أثار امتناع وزير الخارجية الاميركي وارن كريستوفر عن زيارة لبنان في اثناء جولته الأخيرة في الشرق الاوسط الرامية الى تحريك العملية السلمية بعد جمود خيّم عليها أشهراً عدة تساؤلات كثيرة عن دوافعه وأسبابه في الأوساط اللبنانية الرسمية والسياسية والشعبية. وقد حاول رئيس الجمهورية الياس الهراوي معرفة السبب من الرئيس السوري حافظ الأسد في اثناء الاتصال الهاتفي الذي أجراه معه الأخير لاطلاعه على جوهر محادثاته مع كريستوفر فكان الجواب "ان وزير الخارجية الأميركي تلقى فاكساً من لبنان يعتبر مرسله ان لا لزوم للزيارة ولا فائدة منها. وان سورية حاولت اقناعه بالقيام بزيارة بيروت، لكنه لم يتحمس". وهنا اتصل الهراوي بوزير الخارجية فارس بويز لمعرفة ما اذا كان ارسل فاكساً بهذا المعنى. فتلقى جواباً بالنفي. وبعد ايام قليلة نشر بعض وسائل الاعلام اخباراً تفيد بأن رئيس الحكومة رفيق الحريري يقف وراء عدم الزيارة وبأنه ارسل الى الادارة الاميركية، التي يمتلك داخلها صداقات متينة وتعتبر وجوده على رأس الحكومة في هذه المرحلة دليل عافية بالنسبة الى لبنان، خبراً بهذا المعنى. وتبين لاحقاً ان هذه الأخبار عارية من الصحة وان مسربيها رموا الى تحقيق اهداف عدة، منها تقليص رصيد رئيس الحكومة عند الناس، او بالاحرى تقليص ما بقي منه، باعتبار ان الحكم يستهلك الحاكمين، خصوصا بعد الاتصال الهاتفي الذي اجراه به من دمشق الوزير كريستوفر والذي تشاور معه في اثنائه في كيفية ازالة الجمود المخيم على عملية السلام عموماً وعلى المسار التفاوضي اللبناني - الاسرائيلي خصوصاً. اذ اعتبر المسربون اقتصار الاتصال الهاتفي على الحريري دعماً له في الصراع الدائر بينه وبين رئيس الجمهورية ووزير الخارجية وتجاوزاً لعدد من الاعراف والأصول. ومنها ايضا دفع المجلس الاعلى اللبناني - السوري الذي كانت الدعوة الى انعقاده وجّهت وقد انعقد يوم الثلاثاء الماضي الى عدم حصر ابحاثه في عملية السلام وتطوراتها المرتقبة بحيث تشمل الوضع الحكومي الذي يسعى الرئيس الهراوي الى تغييره منذ مدة وتحديداً الى تغيير رئيس الحكومة بعدما تحولت العلاقة بينهما من تحالف كامل الى خصومة مطلقة وربما الى عداء. وفي هذا الاطار ايضا جاء تسريب الأخبار المتعلقة بالمواجهة بين الحكومة ورئيسها تحديدا وبين أصحاب التلفزيونات غير الشرعية حول استعمال القنوات الفضائية، وأشارت الانباء الى التزام الرئيس الهراوي عدم توقيع المرسوم المتعلق بهذا الموضوع وردّه الى مجلس الوزراء. علما ان موقف الحكومة من هذه القضية قد لا يكون سليما مئة في المئة. واذا كان هناك من نصيحة لوزير الخارجية الاميركي بعدم زيارة لبنان فقد تكون من طاقم سفارته في عوكر وهو على اتصال دائم بها، وهذا امر طبيعي، وقد تكون السفارة اعتبرت ان السلطة اللبنانية غير مهيأة للبحث معه في المواضيع الجدية تاركة كل ذلك لدمشق. علما ان دمشق قد لا تكون طلبت هذا القدر من التخلي. اما في خصوص تجاوز وزير الخارجية فان المعلومات المتوافرة تشير الى انه حصل من كريستوفر لكنه لم يحصل من سورية اذ بادر وزير خارجيتها فاروق الشرع الى الاتصال به فور انتهاء المحادثات مع المسؤول الاميركي والى وضعه في أجواء المحادثات التي أجريت معه. غياب بيروت ما هي اذاً الاسباب الفعلية لعدم شمول جولة كريستوفر لبنان؟ تشير المعلومات المتوافرة لدى مصادر ديبلوماسية غربية واسعة الاطلاع الى سبب يعزز الاقتناع الاميركي بعدم استعداد السلطة اللبنانية للخوض جدياً مع كريستوفر في القضية التي أتى من أجلها الى المنطقة. وقد ظهر ذلك من خلال قول الاميركيين ان وزير خارجيتهم سمع عندما زار لبنان سابقا أربعة اصوات مختلفة من مسؤوليه هي صوت رئيس الجمهورية وصوت رئيس مجلس النواب وصوت رئيس الحكومة وصوت وزير الخارجية. وانه سمع في اللقاء الموسع كلاماً يختلف عن الكلام الذي سمعه من كل منهم في الخلوات القصيرة. وفي أي حال تؤكد المعلومات نفسها ان عدم زيارة الوزير الاميركي بيروت او بعبدا لا يعني ان لبنان كان غائبا عن محادثاته في دمشق. فهو استغرق زهاء نصف هذه المحادثات التي تناولت أموراً عدة أبرزها اثنان هما: 1 - ضرورة ان يكون انسحاب اسرائيل من