الأزمة بين ليبيا والدول الغربية الثلاث الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا، والناتجة عن رفض طرابلس تسليم المواطنين الليبيين الأمين خليفة فحيمة وعبدالباسط المقراحي، المتهمين بتفجير الطائرة الاميركية فوق لوكربي عام 1988، الى الاميركيين والبريطانيين، وعن رفض السماح للسلطات الفرنسية بالتحقيق مع المتهمين الليبيين بتفجير طائرة الركاب الفرنسية فوق النيجر عام 1989، هذه الازمة او الصدمة أتاحت "فرصة تاريخية" أمام القيادة الليبية لمراجعة نفسها ومواقفها والتخفيف من احمال ثقيلة التزمت بها خلال العشرين عاماً الماضية بدعوى الراديكالية والمواقف الثورية. وزائر طرابلس او بنغازي يكتشف، من دون عناء، حجم التحولات الداخلية التي جرت خلال العام 1992 الذي وصفه القذافي في خطاب له امام طلبة كلية السياسة والاقتصاد أخيراً بأنه "عام التحولات الكبرى" في الجماهيرية. ووفقاً لعلي مغبوشي عضو المؤتمر الشعبي في طرابلس فان ازمة لوكربي او الصدمة الكهربائية الغربية تسببت في احداث نوع من الوقفة الليبية مع الذات ترتب عليها اعطاء مزيد من الحرية الاقتصادية للمواطنين من دون أن يرتبط ذلك بأي تبدل في طبيعة النظام السياسي السائد. وقد أدت الازمة مع الغرب الى فرض عقوبات دولية عدة على ليبيا. "سوق العرب" في طرابلس هو الشاهد الأول على انفتاح النظام الليبي على الداخل، فالبضائع المستوردة من دول آسيوية الصين، تركيا، باكستان وكوريا منتشرة بطريقة لافتة للنظر، ولن يدرك قيمة هذا التحول الا الذي زار ليبيا قبل العام 1992، وتجول في الحوانيت التي كانت خاوية. وفي خطوة اكثر انفتاحاً قررت القيادة الليبية اغراق أسواق المجمعات الاستهلاكية بالبضائع المستوردة. ووفقاً لابراهيم الجوشي عضو اللجنة الشعبية للاقتصاد في طرابلس فان القيادة الليبية رصدت 4 مليارات دولار لاستيراد ملابس ومواد غذائية لتغطية احتياجات المواطنين، وتجري حالياً عملية تفريغ المخازن من البضائع القديمة استعداداً لاستقبال الواردات الجديدة قبل 15 آذار مارس المقبل حيث سيقرر مجلس الامن ما اذا كان الحصار على ليبيا سيستمر أو يتخذ اشكالاً اخرى أم سينتهي؟ وشمل الانفتاح على الداخل اطلاق الحرية النسبية امام الرأسمالية الليبية الصغيرة لتوظيف اموالها في مشاريع استثمارية ضمن منهج التشاركيات المعمول به في البلاد والذي يعطي العمال حق الشراكة في أية مؤسسة يعملون فيها، واللافت للنظر هو انتشار المطاعم التي تقدم وجبات سريعة على الطريقة الاميركية، وقد وصف مسؤول في حركة اللجان الثورية الليبية هذا التحول بأن بلاده اعتمدت "ديبلوماسية الهامبورجر" في تحقيق الانفتاح على الداخل، ومن المثير ان تنتشر في ليبيا شرائط الكاسيت التي تحمل اغنيات مادونا ومايكل جاكسون وفرق الجاز وموسيقى البوب، في الوقت الذي تنتشر الشعارات الثورية المعادية للديموقراطية الغربية من نوع "التمثيل تدجيل" و"من تحزب خان" على جدران المباني في شوارع طرابلس، ولم تعد تهمة ان يشاهد الليبيون الافلام الاميركية او يستمعون للاغنيات الاوروبية التي كان محظور تداولها. دور العرض السينمائي في طرابلسوبنغازي وسرت والبيضاء تعرض افلام سيلفستر ستالوني وصوفي مارسو من دون ان تواجه عقوبة "تزييف الوجدان الثوري". ومحلات بيع شرائط الفيديو كاسيت التي تملكها الرأسمالية المحلية الصغيرة