تطل الموضة الجديدة قبل أوانها بأشهر. هذه هي العادة "الفنية والتجارية". ولا تكون الأولى دون الثانية، والعكس صحيح ايضاً. ابتكار الموضة الجديدة يحتاج الى وقت والى دراسة واستيحاء، هذه هي الناحية الفنية منها. وتحتاج الموضة الى تصريفها وتوجيهها الى الأسواق، وهذه هي الناحية التجارية منها، ويجب ان يكون كل شيء جاهزاً قبل حلول الربيع والصيف بكثير وقبل مجيء الخريف والشتاء بكثير ايضاً. أصحاب ورشات الازياء يعدون العدة مسبقاً كي يستقبلوا القادمين من بعيد لاختيار حاجاتهم من الأزياء الموسمية تبعاً للمكان والزمان. بين الابتكار والعرض على الشارين وتهيئة الطلبات في الموعد المحدد تمضي أشهر عدة على الأقل. والمعارض الموسمية للأزياء تقوم بمهمة جمع الشمل بين جميع المعنيين بالأمر ويكتمل زواج الفن والتجارة في أجنحة متفرقة، وكثيرة. الاعلام يلعب دوره في هذا المجال. وتهتم المعارض كثيراً بتهيئة الأجواء المناسبة للاعلام حتى يؤدي دوره في نقل انطباعات عن المهرجان الابتكاري التجاري والثقافي. في القسم الاعلامي من المعارض كل المعلومات والصور تكون حاضرة، وكذلك مكاناً للراحة والكتابة والاتصال الهاتفي، وحتى فنجان القهوة وتقديم الطعام احياناً. خلية في ورشة اعلامية تناسب معرضاً عالمياً للأزياء النسائية مثلاً يحدد سلفاً ما ستكون عليه موضة الخريف والشتاء لموسم 1993 - 1994. وأجنحة تحمل اسماء المبتكرين والمبتكرات من كل صوب وبلد. من فرنساوايطاليا واسبانيا والمانيا، وما يدور حول هذه البلدان وما هو ابعد او اقرب منها، وحيث لا مجال لتعداد مئات الزوايا والأجنحة المعدة لعرض الابتكارات واستقبال الزوار على اختلافهم. والى جانب هذا وذاك تجري العروض في جناح خاص او في قاعة مخصصة لذلك. وكل الورشة تدعو الى الكشف عن ملامح الموضة المقبلة براحة. كان التعرف الى موضة خريف 1993 وشتاء 1994 قبل موعدها بأشهر طويلة. أنيقة الموسم البارد لن تشعر بقسوة الصقيع ولا بلفحة الهواء المثلج. فالموضة غيرت اتجاهها الماضي، فغيرت في الطول، وضيقت على الخصر، ووسعت الأكمام، وبدلت الجوخ بالجرسيه، والألوان الفاقعة بالأسود والرمادي، الى آخر التغييرات التي هي في اساس الموضة التي يقولون عنها جديدة، والا كيف تروج البضاعة، وكيف يعيش آلاف الاشخاص من وراء الموضة بالذات؟ قضى المصممون، بجرة قلم، على السروال الضيق جداً الذي يحصر الساقين ويظهرهما هزيلتين او ممتلئتين وأبدولوه بالذي كان يطلق عليه في الخمسينات والستينات "رجل الفيل". لضخامته ووسعه عند القدم. من رأى بريجيت باردو في أول صباها وصعودها الفني، يتذكر السروال الذي كان يتدرج اتساعا من الاعلى حتى يعرض كثيراً في الاسفل. هذا هو السروال الجديد الذي سيسيطر غداً على الواجهات الازيائية. وتقول الانيقات هذه هي الموضة لهذا العام، فتشتريها وتلقي في سلة المهملات ما عندها من سراويل ضيقة المصممون زادوا في الطول كثيراً واكدوا عليه. فصارت التنورة تحتاج الى قماش مضاعف اذا كانت ضيقة وطويلة. وتحتاج الى اكثر من ذلك اذا كانت واسعة ومثناة وموروبة. هذا يزيد في الثمن. ومصنع النسيج "يضحك في عبه" ولا ندري ان كان متواطئاً مع المصمم او لا. السترة طويلة ايضا وواسعة وذات ياقة عريضة جداً بحيث يلزمها من القماش والتبطين بقدر ما يلزم التنورة. هكذا يزيد ثمن الجاكيت. وقس على ذلك الثوب وسيكون ضيقاً على الصدر وطويلاً حتى الرسغين. وحتى الكنزة فوق التنورة فهي واسعة وطويلة ومكلفة. اختار المصممون، والافكار الفنية تلتقي وهي لا تعرف بذلك على ما يظهر، ستة موضوعات للابتكارات الجديدة. وعناوينها "رومانسية" جداً. حياة البدو المترحلين، حياة البوهيميين، حياة الفنانين، حياة الاحلام، حياة القصور، حياة الهواء الطلق. ماذا يقال في هذه العناوين الموضوية غير انها تثير شهوة الاناقة؟ حياة الترحل ذهب المصممون معها الى طرق الحرير على خطوات الرحالة ماركو بولو. ورافقوا الفجر والاتراك والقوزاق والاكراد والافغانيين والفرسان المونغوليين، حتى وصلوا الى "سيدة شانغهاي" او الى "هونكونغ النجمة". واستوحوا من كل هذه الطرقات الوعرة والبعيدة حضارة الشعوب الاصيلة في مخابئ جبالها وسهول غاباتها ومياهها. وفي كل مرة يأتي ذكر طرقات الحرير يقام في النفس طقس خاص من الاعجاب لتلك الاميرة الصينية الغارقة في تاريخ الاساطير والتي هربت شرانق دود القز في عقصات شعرها، يوم تزوجت اميراً من خارج الصين التي كان يحرم فيها نقل اسرار الحرير، وكان تهريبه يعتبر جريمة تستحق الاعدام. من هناك أتى المصممون بأناقة التوابل والفولكلور والحرير والوان المرجان والشوكولا والخردل والقرفة والبهار وازهار اوروبا الشرقية البعيدة والتطريز الاسيوي وملحقاته. انها اناقة اهل سمرقند مثلاً وبخارى ايضا. وطرقات الحرير والتوابل كانت معابر تجارية هامة عبر التاريخ، وكانت وراء الثروات الكبيرة. "حياة البوهيميين" موضوع موضة يختلف عن الاول كلياً، ازياء واقمشة وألواناً، من قال بوهيمي قال الفنان والشاعر والكاتب. ويجب ان تناسب الاقمشة ذهنية هؤلاء وآخرين ايضاً في حياة صاخبة لاهثة يحبون اناقتها على طريقتهم. شخصيات ديكنز ومن يشبهون بؤساء هوغو انما على مستوى العصر الحديث. عودة الى القديم، الى طرقات الاسفلت في جو غائم. ألوان رمادية تسيطر، ومنها الرمادي الاخضر والرمادي الازرق والكاكي ثم الاسود والابيض والكحلي ولون الشوكولا. وطبعاً، فموضة "البوهيمي" او "البوهيمية" هنا، هي موضة رجالية كثيراً. السروال والسترة والصدرية في قماش التويد والكابردين والجينز العتيق والجرسية، وكلها "معتقة" كأن القماش عتيق فعلاً. والموضة لا ضابط لها، ربطة العنق مع قميص رجالي محض لأنيقة تريد ان تصل الى مكتبها في ساعة محددة وأن تفرض مخالفتها للعصر. وفي الاختصار فالموضة هنا تأتي من عصر "شارلي شابلن": سروال واسع بخصر عال، سترة ضيقة، اكتاف صغيرة، صدرية رجالية، سروال "قدم الفيل"، وحنين كبير الى السبعينات. موضة الحي اللاتيني تغيير فني وتجاري ايضاً بالعودة الى مجد "بولفار سان جرمان" والى المترددات على مقهى الدوماغو للالتقاء بأدباء ومفكري الخمسينات والستينات، وبالفنانين العالميين والفرنسيين الذين ارتبط اسمهم "بالدوماغو". موضة "حياة الفنانين"، او موضة المرأة الجامعية المثقفة. والثقافة لا حواجز في دروبها، فما يحصل في باريس يكون في لندن وبيروت وعمان. في باريس تنحصر الحياة الجامعية والفكرية الثقافية في الحي اللاتيني. السوربون هناك والكوليج دو فرانس ومكتبة سان جنفياف ودور النشر ومدرسة لويس الكبير العابقة بماضيها التعليمي المتشدد. هناك مكان اللقاء والتبادل. عودة الى الوراء اذاً في الموضة. اناقة ثقافية جديدة وأثواب رقص الجاز الذي كاد يندثر. ألوان ابيض وأسود وخمري وزهري غامق وكحلي. قماش جاف ورقيق: اونغورا وجرسيه وكريب صوفي. رسوم رجالية بينها الايكوسيه والمقلم. قامة طويلة، معطف "الروب دي شامبر"، سترة مخصورة، سروال واسع من الاربعينات، وخاصة التنانير بطبقات وثنيات واسعة لانيقة جامعية مثقفة فنانة. يتطرق المبتكرون ايضاً الى "حياة الاحلام". ولا يحتاج الحلم الى تفسير لأنه خاص بكل شخص، والمرأة هي التي تعيشه. "وجد عالم السحر يوماً وكانت حكايات الجنيات ُتروى". وتذهب الحكايات بنا الى العصور الوسطى الخيالية، حيث الفرسان يتبارون امام الجميلات، وحيث القصور بقلاعها وحدائقها المحيطة، لنصل الى فولكلور القرن التاسع عشر. ولم ينقص الخيال عند المصممين فعلاً. فهذه الاجواء الحالمة تحتاج الى اقمشة وألوان وموضة تتدفق بالحلم. كثير من المخمل والتافتا والاورغنزا والمطرز والموهير والاصواف الناعمة كلها بألوان خمرية وكحلية وكثير من الاسود. وهي الوان العصر آنذاك. رسوم هرمس وما هو مستوحى من السجاد ورسوم بيبلوس. موضة