بعد مرور أكثر من 7 أشهر على تولي اسحق رابين رئاسة الحكومة الاسرائيلية، يبدو واضحاً اليوم، في نظر المحللين والمراقبين السياسيين المطلعين، ان الحكومة الاسرائيلية منقسمة على نفسها حول المسائل الحيوية المتعلقة بالفلسطينيين، سواء ما يتناول مفاوضات السلام أو ما يتعلق بمسألة ابعاد 415 منهم الى لبنان. كما تبدو حكومة رابين ضعيفة الثقة بنفسها على رغم المظاهر التي توحي عكس ذلك. والواقع ان رابين، باتخاذه قرار ابعاد 415 فلسطينياً من انصار حركتي حماس والجهاد الاسلامي في الضفة الغربيةوغزة، رضخ لمطالب رئيس اركان الجيش الاسرائيلي، وللدعوات الصادرة عن بعض الاوساط الاسرائيلية المتطرفة التي شجعته على اتخاذ "اجراءات صارمة واستثنائية" ضد حماس بعد مقتل الرقيب الاسرائيلي نسيم توليدانو في كانون الأول ديسمبر الماضي. كان رابين يفتخر علناً بأنه واجه اعمال المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة بإجراءات اكثر تشدداً من الاجراءات التي يتخذها تكتل الليكود. ويعود فوز حزب العمل في الانتخابات الاسرائيلية في شهر حزيران يونيو الماضي، بعد 16 عاماً من الابتعاد عن السلطة، في جانب كبير منه، الى الجهود التي بذلها رابين للظهور في مظهر الخليفة الحقيقي لمناحيم بيغن، والرجل الذي يستطيع استخدام "العنف والقوة" لوقف الهجمات المتزايدة على الاسرائيليين. ويفرض الموقف الانتخابي على رابين تحقيق وعوده بجعل شوارع اسرائيل آمنة من اعمال العنف التي جعلت فرض السيطرة الاسرائيلية على الأراضي المحتلة امراً بالغ الصعوبة. وأصبح من الأمور المألوفة في اسرائيل التكهن في كل عام بنهاية الانتفاضة. لكن ذلك لم يتحقق حتى الآن. وكان من المفروض ان يحتفل مجلس الوزراء الاسرائيلي في اجتماعه يوم 13 كانون الأول ديسمبر الماضي بنهاية الانتفاضة الفلسطينية. ويقول صحافي اسرائيلي واسع الاطلاع: "كان من المقرر ان تتم في هذا الاجتماع مناقشة عامة لموضوع الارهاب، وذلك في أعقاب تقديم الدلائل على نجاح الحكومة في جعل الارهاب يقتصر على المناطق المحتلة، وفي تحرير اسرائيل نفسها من الخوف من الارهاب. وقد اشاد رابين بالانجازات التي حققتها حكومته في هذا المجال، وكيف انها، مثلاً وضعت حداً لعمليات طعن الاسرائيليين بالخناجر والسكاكين في بعض المدن. لكن ما ان انتهى رابين من الاشادة بانجازات حكومته حتى دخل عليه شخص وأبلغه ان عناصر من حماس خطفت الرقيب توليدانو. وكان ذلك ضربة لرابين". وعندما تم العثور على توليدانو قتيلاً، اتخذت السلطات الاسرائيلية قرار ابعاد الفلسطينيين الى لبنان. وقد توقع بعض خبراء الامن الاسرائيليين أن يحقق قرار الابعاد هذا بعض المكاسب على المدى القصير في الحرب ضد حماس، بينما حذر خبراء آخرون من ان هذا القرار سيؤدي الى عكس التأثير المطلوب. وفي أعقاب ذلك قتل فلسطيني وشقيقاه احد عملاء الاستخبارات الاسرائيلية في منزل تابع لتلك الاستخبارات في القدس الغربية، وأثبتت هذه الحادثة ان حماس لا تزال تحتفظ بقدرتها على توجيه ضربات متفرقة الى أهداف في قلب اسرائيل. لماذا قرار الابعاد؟ وخلافاً لما هو شائع، لم يتخذ رابين قرار ابعاد الفلسطينيين لأن من شأن ذلك القضاء على حماس ونشاطها في الأراضي المحتلة، او لأن رابين - كما يردد البعض - يريد تقوية نفوذ ياسر عرفات وأنصار الحل السلمي في الأراضي المحتلة، او لأنه يعتبر القرار عاملاً مساعداً على تحقيق تقدم في مفاوضات السلام مع الفلسطينيين الهادفة الى الاتفاق على تطبيق الحكم الذاتي في الضفة الغربيةوغزة لفترة موقتة ومرحلية. لقد اتخذ رابين قرار ابعاد الفلسطينيين، في الدرجة الأولى، لأسباب داخلية. هناك محوران رئيسيان استقر عليهما فوز رابين في الانتخابات، ويعتمد عليهما استقرار الائتلاف الحاكم في اسرائيل اليوم، وهذان المحوران هما وعد رابين بتحسين الاقتصاد الاسرائيلي، والتزامه بوقف الهجمات الفلسطينية المتفرقة على الاسرائيليين داخل حدود اسرائيل. وكان رابين وعد أولاً وقبل كل شيء آخر خلال حملته الانتخابية الناجحة بتغيير "ترتيب الأولويات الوطنية". وأعلن ان حكومة حزب العمل ستغير اتجاه الفشل المستمر لتكتل الليكود في معالجة مشكلة البطالة الناشئة عن تدفق نصف مليون مهاجر تقريباً من اليهود السوفيات على اسرائيل منذ 1989. وظهر هذا الفشل بأجلى صوره في عدم استطاعة شامير اقناع جورج بوش بأن يقدم لاسرائيل ضمانات قروض قيمتها 10 مليارات بلايين دولار. وقد حصل رابين على هذه الضمانات بالفعل، وفي منتصف كانون الأول ديسمبر الماضي حصلت اسرائيل على الدفعة الأولى وقيمتها مليارا بليونا دولار. وباستثناء هذا الانجاز لم يقدم رابين اي شيء آخر تقريباً، من الناحية الاقتصادية، للناخبين الاسرائيليين الذين يشعرون بنفاد الصبر، الامر الذي يعرّض رئيس الحكومة الاسرائيلية لخطر كبير يتعلق بعنصر اساسي في استراتيجية الحكم التي يعتمد عليها. وقد نشرت صحيفة "هآرتس" كبرى الصحف اليومية الاسرائيلية مقالاً بقلم المعلق المعروف جويل ماركوس جاء فيه: "لن يحكم الناخبون على مدى نجاح الحكومة الحالية على أساس عملية السلام، وإنما على اساس قدرتها على حل مشكلتي البطالة والفقر. ويجب ان نتذكر هنا أن فشل حزب الليكود لم يكن ناشئاً عن التأخير في عملية السلام، ولكن عن الخلافات الداخلية، وأيضاً عدم القدرة على توفير الاحتياجات الأساسية". ولا تتضمن موازنة رابين الأولى أي نص يتعلق بتخفيض طوابير العاطلين عن العمل الذين ورثهم عن الليكود. ولن يحدث اي تحسن كبير في نسبة البطالة التي تبلغ 11 في المئة في ظل حكومة اعتمدت اساساً على وعود الانتعاش الاقتصادي لكسب ثقة الناخبين المشككين. وكتب معلق صحافي اسرائيلي آخر قائلاً: "وكأنه لم تحدث أية انتخابات، وكأنه لم يحدث أي تغيير سياسي، وكأنه لم يكن هناك أي وعد بتغيير ترتيب الأولويات الوطنية، وهكذا لا تشتمل موازنة 1993 على أي شيء يؤدي الى تغيير جوهري في جو الكآبة الاقتصادية". ولن تؤدي ضمانات القروض أيضاً الى أية زيادة ملحوظة في معدلات الهجرة السوفياتية. وعلى رغم ان هناك مليون شخص يحملون تأشيرات خروج من روسيا والجمهوريات السوفياتية السابقة الأخرى، فان اسرائيل ستعتبر انها "نجحت" اذا وصل اليها ستون ألفاً من هؤلاء خلال 1993. وازداد السخط العام بشأن الاقتصاد نتيجة عجز رابين عن التوصل الى أي نوع من الانسجام بين عناصر الائتلاف الحاكم. ومن بين العوامل التي أدت الى هذا الشعور العام بخيبة الأمل تجاه رابين، الحرب الدائرة بين حزب "ميريتس" اليساري وخصومه من اعضاء حزب "شاس" الديني، والفشل في الحفاظ على وحدة صفوف الائتلاف الحاكم في بعض عمليات التصويت داخل الكنيست، وكذلك عدم وجود ملامح جديدة محددة في السياسة الحكومية. وفشل رابين في محاولاته المستمرة ايضا لتوسيع نطاق الائتلاف الحاكم عن طريق ضم حزب "تسوميت" اليميني بزعامة رئيس الأركان السابق رفائيل ايتان، والحزب الوطني الديني اليميني المتطرف. "غزة أسوأ من لبنان" وعلى رغم أهمية هذه العوامل في توضيح الخلفية السياسية الداخلية لقرار الابعاد، فان الشعور بخيبة الأمل في رابين لا يكفي في حد ذاته لتفسير قرار الابعاد. ان العامل الحاسم في قرار الابعاد يتمثل في استمرار تدهور الموقف الأمني في الأراضي المحتلة، وزيادة وعي الرأي العام بمدى قصور الجيش وأجهزة الاستخبارات الاسرائيلية. وقد اهتزت ثقة الرأي العام في قدرة رابين على تنفيذ وعده بتحسين الوضع الامني، وذلك نتيجة "للمراوغة" في تفسير حادثة وقعت في اثناء تدريب الوحدات الخاصة على شن هجوم على قيادات حزب الله في لبنان ونجاح "حماس" في ضرب بعض الاهداف العسكرية في الأراضي المحتلة، وفقدان الجيش الاسرائيلي سيطرته على بعض اجزاء قطاع غزة، وسيطرة الجماعات الفلسطينية المسلحة على تلك المناطق. ويعود جنود الاحتياط الاسرائيليون، الذين يخدمون في الجيش الشعبي، من قطاع غزة بقصص الخوف والعجز عن مواجهة الجماعات الفلسطينية. وجاء في مقال صحافي نشر في اسرائيل اخيراً: "لم يعد الجنود في كتيبة احتياط في خان يونس يشعرون بالخجل من الاعتراف بمدى خوفهم". ويقول أحد هؤلاء الجنود: "عندما أؤدي الخدمة في غزة، فان كل ما أرغب فيه هو البقاء على قىد الحياة... إنني اشعر بالخوف، ولا اعتقد ان هناك أي جندي هنا لا يشعر بالخوف... انني اشعر بأن الخدمة هنا أسوأ حتى من الخدمة في لبنان، لأنه لم يكن يسمح لأية سيارة مدنية بالمرور في لبنان، اذا كانت هناك سيارة عسكرية اسرائيلية على الطريق. ولكننا لا نستطيع شل حياة السكان هنا بمنعهم من الحركة... ان جنود الاحتياط كلهم الذين خدموا معي هنا يعودون الى منازلهم بشعور قوي مفاده انه يجب على اسرائيل التخلص من قطاع غزة ونسيانه الى الأبد". ونتيجة لمثل هذه المشاعر، ارتفعت اصوات تدعو الى الانسحاب من قطاع غزة وبناء سياج حوله، ما يعني القيام بأي اجراء - مهما كانت طبيعته - لتغيير الواقع الراهن غير المحتمل في اسرائيل، ويشعر الرأي العام الاسرائيلي بالاحباط نتيجة استمرار رابين بتعريض حياة الجنود الاسرائيليين للخطر في جباليا ورفح، وذلك لهدف لا يستطيع هو نفسه تفسيره. وبلغت مطالبة الرأي العام الاسرائيلي باتخاذ اجراء ما ذروتها بعد مقتل توليدانو. وبعد هذا الحادث، اقترح جهاز الاستخبارات الاسرائيلي شين بيت على رابين ابعاد عشرة فلسطينيين من اعضاء حماس وقدم له قائمة بأسمائهم. وكان بإمكان رابين الموافقة على تلك القائمة لو كان هدفه الرئيسي اضعاف القدرات التنظيمية لحماس، ولكن القرار الذي اتخذه بطرد 415 فلسطينياً كان يدل على رغبة أكبر وأكثر أهمية في تلبية المطالب الشعبية بأن يعاقب رابين الفلسطينيين. ولكن ما هو الهدف من هذا العقاب؟ لا شك ان تأييد الرأي العام لرابين ازداد بعد قرار الابعاد الذي أيدته نسبة 91 في المئة تقريباً من يهود اسرائيل. ومع ذلك قالت نسبة 44 في المئة ان هذا القرار سيؤدي الى زيادة الهجمات الفلسطينية في المستقبل، او لن يؤثر عليها على الاطلاق. وبعد صدور هذا القرار وتنفيذه، أصبح استقرار حكومة رابين يعتمد على مقاومة كل الضغوط الدولية لاعادة المبعدين. ومن هذا المنطلق حرص رابين على ارسال نوع من التحذير الضمني الى ادارة كلينتون حين قال، بعد إقدام المحكمة الاسرائيلية العليا يوم 28 كانون الثاني يناير الماضي على دعم قرار الابعاد وبعد المطالبة العربية والفلسطينية بعقد اجتماع لمجلس الامن الدولي لدرس مسألة فرض عقوبات على اسرائيل: "يصعب عليّ أن أؤمن بأن الادارة الاميركية يمكنها ان تعمل على فرض عقوبات على اسرائيل. لقد درجت الادارات الاميركية المختلفة منذ 35 عاماً على عدم تمكين اية جهة دولية من فرض عقوبات على اسرائيل وأشعر بأن هذا سيكون موقف الادارة الاميركية الجديدة". وتصريح رابين هذا يعكس، في الواقع، قلقاً قوياً - ولكن ضمنياً - من الضجة العالمية المثارة حول قرار خاطئ اتخذه - وهو قرار ابعاد الفلسطينيين - ولا يستطيع التراجع عنه بسهولة، اذ ان ذلك سيعرض حكومته لهزة كبرى، كما سيضعف شعبيته في الساحة الاسرائيلية. وهذا هو المأزق الذي وضع رابين نفسه فيه. * خبير اميركي بارز في الشؤون الاسرائيلية ورئيس تحرير نشرة اميركية تعنى بالأراضي العربية المحتلة.