجهولة.. زينب فؤاد" الصادر في القاهرة سنة 1998 إلى أن رواية زينب فواز "حسن العواقب أو غادة الزاهرة" هي الرواية العربية الأولى وأن زينب فواز هي الرائدة الأولى في الرواية العربية وليس محمد حسين هيكل أو محمود طاهر لاشين كما ذهب يحيى حقي في كتابه "فجر الرواية المصرية" والذين تابعوه، جاعلين من "فجر الرواية المصرية" فجر الرواية العربية. ونسيت ما ذهب إليه صديقي حلمي النمنم عندما أصدرت طبعة جديدة من رواية فرانسيس فتح الله المراش 1835 - 1874 "غابة الحق" التي صدرت للمرة الأولى في حلب سنة 1865، مؤكداً ما سبقني إليه غير واحد من الباحثين الذين ذهبوا إلى أن رواية المراش هي الرواية العربية الأولى، وأقدمهم في ما أظن جرجي زيدان 1861 - 1914 الذين ذهب - في الجزء الأخير من كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، الذي صدر سنة 1911 - إلى أن رواد الفن القصصي من العرب المحدثين أنتجوه تقليداً للإفرنج، وأن من أقدم المشتغلين بهذا الفن فرنسيس المراش ثم سليم بطرس البستاني 1819 - 1883 الذي ألف عدداً من الروايات التاريخية، نشرها مسلسلة في "الجنان" التي كانت تصدر في بيروت، وأضاف جرجي زيدان إلى الاثنين كتابته هو للرواية التاريخية التي كان قد صدر منها - إلى وقت فراغه من كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية" - سبع عشرة رواية. وذهب مارون عبود 1886 - 1962 إلى ما ذهب إليه جرجي زيدان، مؤكداً ان حظ العرب من القصص والشعر القصصي قليل، وأن فن الرواية اقتبس عن الأجانب الذين جعلوا له شأناً عظيماً، فاقتبسها العرب عنهم بقواعدها، ومناهجها، وبعض موضوعاتها. والأسبقون إلى هذا الفن في اللغة العربية الشاميون لمخالطتهم الأوروبيين والأخذ عنهم، ومن هؤلاء فرنسيس مراش الحلبي وسليم البستاني وجرجي زيدان وفرح أنطون. ومضت دراسات عدة في هذا الاتجاه، منها ما كتبه شاكر مصطفى في "محاضرات عن القصة في سورية حتى الحرب العالمية الثانية" معهد الدراسات العربية سنة 1985 وأحمد طاهر حسنين عن "دور الشاميين المهاجرين إلى مصر في النهضة الأدبية الحديثة: 1718 - 1919، دار الوثبة، دمشق 1983 وآخرهم حمدي السكوت الذي جعل من "غابة الحق" التي صدرت عن المطبعة المارونية في حلب 1865 أولى الرواية التي تبدأ بها ببليوغرافيته التاريخية عن "الرواية العربية: 1865 - 1980" بما يؤكد أنها الرواية العربية الأولى في تاريخ فن الرواية العربية الحديثة، وتاريخ نشرها هو التاريخ الذي يستهل تاريخ هذا الفن. ومرّت السنوات، وأصدر حلمي النمنم في الشهر الماضي طبعة جديدة من رواية زينب فواز "حسن العواقب أو غادة الزاهرة" تحت عنوان "غادة الزاهرة". وتحتها عنوان "أول رواية عربية". وهو عنوان يبرز ما سبق للمؤلف تأكيده في كتابه عن زينب فواز الرائدة المجهولة. وهو يعود إلى هذا التأكيد في الدراسة، مشيراً إلى ما ذهبت إليه في تقديمي لرواية "غابة الحق" من أنها الرواية الأسبق في تاريخ الرواية العربية بحكم تاريخ نشرها للمرة الأولى في حلب سنة 1865. ويضيف حلمي النمنم إلى ذلك أنه "وإن كانت غابة الحق هي الرواية الأولى فإن رواية "حسن العواقب" هي أول رواية حتى الآن تكتبها امرأة عربية، مع فارق بين العملين، ذلك أن غابة الحق قدمها صاحبها باعتبارها "كتاب" كذا ولم يرد لديه كلمة واحدة تقول إن عمله رواية، ففي تقديمه لها تحدث عن أنه يقدم خواطره وتأملاته وخيالاته، أما زينب فواز فتتحدث صراحة في المقدمة عن أن عملها هو رواية، بل