عادت الى الظهور مرة اخرى بعد ان كانت اغلقت بقرار رسمي في العام 1986 أي بعد القصف الجوي الاميركي لطرابلس. صحيفة "الزحف الاخضر" نشرت في 28/12/1992 مقالاً بعنوان "من يصادر الفاسدات؟" انتقدت فيه ظاهرة النساء الوافدات من دول مجاورة للعمل في الفنادق والمطاعم وحذرت من انتشار مرض الايدز. والأكثر اثارة من ذلك هو تأسيس جمعية لرجال الاعمال الليبيين للمرة الاولى منذ ثورة 1969 وقد دشنت اعمالها بالمشاركة في مؤتمر لرجال الاعمال العرب عقد في القاهرة في الاسبوع الاخير من كانون الأول ديسمبر الماضي. الانفتاح هذه المرة أوسع، وأشمل فهو شمل جوانب اقتصادية واجتماعية كانت في وقت سابق من المحرمات التي تتعارض مع "الطهارة الثورية" خصوصاً الجوانب الاقتصادية، فالدينار الليبي صار يتجول ليس في داخل البلاد فحسب، وإنما خارجها أيضاً، والطريف أن سعره يختلف من مصر الى تونس، بل ويختلف سعره من مدينة مصرية الى اخرى، ففي مرسى مطروح يعادل الدينار حوالي 185 قرشاً مصرياً، فيما يعادل 190 قرشاً في السلوم. وليس هناك أدنى شك في أن الدينار الليبي كان الضحية الاولى لأزمة لوكربي حيث فقد الكثير من قيمته في مواجهة الدولار، وعلى رغم ان السعر الرسمي للدينار هو 2،3 دولار، الا ان سعره في السوق السوداء وصل الى 5،1 دولار فقط، وقد تعددت الاسباب وراء هذا الانخفاض الكبير، لكن اهمها هو الاقبال الشديد من الليبيين على شراء الدولار لتحويله الى الخارج، خصوصاً في الشهور الثلاثة الاولى للأزمة، ولا تتوافر احصاءات رسمية في امانة اللجنة الشعبية للاقتصاد حول معدلات تحويل الاموال الليبية الى الخارج، لكن بعض التقديرات تتراوح ما بين 8 و12 مليار دولار. أما السبب الثاني فهو اقبال تجار الذهب والمجوهرات فضلاً عن التجار والمستوردين على شراء الدولار من السوق السوداء لاستيراد البضائع من الخارج، هرباً من القانون الذي يحرم الاستيراد من دون تحويل عملة. وقد تسبب انهيار سعر الدينار في مقابل العملات الاجنبية بانخفاض قيمته الشرائية في الاسواق، فارتفعت اسعار الذهب والمجوهرات بصورة ملحوظة حيث قفز سعر الغرام الواحد الى 32 ديناراً، فيما وصل سعر كيلو اللحم البقري الى 5،7 دينار، مما اضطر الأمانات الشعبية الى التدخل لفرض تسعيرة جبرية لأسعار الذهب واللحوم بصفة خاصة، فقررت 5،7 دينار للغرام من الذهب و3 دينارات لكيلو اللحم، وفي أعقاب ذلك مباشرة حدث نوع من الاضراب - غير المعلن - مارسه تجار الذهب والقصابون. ففي سوق العرب اغلق اكثر من 20 محلاً لبيع المجوهرات أبوابه وكتب اصحاب المحلات عبارات تفيد سفرهم الى الخارج، او اصابتهم بأمراض، في حين افرغ التجار الآخرون محلاتهم من المجوهرات وجلسوا امامها ينتظرون الفرج. الهجرة بحثاً عن المياه المهم هنا ان الانفتاح الليبي على الداخل ليس مرادفاً لما يسمى الاتجاه لاقتصاد السوق، وقد نفى مسؤول في جهاز الاعلام الليبي لپ"الوسط" ان تكون هناك أية نية لدى النظام في الاتجاه الى اقتصاديات السوق، مشيراً الى فشل هذا النموذج، لكنه قال ان المؤتمرات الشعبية قررت اتاحة الحرية الاقتصادية بطريقة متدرجة لا تسمح للرأسماليين بالسيطرة على القرار أي أنها نوع من الانفراج الاقتصادي ليس أكثر. والدليل على ذلك هو قرار العقيد معمر القذافي توزيع جزء من عائد النفط الليبي 12 مليار دولار سنوياً على الليبيين