الاميرات هي التنانير الطويلة والقمصان الرومانسية والمجوهرات التي تتدلى عليها العقود، كما ترتفع حلية تزين الرأس وأقراط تعربش على الآذان. تخيل المصممون ايضاً "حياة القصور". وهذه لا تحتاج الى كثير من الشرح للتعرف على اناقتها. قصور اوروبا. قصر وندسور العائد لملكة انكلترا اليزابيث الثانية والذي التهمته النيران قبل اشهر، فهو احد اقدم القصور الواقعة على اقدام التاريخ حتى اليوم. واجواؤه كانت للملكات والبارونات والاميرات. وازياؤهن تحكي تقاليد بريطانيا العظمى حينذاك. ثم قصر فونتنبلو على مسافة ساعة من باريس ومثله قصر رامبوييه وفرساي وغيرها من قصور قائمة هنا وهناك في اجمل الارياف والبقاع. هنا قرر المصممون الالوان الحارة القادمة من الخريف. الوان جنزارية وخردلية وكل الالوان الخضراء والصنوبرية منها خاصة، والكستنائية ايضاً والخمرية. واقمشتها ناعمة لطيفة طبعاً. فموضة الخريف والشتاء لا تكون لأميرات القصور الا من الصوف والكشمير والموهير والمخمل والحرير والمحبوكات العثمانية. اما الرسوم فهي حيوانات صيد ومربعات انكليزية وايكوسية و"برانس دي غال". والموضة تقليدية كلاسيكية عالية المستوى: ريدانجوت وسترة "الفارسة" وتنورة واسعة ومشلح وكل ما هو مفذلك مع المحافظة على التقليدي. نصل بعد ذلك الى الطبيعة مع موضة "حياة الهواء الطلق"، وهي لعشاق الطبيعة وللتحرر من قيد موضة مركبة. ولا بأس حتى من الوصول الى آلاسكا وتأمل الفقمات التي آثرت البقاء فوق ثلوجها المستديمة على اية حضارة. فالى عالم البحيرات المتجمدة والشواطئ الشتائية والجبال الشامخة بثلوجها والغابات الكندية.پفالطبيعة هي الملجأ الفعلي، وموضتها تقي من غضبها، وجمالها يفرح ألوانها طبعت اقمشة من التويد والموهير والفراء الاصطناعي والمخمل والجينز والمشمع. رسوم قادمة من مناظرها ايضاً، والموديلات واسعة ومريحة. بونشو وباركا ومعطف واسع وسروال مريح. جمع المصممون اذاً بين التجديد الابتكاري والهدف التجاري، من خلال هذه الموضوعات التي ستقوم عليها موضة متغيرة قد تستمر اكثر من خريف وشتاء. لكن المعارض الموسمية تفسح مجالاً ايضاً للشباب ليدلوا بدلوهم في ميدان الابتكار، فلا يعود هذا حكراً على من له باع طويل في ميدانه. خصوصاً ان المعارض تكون لما يطلق عليه "الالبسة الجاهزة"، وهذا مختلف تماماً عن ازياء الدور الراقية المعدودة على الاصابع، وعن موضة المبتكرين التي تجري عروضها موسمياً ايضاً وتلحق الى حد ما بمجال خصوصية اصحابها. جناح خاص للشباب اذاً، وكان من بين الاوروبيين النمسويون وهم كثر. واسماؤهم ليست متداولة بعد. مثلاً: اليشر، ليلو الموغ، اتيل كوتوغلو، انيكو بالاز، ماشو بيكو، ماريون مارسيك، نيكول مرمون، نومي فيينا. ومن ايطاليا: ديلا فيلا، شنيغو، ستوبيدو، كاميلا بنتو. ومن بلجيكا كيوسو كيوسو. ومن هنغاريا: إيفا ويمر. تشجيع الشبيبة في عالم الموضة والثياب ازداد كثيراً فمنذ اربع سنوات جرى تعاون بين وزارة التربية الوطنية الفرنسية وبين معنيين بالموضة وصناعتها وتنظيمها ومعارضها على انشاء مسابقة سنوية ربيعية تتعلق بالتأهيل التقني العالي لصناعة الالبسة وجذب الشبيبة نحو هذه المهنة. ويتنافس "التلامذة" في كل ربيع على الابداع الموضوعي في مسابقة رسمية تعكس التعاون الوثيق بين وزارة التربية وصناعة الثياب ككل. واتت المسابقة الرابعة تحت عنوان "عطلة نهاية اسبوع في الريف". لا تبتعد هذه المسابقة عما اطلق عليه المصممون في معرض الالبسة الجاهزة النسائية لخريف وشتاء 1992 - 1993 "حياة الهواء الطلق". فالطبيعة اولاً واخيراً تبقى الملجأ الاستيحائي اليها، فمنها اتينا واليها نعود وتبقى المقصات وسيلة والنماذج المختارة كموديلات للموضة المقبلة قد تعطي فكرة عن جديد قادم. لكن هذا يبقى ذرة من كل تختلط فيه الاشياء والافكار والابداعات، غير ان لقمة العيش واحدة في النهاية.