إن الغلاف يحمل في العنوان كلمة رواية، وتتحدث هي في المقدمة عن أهمية فن الرواية". وحرصت على نقل عبارات حلمي النمنم كما هي لأنها تتعرض - في تقديري - لأكثر من قضية، تحتاج إلى مناقشة هادئة في موضوع الأولوية، أو ما يجعل من عمل ما عملاً أول بالقياس إلى غيره في التأريخ لنوعه. ولنبدأ بالإشارة إلى أنه لو صح أن رواية المراش هي الأولى، وهو ما يذهب إلىه كثر، فإن رواية زينب فواز هي "أول رواية.. تكتبها امرأة عربية". والواقع أن هذا قول غير دقيق لا يتطابق مع الوقائع التاريخية، فعائشة التيمورية 1840 - 1902 التي كانت صديقة لزينب فواز، وتحدثت عنها الثانية في كتابها "الدر المنثور في طبقات ربات الخدور" 1893 حديث الإعجاب والتقدير، أصدرت روايتها "نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال" سنة 1885، وهي رواية لا بد من وضعها في السياق الذي دفع الشعراء والشاعرات إلى الإقبال على فن الرواية الواعد، وهو الأمر الذي وصل إلى ذروته مع أحمد شوقي 1868-1932 الذي نشر "عذراء الهند" سنة 1897، و"لادياس": سنة 1898، و"دل وتيمان" سنة 1899، وهي سنة نشر زينب فواز روايتها. وكانت رواية عائشة التيمورية التي أعيد نشرها - في السنوات الأخيرة - أكثر من مرة منها الطبعة التي أصدرتها الهيئة العامة لقصور الثقافة بتقديم عفاف عبد المعطي ضمن سلسلة ذاكرة الكتابة، القاهرة سنة 2002، وطبعة المجلس القومي للمرأة في القاهرة بتقديم مرفت حاتم سنة 2003 هي طليعة إسهام المرأة في كتابة الرواية التي كان من الطبيعي أن تجذب إليها الطليعة النسائية، خصوصاً من حيث هي نوع أدبي مقترن بالوعي المديني الذي يصوغ رؤية جديدة لوضع المرأة في المجتمع. ومضي على إثر محاولة عائشة التيمورية أليس بطرس البستاني ابنة بطرس البستاني 1819 - 1883 الذي دعا إلى تعليم المرأة، وأخت سليم بطرس البستاني 1848 - 1884 الذي نشر العديد من رواياته في "الجنان" التي أسسها والده سنة 1870، وهي المجلة العربية الأولى التي اهتمت بالقصص اهتماماً واضحاً وأفردت له باباً خاصاً به، كما يقول أستاذنا محمد يوسف نجم في كتابه الرائد "القصة في الأدب العربي الحديث: 1870 - 1914، القاهرة سنة 1952. وكان من نتيجة ذلك نشر سليم البستاني لرواياته "الهيام في جنان الشام" 1870 و"أسماء" 1873 و"بنت العصر" 1875 و"فاتنة" 1877 و"سلمى" 1878-1879 و"سامية" 1882 - 1883 - 1884 التي استوحى حوادثها وشخصياتها من البيئة اللبنانية التي ولد فيها ولازمها وتمرس بمشكلاتها طوال حياته. وكان من الطبيعي أن تنجذب الأخت أليس إلى النوع الأدبي الذي انجذب إليه أخوها الكبير، فسارت في دربه، وأصدرت روايتها "صائبة" سنة 1891 التي عالجت فيها قضية نسائية هي أقدر على فهمها والكتابة فيها. ويلفت الانتباه أن رواية أليس تتخذ من اسم امرأة لها عنواناً، متابعة في ذلك أخاها في روايته "فاتنة" و"سلمى" و"سامية" وغيرها. وهي متابعة تغري بالمقارنة التفصيلية بين كتابة المرأة وكتابة الرجل عن "المرأة". ولا أعرف لماذا توقفت أليس عن الكتابة بعد روايتها الوحيدة التي أصدرتها في السنة نفسها التي استهل فيها جرجي زيدان 1861 - 1914 رواياته التاريخية برواية "المملوك الشارد" التي أصدرها سنة 1891، واستمر بعدها في إصدار رواية كل عام تقريباً: "أسير المتمهدى" 1892 و"استبداد المماليك" 1893 و"انتصار المحبين" 1895 و"أرمانوسه المصرية" 1896 و"فتاة غسان" 1897 و"عذراء قريش" 1898... إلى آخر بقية الروايات التي