عاد وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر الى واشنطن بعد أن قام بأول رحلة له الى الشرق الاوسط، ونطق كلمتين حريّ بنا أن نتذكرهما: "وسيط أمين". اذ أن هاتين الكلمتين هما اللتان استخدمهما لوصف الدور الذي تستعد الولاياتالمتحدة للقيام به بمجرد استئناف مفاوضات السلام. ويبدو ان وعده للفلسطينيين بأنه سيقوم بدور "نشيط وفعّال" في المفاوضات هو الذي ساعد على تغيير الجو السلبي بين الفلسطينيين بسبب قضية المبعدين. ومن السابق لأوانه بالطبع ان نحكم فعلاً بأن الفلسطينيين سيشتركون في المفاوضات في شهر نيسان ابريل المقبل، ولكن يبدو من المرجح أنهم سيشتركون. ومن السابق لأوانه أيضاً أن نعرف ما اذا كانت المفاوضات ستعطي نتائج. إلا ان من الواضح ان كريستوفر بدأ ينهمك فعلاً في ديبلوماسية الشرق الاوسط. ومن هذا المنطلق تحدث عن رغبة الولاياتالمتحدة في أن تكون "شريكاً كاملاً" في المفاوضات. وبعد أن شاهدت كريستوفر وهو يبحث السياسة الخارجية الاميركية بشيء من التفصيل، عقب عودته من هذه الجولة الأولى، توصلت الى استنتاجات عدة. كريستوفر ديبلوماسي حريص جداً ويستخدم كلماته بعناية كبيرة جداً. فهو يبحث عن الأدلة ولا يتسرع في اصدار الاحكام أو استخلاص النتائج. ويبدو أن "الانصاف" هي خير كلمة لوصفه. وفي وسعي ان أتوقع أن جميع الذين اجتمعوا اليه في الشرق الأوسط وجدوا أنه رجل يصغي بتعاطف واهتمام، وانه ذكي، ويؤيد سياسة انهماك الولاياتالمتحدة في البحث عن تسوية عربية - اسرائيلية سلمية عن طريق المفاوضات. ولكنني لا أظن ان احداً سمع أي شيء مثير للجدل والخلاف أو مبتكر من كريستوفر، اذ انه لم يكن يحاول تطوير سياسات جديدة في هذه الرحلة بل يحاول ترسيخ مصداقيته الشخصية الخاصة لدى زعماء العالم العربي والزعماء الاسرائيليين. اذ أن كريستوفر يجيء بعد جيمس بيكر الذي كان يحظى باعجاب واسع، لذلك كان يعرف جيداً انه سيقابل بقدر كبير من الشك والارتياب. ولذا حاول أن يتغلب على هذه الشكوك تجاهه وتجاه الرئيس كلينتون وتجاه السياسة الاميركية، لكنه امتنع عن دخول أي معترك جديد. اذ ان ذلك سيحين موعده فيما بعد. فهذا الرجل النزيه الذي يعمل بطريقة منهجية ويتصف بالمثابرة سيتعامل مع الامور خطوة خطوة. وهو ليس من المعجبين كثيراً بأسلوب كيسنجر، ولكن من الواضح أن لديه فهماً جيداً للقضايا، كما يعرف الاتجاه العام الذي يود السير فيه. واضافة الى الشرق الاوسط يولي كريستوفر اهتماماً كبيراً بالبوسنة، حيث قررت الولاياتالمتحدة تقديم المساعدات الطارئة الى المسلمين هناك. كما ان كريستوفر ملتزم بمحاولة مساعدة الرئيس الروسي بوريس يلتسين. ولهذا من المرجح ان ترتفع المساعدات الاميركية لروسيا من 400 مليون دولار الى 700 مليون دولار. والمعروف ان كلينتون سيجتمع الى يلتسين في أوائل نيسان ابريل المقبل. وفي وسع المرء ان يستشف نوعاً من القلق مما قد يحدث اذا ما سقط يلتسين. ولهذا فان كريستوفر يبذل جهداً خاصاً لكي يعرب عن موقف ودي تجاه روسيا. بل ذهب الى حد القول علانية انه لا يعترض على مبيعات الاسلحة الروسية ومنافستها للأسلحة الغربية