مناصفة بواقع 10 آلاف دولار لكل أسرة. فيما توظف الدولة المبلغ الباقي في المشاريع الخدمية، لكن العقيد القذافي وضع مجموعة من الشروط لتنفيذ هذا القرار الذي سيدخل دائرة التنفيذ في 2 آذار مارس المقبل وهو اليوم الذي أعلنت فيه "سلطة الشعب" وتطبيق النظام الجماهيري المعمول به حالياً في البلاد، وهذه الشروط هي: - ان يتوجه الليبيون الى الدول المجاورة التي تتوافر فيها المياه، خصوصاً مصر والسودان وتشاد والنيجر، لاستثمار أموالهم فيها. - ان تتحمل هذه الاسر مصاريف العلاج والخدمات التعليمية وارتفاع اسعار السلع لأن الدولة سترفع الدعم المخصص سنوياً للسلع الرئيسية والذي يصل الى 1،2 مليار دولار. - تفرض الدولة ضرائب على اصحاب الشرائح العليا من الدخل، لأن عدداً من الاسر التي ستحصل على الدخل السنوي من النفط 10 آلاف دولار تقع ضمن شريحة اجتماعية قادرة أو ثرية وهنا ستفرض عليها الضرائب التصاعدية. اما أسباب صدور القرار فقد اوضحها القذافي في لقاء مع امناء اللجان الشعبية للمؤتمرات الشعبية في طرابلس قال فيه: "الذي جعلني أقول ان دخل النفط يجب ان يوزع على الليبيين مباشرة وكل واحد يعتمد على نفسه، على رغم ما في هذه الفكرة من بدائية حيث تقوم الدولة بتوزيع دخلها على الناس مباشرة، السبب في ذلك عدم الثقة في الدوائر العامة التي أثرت على حساب الشعب". ويقول مسؤول في اللجنة الشعبية للوحدة بطرابلس ان المال موجود في ليبيا، والمياه موجودة في مصر والسودان، ولن تتحقق الوحدة العربية الا بتكامل الثروات في الاقطار العربية، وبمعنى آخر فالقذافي يريد تحقيق الوحدة مع دول الجوار العربية من خلال النفط والماء. مصادر أخرى قالت لپ"الوسط" ان العالم الجيولوجي المصري الدكتور فاروق الباز كان زار العاصمة الليبية بناء على دعوة صديقه القذافي حيث كلفه الاخير باعداد دراسة جيولوجية عن حجم المخزون المائي في الأراضي الليبية، لكن النتيجة كانت مقلقة للغاية، فمخزون مياه الآبار سينضب خلال خمسين عاماً، اما مياه النهر الصناعي العظيم فسوف تروي 285 ألف هكتار يقدر محصولها بنحو مليون طن سنوياً ولا يوجد فائض للاستخدام البشري. من هنا - تقول المصادر - نصح القذافي الليبيين بالهجرة الى دول الماء والجوار، لكن يبدو ان كثيرين في ليبيا ابدوا دهشتهم وربما قلقهم من النصيحة، اذ انها المرة الاولى التي يدعو فيها حاكم شعبه الى الهجرة، وقد اضطر القذافي الى القاء أكثر من خطاب جماهيري يؤكد ان الدعوة الى الهجرة ليست اجبارية وان الليبيين احرار في حياتهم وقرارهم. "الليبيون يريدون الثروة، ولا يريدون الهجرة" هكذا قال لنا عبداللطيف خزامي عضو المؤتمر الشعبي في بنغازي، مؤكداً ان ليبيا ستشهد حالة من الرواج التجاري والاقتصادي في العام الجاري، اي بعد توزيع عائد النفط، وقد تتحول طرابلس الى منطقة حرة تجارية وصناعية لتغذية اسواق دول الاتحاد المغاربي، كما ان الدينار الليبي سيستعيد قيمته. وباختصار فان سنوات من الرخاء ستأتي بعد سنوات القحط التي سادت الثمانينات. والمثير للدهشة انه في أجواء الانفتاح التي تعيشها ليبيا حالياً تواصل اللجان الثورية عمليات الزحف والمداهمة للمؤسسات التي يمتلكها افراد وقعوا في خطأ مالي أو اداري، وبمعنى آخر فان القانون الثوري ما زال سائداً في ليبيا، ولم يتم استبداله بقانون مدني او جنائي لمحاسبة المنحرفين. وقد