أخذ الاميركيون يعتادون بصورة تدريجية على رئيسهم الجديد والتعقيدات الجديدة للعالم بعد نهاية الحرب الباردة. ومع التحسن البطيء في الاقتصاد هناك احساس مضطرد بأنه يمكن معالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية التي طالما انتظرت العلاج، وبأن المشكلات الخارجية لن تكون على تلك الدرجة من الكلفة المفرطة او الخطورة. باختصار ستكون اميركا في عام 1994 على الارجح في مزاج اكثر تفاؤلاً مما كانت عليه في معظم عام 1993. هناك اسباب عدة لذلك: بادئ ذي بدء تعلمت ادارة كلينتون من بعض اخطائها في العام الأول. وأصبح الرئيس يبدي اهتماماً اكثر تركيزاً بالقضايا كما انه اصبح اكثر حرصاً في ما يقول ازداد خبرة في مجال السياسة الخارجية. على النقيض من ذلك غالباً ما كان يبدو في عام 1993 غير واثق من نفسه، كما كان يسارع الى الكلام قبل التفكير جيداً. وبشكل عام كان يعطي صورة تنم عن عدم الثقة والتردد. وفي مجال السياسة الخارجية طغت كوارث السياسة الخارجية الاميركية ازاء البوسنة والصومال وهايتي على المهارة النسبية التي ابداها في التعامل مع روسيا واليابان. جاءت نقطة التحول الحاسمة في عام كلينتون الأول بنجاحه في معالجة قضية معاهدة التجارة الحرة لأميركا الشمالية نافتا. اذ انه اظهر قدرة على كسب التأييد من الحزبين في قضية مثيرة للخلاف الشديد تنطوي على جوانب من السياسة الداخلية وأخرى من السياسة الخارجية. واذا ما نجحت مفاوضات التجارة العالمية غات فان كلينتون سيستقبل عام 1994 يسجل قوي في ميدان تأييد التجارة الحرة وتحرير الاقتصاد العالمي من الحواجز والقيود. اما على الصعيد الداخلي فسيكون العام الجديد عام النقاش الكبير للرعاية الصحية. ولا بد لكلينتون من النجاح في اقرار تشريع لاصلاح هذه الرعاية قبل بدء انتخابات الكونغرس في تشرين الثاني نوفمبر واذا ما اخفق في هذه القضية فإن رئاسته ستواجه خطراً محدقاً لأنه اقنع الكثيرين من الاميركيين في نهاية الامر بأن القضية حاسمة الاهمية. لكن المشكلة هي الصعوبة الكبرى التي سيواجهها في محاولة موازنة الضغوط التي ستمارسها جماعات المصالح المختلفة التي ستؤثر النتيجة النهائية في مصالحها. فالرعاية الصحية تكلف الاميركيين الآن اكثر من الدفاع الوطني كما ان تكاليفها في ارتفاع مضطرد. ولا شك في ان كلينتون سيحتاج الى كل ما يتحلى به من مهارات وستحتاج زوجته الى كل ما لديها من مواهب للفوز في هذه المعركة. كذلك يضم جدول اعماله المحلي اصلاح نظام الضمان الاجتماعي واتخاذ اجراءات لمكافحة الجريمة. اذ ان المعدل العام للجرائم ربما لا يزداد كثيراً ولكن عدد جرائم القتل واستخدام الاسلحة في الجرائم في ازدياد يثير القلق الشديد الى درجة ان الاميركيين يظهرون الآن استعداداً يفوق ما اظهروه في اي وقت سابق لتحديد ملكية السلاح. وستجري الكثير من المعارك السياسية خلال عام 1994 تحت شبح انتخابات الكونغرس. ومن المتوقع ان يحقق الجمهوريون بعض المكاسب في مجلس النواب ولكن من غير المحتمل اطلاقاً ان يفوزوا بأغلبية مطلقة فيه. اما في مجلس الشيوخ فان فرصهم افضل قليلاً. ولهذا من المهم ان يحافظ كلينتون على هيمنة حزبه في مجلس الشيوخ اذا كان يريد الاستمرار في تنفيذ برامجه الاجتماعية والاقتصادية. واذا ما استمر الانتعاش الاقتصادي فإن فرص كلينتون ستكون جيدة. واذا تحولنا الى السياسة الخارجية وجدنا ان عليه الاهتمام بقضايا عدة. من هذه القضايا مساعدة روسيا على الانتقال الى اقتصاد حيوي ونظام ديموقراطي. لكن هناك حدوداً لما يمكن ان تفعله الولاياتالمتحدة من اجل التأثير في التطورات الروسية. ومع ذلك فانه ليس هناك ما هو اهم من منع عودة شكل من اشكال