استمر صدورها إلى سنة 1914 التي توفي فيها جرجي زيدان والتي توفيت فيها زينب فواز نفسها، في منزلها رقم 14 بشارع الكومي في حي السيدة زينب بالقاهرة، بحسب ما ذكره حلمي النمنم. ويعني ذلك أن رواية "حسن العواقب" ليست "أول رواية" تكتبها امرأة، فقد سبقتها صديقتها عائشة التيمورية التي أتصور أن كتابتها "نتائج الأحوال" جذبت زينب فواز إلى الكتابة القصصية التي استهلتها برواية "حسن العواقب" وأتبعتها بغيرها من الروايات التي أذكر منها رواية "الملك كورش أول ملوك الفرس" و"هي رواية أدبية غرامية تاريخية" كما ورد في الصفحة الأولى من الطبعة الأولى التي أصدرتها "مطبعة هندية بشارع المهدي بالأزبكية في مصر سنة 1323ه 1905م". وأتصور أن ما سمعته زينب فواز من نشر لبنانية مثلها رواية، أعني أليس البستاني، كان له أثر إيجابي في الكتابة، خصوصاً بعد أن أصبح الحضور الثقافي والإبداعي للمرأة دالاً بإنجازاته التي أصبحت مجالاً للكتابة عنها في المجلات النسائية من مثال مجلة "الفتاة" الشهرية التي أسستها هند نوفل في الإسكندرية سنة 1892، بعد سنة واحدة من صدور رواية أليس البستاني، ومجلة "مرآة الحسناء" التي أسستها مريم مظهر في القاهرة سنة 1896، و"أنيس الجليس" التي أصدرتها ألكسندرا إفرينو في الإسكندرية سنة 1898 قبل سنة واحدة من إصدار زينب فواز روايتها التي لم تكن "أول رواية عربية" في كتابة المرأة العربية. أما ما يقوله حلمي النمنم من أن رواية "غابة الحق" قدمها صاحبها بصفتها كتاباً لا رواية، في مقابل زينب فواز التي تتحدث صراحة في المقدمة عن أن عملها هو رواية، مؤكدة أهمية الرواية في شكل عام، وهو أمر لا ينفصل عن ذكر كلمة رواية في العنوان، فمحاجة شكلية لا تثبت أن "حسن العواقب" الرواية الأولى، ولا تنفي أولوية الكتابة الروائية عن "غابة الحق"، فكلمة "الكتاب" الموجودة فوق العنوان على غلاف الطبعة الثانية التي طبعتها مطبعة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس في بيروت سنة 1881 موجودة على غير رواية "غابة الحق" من الأعمال الروائية في ذلك العصر، وهي لا تنصرف إلى تحديد النوع الأدبي، وإنما إلى تحديد العمل الذي يظل كتاباً في النهاية. ولنتذكر أننا في بدايات تشكيل الاصطلاح، ولذلك كانت كلمة "رواية" تطلق على ما يقابل novel ومسرحية في الوقت نفسه، ودارسو تاريخ الفنّين يعرفون - مثلاً - المقال الذي كتبه سليم الخورى، في مجلة "الضياء" عدد 15 نيسان أبريل 1899، بعنوان "الروايات والروائيين" وهو مقال يشبه غيره من المقالات الكثيرة التي كانت تستخدم "الرواية" للدلالة على المسرحية و"القصة" الطويلة. ومثال ذلك ما ذكره جرجي زيدان في الجزء الرابع من "تاريخ آداب اللغة العربية" الذي صدر سنة 1911، إذ يستخدم مصطلح "الرواية" دالاً على أعمال شكسبير وهوغو ودوماس وموليير وشاتوبريان وفينلون. وظل الأمر على هذا النحو من الخلط إلى أن استقر الاصطلاح، بعد الربع الأول من القرن العشرين، وربما بعد ذلك، وأصبحت كلمة الرواية دالة على معناها الحالي. ويؤكد لنا الواقع التاريخي أن كتَّاب هذه المرحلة لم يكونوا يجدون حرجاً في وصف الرواية بأنها كتاب. ودليل ذلك مبذول في المقدمة التي يقدم بها فرح أنطون 1874-1922 روايته "الدين والعلم والمال" 1903، إذ يبدأ بالحديث عن فن الروايات الذي منه ما ينشأ للتفكّه والتسلية، ومنه ما ينشأ للإفادة ونشر المبادئ والأفكار. ويضع في النوع الثاني كتَّاباً من طراز تولستوي وزولا وكيبلينج