اعترف العقيد القذافي في خطاب جماهيري بأن "هناك جملة من القوانين صدرت وتتضمن عقوبات في شأن ما يقترفه هؤلاء الناس ولكنها لم تنفذ، وكلكم تشكون من عدم تطبيقها". وقال ايضاً "ويجب ان يعمل قانون جديد، ونستطيع ان نقول ان كل القوانين التي وضعت في الماضي لم تنفع وما زال التصرف في المال العام من دون مسؤولية ولا يوجد احترام للوظيفة العامة". وما ان انتهى القذافي من خطابه حتى قام شباب اللجان الثورية بالزحف على احد المستشفيات وقاموا "بتطهيره من المنحرفين" وأوصدوا الأبواب للأبد، اما التهمة الموجهة لمديري المستشفى فتكمن في انهم تجاهلوا مريضاً وصل الى المستشفى في الساعات الأولى من العام الجاري، وكان الاطباء ذهبوا للاحتفال بالعام الجديد. ابراهيم البكار أمين اللجنة الشعبية للعدل لقي مصرعه اخيراً كان قال لپ"الوسط" ان القيادة الليبية تفكر في اعداد وتطبيق قانون "من أين لك هذا؟" لمواجهة انحرافات بعض الموظفين الذين اثروا بطرق غير مشروعة، وتصرفوا في المال العام بعشوائية أو استغلوا وظائفهم لتحقيق منافع عامة. صحيفتا "الجماهيرية" و"الزحف الاخضر" الناطقتان بلسان حركة اللجان الثورية دأبتا على انتقاد ظواهر اقتصادية واجتماعية في البلاد وفق الهامش الديموقراطي المتاح، وكشفت "الزحف الاخضر" مثلاً عن ضياع المال العام في برامج اعلامية رديئة، وقال ان برنامج "صباح الخير أول جماهيرية" يتكلف حوالي 620 ديناراً ألفي دولار في الدقيقة الواحدة وهو أعلى معدل انفاق في العالم. مجلة "لا" الثقافية الشهرية تصدرها رابطة ادباء ليبيا، وعلى رغم انها تولت انتقاد القرارات الاقتصادية والثقافية الا انها معرضة للتوقف لأنها تشكو من نقص في التمويل. ولا يخفي المسؤولون عن اصدار المجلة علي الجوشي وآخرون انتقاداتهم لضعف مستوى الاعلام الرسمي في بلادهم على رغم توفر جميع الامكانات. مستقبل اللجان الثورية وقد شهد مؤتمر الشعب العام الذي عقد في منتصف تشرين الثاني نوفمبر الماضي حملات نقدية على السياسات الداخلية حيث دارت مناقشات علنية حول النظام وتركيبته والمشكلات التي يعاني منها الليبيون، ومن بينها قضية غياب مؤسسات الدولة وشللها منذ عام 1977 بعد تأسيس اللجان الثورية. ويعتقد كثيرون ان العقيد القذافي نفسه هو الذي "حرض" اعضاء المؤتمرات الشعبية على انتقاد النظام "في حدود" بحيث يتمكن القذافي من الرد عليها بعد ذلك، وفيما وجه اعضاء في مؤتمر الشعب العام انتقادات لثبات مستوى الاجور، حيث يصل متوسط أجر الموظف الى 220 دينار أي حوالي 1100 دولار، فان القذافي انتقد ظاهرة تنامي عدد الموظفين في مجتمع صغير لا يزيد على أربعة ملايين نسمة، وقال ان في ليبيا حوالي 700 ألف موظف، وهكذا تعطي حملة الانتقادات المتبادلة انطباعات "ديموقراطية"، لكنها - أي الديموقراطية - لا تصل الى حدود انتقاد القذافي الذي تحول الى "مرشد للثورة" وهو حريص كل الحرص على عدم وصف نفسه كما لا يسمح للآخرين بوصفه "رئيس الدولة" وإنما هو "قائد الثورة" وفي اطار ذلك غير مسموح بانتقاد اللجان الثورية لسببين: الأول ان اعضاءها سريون، اما السبب الثاني وهو الأهم فلأن اعضاء اللجان الثورية هم "حراس الثورة". وبينما قال لي مسؤول ليبي كبير ان التطور التدريجي في بنية النظام سيؤدي الى حل اللجان الثورية التي تلعب دور المحرض على التغيير، فان مصادر اخرى أكدت ان