لم يخف العقيد القذافي إعجابه بتلك المرأة السوداء الافريقية الاصل. والارجح ان "الزيارة التاريخية" التي قامت بها الوزيرة الأميركية لليبيا ليست استجابة لهذا الاطراء. العقيد استقبلها، بعدما نصب نفسه"ملكا لملوك افريقيا وقبائلها"، وستكون"ليزا"، كما يسميها، واحدة من رعاياها ليستمد منها القوة التي تتمتع بها وزيرة خارجية اقوى دولة في العالم. لكن كوندوليزا رايس جاءت الى ليبيا، ليس اعجاباً ب"الجماهيرية العظمى"وقائد"ثورتها"، وانما من اجل النفط الليبي العالي الجودة والقريب من الاسواق، وخصوصاً ان استيراده لا يمر في منطقة الخليج الملتهبة ولا يتأثر بتطوراتها، من جهة. ومن جهة اخرى، لتلحق السوق الليبية وما توفره من امكانات استثمار وعمل، قبل ان يأكل معظمه الاوروبيون المتهافتون على مردود الثروة النفطية الليبية التي تجاوزت العام الماضي 40 بليون دولار، أي قبل فورة الاسعار، والتي يتوقع ان تتضاعف في السنوات القليلة المقبلة. حاولت رايس، قبيل الزيارة وخلالها، ان تظهر ان العقيد تغيَّر وان سياسة بلاده تغيَّرت، مستندة الى تخليه عن الارهاب ودفع تعويضات عن اعمال ارهابية اتهمت ليبيا بالمسؤولية عنها، وإلى تخليه عن برامج أسلحة الدمار الشامل. لتخلص الى ان البلد الذي يتخلى عن الارهاب واسلحة الدمار الشامل ستفتح امامه"الجنة"الاميركية من اعتراف وتبادل العلاقات وانهاء العداءات، وايضا التخلي عن كل المعوقات امام عمل الشركات الاميركية فيه! لكن كان يمكن لرايس ان تلاحظ ان القذافي الذي يحتفل بعد اقل من سنة بالذكرى الاربعين لاستيلائه على السلطة في انقلاب عسكري يزداد جنوحاً نحو مزيد من تفكيك مفهوم الدولة في ليبيا وشخصنة السلطة فيها. بما يبعده اكثر فأكثر عن سلوك سياسة ثابتة وغير عرضة للتغيير مرة اخرى، عندما تقتضي ذلك ضرورة الاستمرار في السلطة. وبما يبعده عن المثل التي تدافع عنها الوزيرة الضيفة، دولة القانون والحريات والديموقراطية وتداول السلطة عبر انتخابات شفافة. فقبل أيام من وصول رايس الى طرابلس، وفي خطاب ذكرى الانقلاب في مطلع ايلول، بشَّر القذافي مواطنيه بأنه سيلغي الوزارات التي لا تفيد في شيء، سوى زيادة الفساد وسوء الادارة والبيروقراطية. وبشَّرهم ايضا انه يمكن لكل فرد منهم ان يتقاضى مباشرة، من الآن وصاعداً، حصته من عوائد النفط. لا ندري اذا كان احد ترجم للزائرة الاميركية هذا الكلام، وما اذا كانت حاولت ان تستفهم من العقيد شخصيا كيفية تحصيل كل مواطن حصته من النفط. وكما ان العقيد ليس"رئيساً"وغير معني بتسيير شؤون الدولة، فقد تفرغ لقيادة"الثورة"وتطوير نظرية"الجماهيرية"، تاركاً ل"اللجان الشعبية"مهمة الإدارة اليومية. وبهذا يستطيع ان يمارس كل هواياته التغييرية من دون ان يتحمل مسؤولية عن ذلك. ففي بلاد كل من"تحزب خان"وحكم"الشعب"و"الزحف الاخضر"على الطلب، يمكن ان تصدر أي احكام عندما يتهدد"النظام الجماهيري". لتتحول هذه الصيغة آلية يستطيع العقيد ان يتحكم في الخصومات والمنافسات، بمستوياتها السياسية والاقتصادية. وليظل، رغم"النظام الجماهيري"، قابضاً على مفاصل الحكم وشخصياته، تاركاً ل"اللجان"مهمة تحييد من يعترض على حكمه. ولتتحول الخطوات الجديدة، مع الانفتاح الكلي على الاقتصاد الغربي، اجراء احترازيا لمنع اي مطالبة بمطابقة الانفتاح الاقتصادي مع انفتاح سياسي. لقد تحمس القذافي للعروبة في شبابه، ساعياً الى خلافة عبدالناصر، فتحرك ودفع من دون ان تعترف به الدول العربية زعيما لها ألم يقل لاحقاً انه معجب بليزا لأنها تقود الزعماء العرب!، وانتهى الأمر بأن كفر بالعروبة. وحاول ان يقيم صلات مع الغرب، فظل قائد انقلاب في بلد مصدر للنفط وسوق استهلاكية، فسعى الى ازعاج هذا الغرب، بتمويل حركات منشقة فيه، ربما ليجبر هذا الغرب على مفاوضته والاعتراف به. فازدادت عزلته، وفُرضت العقوبات على بلده، قبل أن يتمكن من رفعها مقابل بلايين الدولارات، لشراء الانفتاح الغربي. ومع استغلاله الداخلي لهذه المواجهة مع الغرب، اتجه نحو افريقيا، فضغط ودفع ليحول منظمة الوحدة الافريقية الى الاتحاد الافريقي وشكل على هوامشها مجموعة من المنظمات الاقليمية. وعلى رغم ذلك لم يعط الدور الافريقي الرسمي التواق اليه، فجمع حوله من قيل إنهم زعماء قبائل ووجهاء وملوك افارقة ليتوِّجوه"ملك الملوك"، في ذروة الاعتراف بدور"قائد الجماهيرية".