وغيرهم. ويمضي - بعد ذلك - متحدثاً عن أهمية الرواية وإقباله عليها، ومن ثم هجره المقالات، وذلك لما رآه من أن الرواية أجمع وأوعى وأشد تأثيراً وأحسن وقعاً، فقرر التفرغ لكتابة الروايات التي تكون مجالاً لإبراز المبادئ والأفكار التي يؤمن بها، مقدماً هذه المبادئ والأفكار على الحوادث والأخبار، لكن بما لا يتناقض وما تقتضيه الكتابة الروائية من تصوير العواطف والحوادث تصويراً طبيعياً "لأن فن الروايات فن بسيكولوجي، جماله وتأثيره متوقفان على حسن سبكه ولطف أسلوبه ودرس باطن الإنسان". ويختتم فرح أنطون تقديمه بعبارات حاسمة الدلالة في ما أنا بصدده: "وهذا الكتاب "الدين والعلم والمال" هو الرواية الأولى من هذه الروايات. وموضوعه معروف من عنوانه". وهي عبارات واضحة في دلالة التسوىة بين "الكتاب" و"الرواية" لا بالمعنى الذي ينفي فنية الرواية، أو حضورها الإبداعي، وإنما بالمعنى الذي يقصد إلى أنها كتاب يضم صفحات روائية. هكذا، تظل رواية فرنسيس المراش هي الرواية الأولى حتى لو حملت صفحة غلاف الطبعة الثانية كلمة "كتاب". ولذلك وصف عبد المسيح الأنطاكي "غابة الحق" عندما أصدر طبعتها الثالثة سنة 1922 بأنها رواية موضوعة على طراز "جحيم دانتي التلياني" بقالب خيالي نزع فيه المؤلف إلى إيقاظ العرب من غفلتهم. وسبق لي أن توقفت عند عبارات عبد المسيح الأنطاكي في الطبعة التي أشرفت عليها من "غابة الحق" وطبعت مرتين الأولى في القاهرة سنة 2000، والثانية في دمشق سنة 2001 ولا أريد أن أكرر ما سبق أن قلته. لكن ما يعنيني - في هذا السياق - هو تأكيد أهمية عمل المراش وربطه بمهمة قومية من ناحية، وإبراز قيمته بمقارنته بغيره من روائع الإبداع العالمي من ناحية ثانية، وتكرار طبعه من ناحية أخيرة. وفي ذلك كله ما يصلح لأن يكون مدخلاً إلى تحديد معنى الأولىة التي لا بد أن تقترن بالتأثير في مجالها من ناحية، وبالاعتراف بهذا التأثير من المعاصرين الذين يقبلون على إعادة طبع العمل مرات من ناحية ثانية، وانتقال هذا الاعتراف عبر الأجيال من ناحية ثالثة، وانطواء الرواية نفسها على مضمون متقدم بالقياس إلى عصرها من ناحية أخيرة. وأتصور أن هذا التحديد يحسم الأمر في ما ورد في كتاب أستاذنا محمد يوسف نجم من إشارة إلى خليل الخوري 1836 - 1907 صاحب "جريدة الأخبار" التي صدرت في بيروت سنة 1858، مهتمة بنشر القصص المترجمة التي أضاف إليها خليل الخوري من تأليفه قصته الاجتماعية "ويْْ... إذن لست بأفرنجي" التي جمعها فيها بعد، وطبعها بالمطبعة السورية سنة 1860. وتعلق صديقنا عبدالله إبراهيم بهذه المعلومة، ورجع إلى رواية الخورى، ودرسها، منتهياً إلى أنها الرواية العربية الأولى، وذلك في كتابه المهم "السردية العربية الحديثة" الصادر عن المركز الثقافي العربي في بيروت، سنة 2003. ومع كل تقديري لحماسة عبدالله إبراهيم في تأكيد ما سبق اكتشافه محمد يوسف نجم، وما انتهى إليه ضمناً من إغفال الكتابة عن الخوري بالقياس إلى ما كتبه عن سليم البستاني وسعيد البستاني وأليس البستاني وجرجي زيدان وزينب فواز العاملية وغيرهم، فإن رواية الخوري لا يمكن أن نعدها "الرواية العربية الأولى" للاعتبارات التي ذكرتها، فهي عمل لم يترك تأثيراً في مجالها، ولا اعترافاً به، ولم يتضمن محتوى تقدمياً بالقياس إلى عصره، وكانت تقليداً لما هو سائد، وليست مجاوزة له بمعنى جذري أو غير جذري، فلم يهتم بإعادة طبع العمل أحد، ولم تكن الرواية العربية الأولى بالمعنى الذي أقصد إليه.