القذافي لن يسمح بحل هذه اللجان لأنها ذراعه القوي، وأداته التنظيمية في الحشد والتعبئة لمواجهة أية اخطار تواجه الثورة، وفيما يتراوح عدد اعضاء اللجان الثورية بين 40 و60 ألف شخص، فان هناك حوالي 8 آلاف منهم وقعوا وثيقة بالدم بأنهم اعطوا حياتهم للزعيم والثورة في ما يعرف باسم "أمر الموت" ويندر ان يوجد امين للأمانات الشعبية غير منضم الى حركة اللجان الثورية التي يقودها العقيد القذافي شخصياً. وعلى رغم من أن قبيلة المقارحة التي ينتمي لها الرائد عبدالسلام جلود تسيطر على عدد كبير من اللجان الثورية، الا ان القذافي يحتفظ لنفسه بالموقع القيادي الأعلى فيها، كما ان العلاقة بينه وبين جلود لم تصل اطلاقاً الى حد القطيعة على رغم تعدد المرات التي اختلفا فيها، فالرجلان حريصان على تماسك النظام. والواقع ان الحياة في ليبيا تتراوح ما بين الانفتاح والتشدد، وبين الحرية والضوابط، وكما ان هناك آمالاً وطموحات فان هناك مخاوف وهواجس. تأثير النفوذ القبلي في الطريق من السلوم الى طرابلس، وضمن شعارات عديدة مكتوبة باللون الاخضر، لفت انتباهي شعار يقول: "الجماهيرية هي المدينة الفاضلة". وبقدر ما في هذه العبارة من رومانسية، تصل الى حد الافلاطونية، فان الليبيين مصممون على ان نموذجهم السياسي هو "الحل الحتمي الذي يبشرون به العالم" على حد قول العقيد معمر القذافي. ويتفق كثيرون في ليبيا على ان العالم لا يعرف تفاصيل التجربة الجماهيرية، وقد تحدثت شخصية ليبية مسؤولة امام "الوسط" عن النظام الجماهيري باعتباره الحل الوحيد لأزمات العالم من أوروبا حتى موزامبيق، والعقيد القذافي قال أمام اعضاء المؤتمرات الشعبية "ان التعددية الحزبية ستصبح في النهاية مؤتمرات شعبية". ويفسر القذافي الصراعات التي تحدث في العالم الأول حتى العالم الثالث بأنها نتيجة طبيعية لصراعات الاحزاب والقبائل على السلطة، وتتعمد الاذاعة المسموعة والمرئية في ليبيا "تلوين" الاخبار العالمية بلون ايديولوجي لتأكيد مقولات "الكتاب الاخضر" الذي هو "النظرية العالمية الثالثة"، أي انها البديل للرأسمالية والشيوعية. على أية حال... تساؤلات كثيرة تطرحها النظرية الجماهيرية، ويبدو ان الالمام بها يحتاج الى أبعد من عملية استطلاع اعلامي، لذلك حرصت "الوسط" على حضور عدد من المؤتمرات الشعبية في طرابلسوبنغازي سعياً لمعرفة الاجابة عن التساؤلات الآتية: كيف لا يكون في بلد ما رئيس جمهورية وحكومة وبرلمان، وموظفون وحزب وطبقة؟ وهل من الممكن ان يختفي الجيش النظامي مقابل تسليح الشعب؟ وكيف يمكن ان يدير رجل مرور متطوع وغير محترف حركة المرور في الشوارع؟ والى ذلك، ما هي تقنيات المؤتمرات الشعبية الاساسية واللجان الشعبية واللجان الثورية؟ وأين هو الصوت الآخر او خريطة احزاب المعارضة؟ هذه هي التساؤلات التي يقف عندها كل من يزور ليبيا. وفي الواقع، ثمة فجوات هائلة بين الشعارات والتطبيق في التجربة الليبية التي اعتمدت منذ قيام الثورة عام 1969 وحتى الآن على منهج "التجربة والخطأ". فقد شهد النظام السياسي في ليبيا تحولات عديدة منذ جرت اول محاولة لتنظيم جهاز الدولة السياسي بعد شهور من تسلم الضباط السلطة، حيث جرت عملية اعادة رسم الحدود الادارية بين الاقاليم، بحيث لم تعد الحدود الادارية متطابقة مع التقسيمات القبلية، ومحاولة تعيين قيادات جديدة محلية بدلاً من شيوخ وزعماء القبائل، لكن هذه التجربة اجهضت في المهد بسبب المقاومة الضارية التي مارسها زعماء القبائل ضد النظام الجديد. وتقول مصادر عربية مطلعة على التجربة الليبية من الداخل ان النفوذ القبلي ما زال موجوداً ومؤثراً في الحياة السياسية والادارية، ففي المؤتمرات الشعبية واللجان الثورية يتصدر شيوخ القبائل او اولادهم المستويات القيادية، وفي دواوين الادارات المحلية تسير الامور وفق اعتبارات قبلية، كما ان بعض القبائل الرئيسية في البلاد، ومنها قبيلة المقارحة التي ينتمي اليها الرائد عبدالسلام جلود تسيطر على نسبة لا تقل عن 50 في المئة من المراكز القيادية في حركة اللجان الثورية. ويبدو ان الوضع التاريخي المتميز للقبيلة شكل هاجساً امام الضباط، وفي محاولة جديدة لتجاوزها اعلن العقيد القذافي تشكيل اللجان الشعبية لتتولى السلطة في البلاد على كل المستويات، وحتى في الشركات الخاصة والاجنبية بما فيها شركات النفط، وبعد مرحلة من الفوضى وعدم الوضوح استقر الحال، لكن ظهر الجانب السلبي للتجربة، اذ تأثر الاداء الاقتصادي عندما اجبرت الادارات على التغاضي عن عامل الكفاءة مقابل الثقة بالاضافة الى ذلك فان التنافس بين الاتحاد الاشتراكي الذي ظل قائماً واللجان الشعبية كان مشكلة مهمة تربك عمل التنظيمين، وفي كل الاحوال ظلت القبيلة على قمة الهرم السياسي من خلال صدارة اولادها للمستويات العليا فيه، وعندما شكل القذافي في ايلول سبتمبر 1975 هياكل تنظيمية جديدة هي المؤتمرات الشعبية العامة التي تضم كل المواطنين، حدثت ارتباكات بالجملة، لأن قادة المؤتمرات الشعبية معظمهم يمثلون القبائل هم من غير المؤهلين لوضع خطط الدولة، وقد توضحت هذه المشكلة في المؤتمر العام الرابع في طرابلس في كانون الأول ديسمبر 1978 عندما اقترح بعض المشاركين في المؤتمر سياسات - من بينها رفع الاجور - لا تنسجم والسياسات العامة للدولة، مما اضطر الامانة العامة للمؤتمر لانهاء انعقاده بعد ثلاثة ايام من بدء اعماله، ولم يدع لاستكمال جلساته الا بعد اعادة انتخاب ممثلين جدد. وقد اظهرت هذه التجربة حاجة الدولة الى فرض مزيد من السيطرة على الجماهير، فأعلن القذافي وأعضاء مجلس قيادة الثورة الاستقالة من مناصبهم في الامانة العامة للمؤتمر الشعبي العام والتفرغ لمهام قيادة الجماهير، وفي آذار مارس 1979 اعلن عن تشكيل "اللجان الثورية" كتنظيم مواز للمؤتمرات الشعبية وتابع مباشرة لقائد الثورة - القذافي - الذي احتفظ ايضاً بمنصب القائد العام للجيش. وتعد اللجان الثورية اداة الدولة في السيطرة والدفاع عن الثورة. القذافي لا يترك مناسبة الا ويؤكد فيها انه ليس رئيساً للجمهورية، وانما هو "القائد"، فيما الرائد جلود "نائب القائد" اما بقية اعضاء مجلس قيادة الثورة الذين ما زالوا على قيد الحياة، فيكتسبون قيمتهم من وضعيتهم التاريخية، وليست لهم مواقع في الهرم التنظيمي للمؤتمرات الشعبية. من يحسد ليبيا؟ ويشتكي الليبيون من ان المثقفين العرب لم يقرأوا "الكتاب الاخضر" بجدية، ولم يحاولوا التعرف على المجتمع الجماهيري بنظرة حيادية، ويقول القذافي في خطاب جماهيري "اعتقد ان وضع العالم الآن يقنعنا يوماً بعد يوم بجدوى هذا الحل، وانهم سيحسدوننا ويصدرون لنا مشاكلهم لكي نحلها لهم". وبالثقة نفسها يقول القذافي: "لقد اتضح ان التعددية الحزبية هي مصيبة كبيرة، وأكبر مؤامرة على الحرية والاستقرار والاقتصاد" ويضيف: "وعندما نستعرض خارطة العالم فان العالم كله يبدو مضطرباً ماعدا ليبيا". وقد غيرت ليبيا كل شيء، بدءاً من اسماء شهور السنة الميلادية، وحتى نظام التبادل التجاري حيث عادت الى اسلوب المقايضة الذي كان معمولاً به قبل اختراع النقود. وبطبيعة الحال، فان اشياء كثيرة مما يتردد في الخطاب السياسي الليبي ظلت "نظرية"، فواقع الحال ان الناس يتعاملون بالتقويم الميلادي، ويشترون احتياجاتهم بالنقود، وعلى رغم ان القائد يلتقي اعضاء المؤتمرات الشعبية باستمرار تبث اللقاء الاذاعة المرئية مباشرة لشرح افكاره، فان الليبيين يعشقون التجارة والربح، ويتناقشون حالياً في أسلوب استثمار عائد النفط الذي سيوزع على المواطنين مباشرة كما قال القذافي، ولم يجد الليبيون وقتاً يسألون فيه: من الذي قرر توزيع عائد النفط على الناس؟ هل هو القذافي ام المؤتمرات الشعبية؟ مسؤول ليبي في جهاز الاعلام قال لپ"الوسط": ان القذافي هو صاحب الفكرة، والمؤتمرات الشعبية صاحبة القرار. وهل حدث مرة ان اختلف رأي المؤتمرات الشعبية عن رأي القذافي؟ - كثيراً ما حدث ذلك. وما هي النتيجة؟ - يستمر الحوار حتى يقتنع اعضاء المؤتمرات الشعبية. وإذا لم يقتنعوا؟ - لا ينفض الاجتماع، ويظل الانعقاد مستمراً حتى يقتنعوا. ليس في الجماهيرية اقلية وأغلبية، لا بد ان يتفق الجميع على رأي واحد. وبعد حوار طويل، اعترف المسؤول الليبي بأن النظام الجماهيري "مثالي" لكن العرب لا يريدون ان يعرفوه، او يطبقوه، وفسر ذلك بأنه في ليبيا لا توجد حكومة، فالناس يحكمون انفسهم، ولا يوجد موظفون، فاللجان الشعبية تخدم الناس، لكن واقع الحال يؤكد ان امناء المؤتمرات الشعبية هم اعضاء الحكومة، وان عدد الموظفين في ليبيا لا يقل عن 700 ألف شخص، بل يصف مواطن ليبي النظام السائد في بلاده بأنه "نظام موظفين". وفي حوار سابق مع امين اللجنة الشعبية للعدل ابراهيم البكار قبل وفاته، نفى اية نية لدى النظام الليبي في اقامة تعددية حزبية، مؤكداً على مقولة من تحزب خان ورافضاً لما تردد في وسائل اعلام غربية عن احتمالات تأسيس احزاب معارضة من داخل النظام رشح لها ابو زيد عمر، والدكتور محمود المغربي، وابراهيم الغويل. المعارضة وتقول مصادر ليبية ان هناك جماعات معارضة للنظام تعمل في داخل وخارج ليبيا، واقدم هذه الجماعات هي المعارضة الملكية، وهي اقدم المنشقين على النظام، اذ اعلنت انشقاقها بعد فترة قصيرة من تولي الضباط الحكم، الا انها لم تعلن عن تكوين تنظيم سياسي لها الا في عام 1981 تحت اسم "الاتحاد الدستوري الليبي" الذي يطالب باقامة نظام ملكي في ليبيا. اما المجموعة الثانية فتضم القوميين المحافظين الذين اعترضوا على قيادة القذافي، وقد أسس هؤلاء ما يسمى "الجبهة الديموقراطية الليبية" عام 1979، وتقوم هذه المنظمة باصدار مجلة ناطقة بلسانها تحمل اسم "صوت ليبيا". وتمثل المجموعة الثالثة جيل التكنوقراط الذين اعترضوا على طريقة تسيير المجتمع الليبي وفقاً لأفكار "الكتاب الاخضر" وطموحات القذافي في دعم حركات التحرر الوطني في العالم، خصوصاً في نيكاراغوا، فضلاً عن جيل آخر من رجال الدين الذين اعترضوا على تفسيرات القذافي لبعض النصوص الدينية، وقد أسسوا معاً "الجبهة الوطنية لانقاذ ليبيا" في عام 1981، وبعدها بعام واحد أسست مجموعة من التكنوقراط