في مناطق مثل الشرق الاوسط، شريطة ألاّ تبيع موسكو اسلحة الدمار الشامل الى الأنظمة "غير المسؤولة" مثل ايران. وايران بالمناسبة هي الدولة الوحيدة التي صنفها كريستوفر في هذا الاطار. وتعتزم الادارة الاميركية اعادة النظر خلال الاشهر القليلة المقبلة في سياستها تجاه ايران، مع انه من غير المتوقع حدوث اي تغيير رئيسي. ويجدر بالذكر ايضاً أن عدداً من خبراء شؤون الشرق الاوسط في ادارة كلينتون يعتبرون ايران اكبر مصدر خطر على المصالح الاميركية في الشرق الاوسط خلال السنوات المقبلة. الموقف من العراق وبالنسبة الى العراق كرر كريستوفر القول ان الولاياتالمتحدة تصر على ان يلتزم صدام حسين بشروط جميع قرارات مجلس الامن الدولي. لكنني سمعت ان الادارة درست بصورة شاملة سياستها تجاه العراق واتخذت قراراً في هذا الشأن، وهو ان هدف السياسة الاميركية سيكون ضرورة التزام العراق الكامل بتنفيذ قرارات مجلس الامن وليس الاطاحة بصدام حسين. واذا كان هذا صحيحاً فانه يمثل تغييراً في السياسة الاميركية التي كانت سائدة في عهد ادارة الرئيس بوش. منذ مدة وأنا أقول ان الرئيس كلينتون سينهمك بصورة اكبر في السياسة الخارجية. لكن كريستوفر هو المسؤول الآن عن ادارتها. والسبب في ذلك واضح. فالرئيس كلينتون رمى بثقله وثقل رئاسته كلها وراء برنامج اقتصادي طموح. وقد أبدع أيّما ابداع في عرض خطته الاقتصادية على الكونغرس، كما ان الاستجابة الشعبية تجاه تلك الخطة كانت ايجابية. لكن الكونغرس تهيمن عليه مصالح ضيقة مما يعني ان كلينتون سيواجه مهمة عسيرة في مسعاه لاقناع الكونغرس بتبني الخطة. فالبعض في الكونغرس مثلاً يعترضون على فرض ضريبة على الطاقة، بينما يعترض آخرون على الغاء الاعانات المالية الحكومية للمزارعين. وهناك كثيرون ممن يعترض على فرض ضرائب جديدة، كما ان معظم البرامج التي يريد كلينتون الغاءها او خفض نفقاتها لها مؤيدون أقوياء في الكونغرس. ولهذا فان كلينتون سيظل منهمكاً لأشهر عدة مقبلة على الاقل بتحدي ترجمة شعبيته الى نفوذ مؤثر في الكونغرس. وإذا ما نجح في ذلك، ونجح ايضاً في الحصول على موافقة الكونغرس على موازنته فانه سيصبح في مركز قوي. في هذه الاثناء ستظل السياسة الخارجية في أيدي كريستوفر، بينما يلعب أنتوني ليك في مجلس الامن القومي دوراً رئيسياً من وراء الستار. ولما كان كلينتون لا يستطيع الآن القيام بدور مباشر جداً في السياسة الخارجية، فانني مقتنع بأن الذين يديرونها يحظون بالثقة. وفي هذا ما يدل على أن ادارة كلينتون بدأت بداية طيبة على الصعيدين الداخلي والخارجي. ولا شك في ان الذين يهتمون بالشرق الاوسط لم تفتهم الأهمية التي توليها الادارة للشرق الاوسط، لأن الرحلة الأولى التي قام بها كريستوفر كانت الى المنطقة. وفي تخميني ان هذا يعني ان ادارة كلينتون ستعطي عملية السلام العربية - الاسرائيلية اولوية عليا. ومما يبعث على الارتياح والاطمئنان ان نسمع وزير الخارجية يشير الى الولاياتالمتحدة بأنها "وسيط أمين ووسيط فعّال". فلنأمل اذن انه يعني ما يقول. * مستشار الرئيس السابق كارتر وخبير أميركي بارز في شؤون الشرق الاوسط.