الفاشية الى روسيا. ولا بد وان يكون الصراع العربي - الاسرائيلي في مقدمة قائمة اولويات سياسة كلينتون الخارجية. اذ سيبدأ العام باجتماع مهم في جنيف مع الرئيس السوري حافظ الأسد. وعلى عكس مسار المفاوضات بين اسرائيل والفلسطينيين حين امتنع الاميركيون عن التدخل في القضايا الجوهرية، لا بد للأميركيين من ان يقوموا بدور الوسيط الكامل وتقديم الاقتراحات لسد ثغرات الخلاف وتقديم الدفعات والضمانات وما الى ذلك على المسار الاسرائيلي - السوري. واذا ما سارت الامور تبعاً للخطة المرسومة فان كلينتون سيدعي الفضل في المساعدة على التوصل الى اعلان مبادئ سوري - اسرائيلي بل وربما ترتيب قمة بين الأسد ورابين. وبحلول صيف 1994 سيبدأ الاميركيون التركيز على قضية الانتخابات في الضفة الغربية وغزة وسيكون ذلك بمثابة اختبار لما اذا كان التأييد الاميركي للديموقراطية في الشرق الأوسط اكثر من مجرد كلام. وأنا اتوقع ان تبين ادارة كلينتون بجلاء لمنظمة التحرير ان الانتخابات ضرورة اساسية وانه سيكون من الصعب بدونها تقديم المبالغ المالية الكبيرة التي يتوقعها الفلسطينيون، كما سيكون من الصعب اقناع الاسرائيليين بمواجهة قضايا الوضعية النهائية بعد سنوات قليلة. وستكون رسالة واشنطن الصريحة هي: ان الولاياتالمتحدة مستعدة لتقديم التزام اساسي ازاء النظام الفلسطيني الذي يتحرك نحو ديموقراطية حقيقية ولكنها ستلتزم الحذر الشديد تجاه ضمان او كفالة ديكتاتورية رجل واحد. ومع تحديد فريق كلينتون بوضوح اتجاهه في مجالي السياسة الداخلية والخارجية فمن الممكن ان تحدث تغييرات في المناصب الكبرى في الادارة. وهذا امر طبيعي بل ويمكن ان يساهم في تسهيل عملية صنع القرارات لا سيما في السياسة الخارجية. وسوف تختلف الموضوعات العامة لسياسة كلينتون الخارجية عام 1994 عنها في سنته الاولى. فكما هي العادة غالباً ما يكون الرؤساء الجدد قليلي الخبرة في الشؤون الدولية وغالباً ما يتبنون مواقف ربما لا تكون واقعية. ولكن مع بدء عام رئاستهم الثاني يبدأون اختيار القضايا التي يودون معالجتها وينتهجون خطأ اكثر حذراً وأكثر واقعية. ولهذا غالباً ما تكون السنة الثانية ذروة الادارة الماهرة للسياسة الخارجية للرئيس. وما نراه هو ان سياسة كلينتون الخارجية لا تختلف كثيراً عن سياسة جورج بوش في خطوطها العامة. فقد خفت الحماسة السابقة للأمم المتحدة كما ان النزعات التداخلية تراجعت وبدأت الواقعية تحل مكان المثالية. اما على الجبهة الداخلية فلا يزال كلينتون رئيساً مصلحاً راغباً ومتلهفاً لتغيير الأولويات التي ورثها عن سنوات ريغان وبوش. اذ انه زاد الضرائب لا سيما على الاثرياء وهو يحاول تضييق الهوة بين الاغنياء والفقراء. وهو يحاول استخدام سلطة الرئاسة لمعالجة القضايا الصعبة مثل الجريمة والرعاية الصحية والاصلاح في نظام الضمان الاجتماعي وتحسين الوضع في المدن الكبرى. وهذا جدول طموح جداً. ولكن معالجة هذه القضايا هي التي ستقرر نجاح رئاسته او فشلها. فقب اشهر قليلة كان الاميركيون يتساءلون ما اذا كان كلينتون نسخة اخرى من جيمي كارتر اي انه سيكون رئيساً لفترة ولاية واحدة لا يعرف تماماً كيف يدير الامور في واشنطن. ولكن بينما يستقبل الاميركيون عام 1994 يبدو انهم اكثر ثقة بشكل عام. ويعود جزء من هذا التفاؤل الى الاعتقاد بأن كلينتون ربما يثبت انه زعيم فعال ناجح. وسوف يقضي الاميركيون معظم العام المقبل في تحليل وتقويم مدى نجاح كلينتون في مواجهة التحدي. فاذا ما نجح وظل الاقتصاد قوياً فانه يمكن ان يصبح اول ديموقراطي منذ فرانكلين روزفلت يعاد انتخابه لولاية ثانية. * مستشار الرئيس الاميركي السابق كارتر وخبير بارز في شؤون الشرق الاوسط.