المحافظين بزعامة عبدالحميد البكوش رئيس وزراء ليبيا في العهد الملكي "جبهة تحرير ليبيا" ومقرها القاهرة. وبالاضافة الى ذلك هناك بعض الجماعات الاصولية التي تنتمي تاريخياً وأيديولوجياً الى حركة "الاخوان المسلمين" في مصر، وكانت حاولت الهجوم على مقر اقامة العقيد القذافي في ثكنة باب العزيزية عام 1987، غير ان محاولتها باءت بالفشل. وليس هناك ما يشير الى نشاط لهذه الجماعات المعارضة في الشارع الليبي، ولم تفلح ازمة لوكربي في اعطاء دفعة لهذه الجماعات لكي تتحرك، وأقصى ما فعلته هو الادلاء بأحاديث صحافية، لذلك فالليبيون ينتقدون بعض جوانب الممارسة، او بعض السياسات من دون ان ينسحب ذلك على نقد النظام ذاته. الخطر من الداخل وتعتقد مصادر ليبية مطلعة ان أي خطر على النظام سيكون من داخله، اذ هناك احتمالات لحدوث انشقاق في النخبة الليبية الحاكمة، وقد حدث هذا من قبل في عام 1975 عندما نظم اثنان من اعضاء مجلس قيادة الثورة هما وزير التخطيط عمر المحيشي ووزير الخارجية عبدالمنعم الهوني محاولة انقلابية احتجاجاً على السياسات الاقتصادية والخارجية، وكان هذان الضابطان يمثلان الجناح التكنوقراطي في الدولة، وأدى خروجهما الى انشقاق مجموعات كبيرة من التكنوقراط في نهاية السبعينات. وتقول المصادر المطلعة ان ثماني محاولات انقلابية وقعت خلال الفترة من 1970 الى 1980 فيما سجلت الفترة من 1980 الى 1984 وحدها ثماني محاولات اخرى، بعضها كان مدعوماً من المعارضة الليبية في الخارج. ويفيد محللون سياسيون ليبيون ان القيادة الليبية مسيطرة تماماً على الاوضاع الداخلية، وانها سعت الى فتح حوار مع المعارضة في الخارج لتأمين النظام خشية ان يستخدم الغرب المعارضين الليبيين في اي تحرك مناهض، خصوصاً في ضوء معلومات توافرت للقيادة الليبية عن وجود حوالي ثلاثة آلاف معارض ليبي مسلح يتلقون تدريبات بصفة شبه منتظمة في عدد من العواصم الغربية، من بينها واشنطن ولندن، فضلاً عن 300 اصولي ليبي يقيمون في الجزائر والمغرب. وتؤكد المصادر المطلعة ان القذافي سعى لاجراء اصلاحات اقتصادية عاجلة بهدف توفير السلع المهمة، وتحقيق نوع من الانفراج الاقتصادي حتى لا تتحول قرارات الحصار الجوي الى حصار للنظام، وعلى رغم ان ابراهيم البقلي عضو اللجنة الشعبية للاقتصاد قال ان الحصار كلف ليبيا حوالي أربعة مليارات دولار، فان القيادة الليبية ابدت استعدادها لتحمل الحصار لفترة اطول، شرط الا تتصاعد العقوبات الى حد الحظر النفطي الذي قد يؤدي الى مشكلة اقتصادية لها انعكاسات سياسية خطيرة. وفي اطار محاصرة آثار الحصار تعمدت القيادة الليبية ابراز نتائجه على صعيد الخسائر البشرية لاقناع الشعب بضرورة الصمود، واذاعت وكالة الانباء الليبية احصائية عن عدد الذين لقوا مصرعهم في حوادث على الطريق البري الذي يربط ليبيا بكل من مصر وتونس، وذكرت ان عدد الضحايا بلغ 864 شخصاً بما يعادل ضعف عدد القتلى في حوادث السير قبل قرارات مجلس الامن. اما القبائل الليبية - حسبما تقول المصادر - فانها لم تعد تمثل خطراً على النظام لأنها انخرطت في المؤتمرات الشعبية واحتلت مواقع قيادية فيه، كما ان العقيد القذافي لا يترك فرصة الا ويقوم بزيارتها وإجراء حوارات مع شيوخها لضمان تأييدهم وولائهم، علماً بأن القبيلة الاكبر المقارحة ممثلة في السلطة من خلال الرائد عبدالسلام جلود.