الجنوب والبقاع الغربي متزامناً مع انسحابها من هضبة الجولان. وهذا موقف سوري وموقف لبناني ايضا بلغ الى سورية وأسبابه كثيرة أبرزها ان الانسحاب من لبنان نتيجة صفقة منفردة وترك الجولان محتلاً سيكون شكلياً لحاجة اسرائيل الى حماية وجودها في تلك الهضبة وسيعني استمراراً لاحتلالها اياها ومزيداً من الضغط على سورية. وفي هذا الاطار يأتي "تساهل" سورية اذا جاز التعبير مع جماعات المقاومة وتحديداً الاسلامية التي يشكل حزب الله عمودها الفقري. ذلك انها تخشى في حال سهلت للسلطة امر وقفه عند حده، وهي قادرة على ذلك، ان تشجع هذه الخطوة على صفقة منفردة مع اسرائيل خصوصاً اذا مارست هذه والولاياتالمتحدة الاميركية ضغوطاً كبيرة على لبنان. 2 - ضرورة ان يكون الانسحاب الاسرائيلي من لبنان متزامناً مع الانسحاب العسكري السوري منه. وهذا امر لا ترفضه سورية اذا اتى في اطار تسوية شاملة مبرمج تنفيذها. ويعود ذلك الى اقتناعها بأن الجيش اللبناني الذي لا يزال في طور اعادة البناء قد حقق خطوات جدية وبات قادراً على القيام بالمهمات التي قد تطلب منه طبعاً في ظل دعم سياسي سوري واستعداد لتقديم المساعدة غير السياسية عند الحاجة. دمشقوواشنطن ماذا عن محادثات الأسد - كريستوفر المتعلقة بسورية وبمفاوضاتها مع اسرائيل؟ المصادر الديبلوماسية الغربية الواسعة الاطلاع نفسها تشير في معرض الجواب عن هذا السؤال الى ان القيادة السياسية العليا في سورية بدت مرتاحة جداً بعد محادثاتها مع الوزير كريستوفر. ويعود ارتياحها الى عوامل عدة ابرزها، جودة العلاقة الثنائية بين دمشقوواشنطن بعد سنوات عدة من الخصام والعداء والجفاء. وهذه العلاقة مستمرة في التحسن خصوصاً بعدما لمست الادارة الأميركية ان رغبة سورية في تحقيق السلام جدية وبعيدة عن المناورة وبعدما تأكدت ان لا سلام فعلياً في الشرق الاوسط من دونها على رغم الافتراق المهم الذي تحقق بتوقيع اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية "اتفاق غزة - اريحا اولا". ومما ساهم في تأكدها التعثر الذي يواجهه تطبيق هذا الاتفاق على رغم مرور موعد البدء بالتطبيق وتحديداً المشاكل التي اثارها داخل كل من الفريقين الموقعين عليه، والتي بدأت تهدده جديا ما لم يتم تحصينه بخطوات عملية وجدية على مسارات التفاوض الاخرى. ويبدو استناداً الى المعلومات نفسها، ان اسرائيل بدأت تشارك الولاياتالمتحدة القناعة نفسها. وقد اعربت عن ذلك لكريستوفر في اثناء زيارته الاخيرة لها. وهو بدوره ابلغه الى المسؤولين السوريين. وفي هذا الاطار تم الاتفاق على لقاء القمة بين الرئيسين الأميركي والسوري بيل كلينتون وحافظ الأسد في جنيف في السادس عشر من الشهر المقبل. وهو لقاء يمكن القول انه سيحصل بطلب الفريقين معاً. أما على صعيد موقف سورية من التسوية ومن الجهود المبذولة للتوصل اليها فان المصادر نفسها تشير الى الآتي: 1 - الرغبة في السلام عند سورية صادقة، شرط ان يكون السلام شاملاً وكاملاً وعادلاً وان يعيد الاراضي السورية المحتلة وكذلك اللبنانية في اطار من التزامن. 2 - لا ضرورة على الاقل في هذه المرحلة للقاءات ثنائية سورية - اسرائيلية خارج اطار المفاوضات الثنائية المنتظر استئنافها قريبا. ولا ضرورة لرفع مستوى المفاوضين. وقد جاء هذا الموقف رداً على اقتراح تقدم به كريستوفر للاسد يقضي بأن ينضم رئيس الحكومة الاسرائيلية اسحق رابين الى لقاء القمة بين الاسد وكلينتون في مرحلة ما. 3 - انتقدت سورية "اتفاق غزة - اريحا اولا" وستستمر في انتقاده. لكنها لن تقوم بتسهيل تفاهم الفصائل المعارضة له وتحديدا خارج الاراضي المحتلة على موقف متكامل ضده ولن تسهل محاولتهم ترجمة هذا الرفض على نحو عملي. 4 - العرب المشاركون في المفاوضات الثنائية سينسقون مواقفهم في الجولة الثانية عشرة المرتقبة. وذلك يشمل سورية ولبنان والأردن. وفي هذا الاطار يأتي ارسال هذه الدول رؤساء وفودها الى المفاوضات الى واشنطن قريباً لاستكشاف آفاق الجولة المنتظرة مع الادارة الاميركية وربما مع رؤساء الوفود الاسرائيلية. وسيكون لهذا الاستكشاف اثر اساسي على محادثات الاسد - كلينتون في جنيف. ذلك ان الرئيس السوري اقترح وطلب ان يلتقي قبل توجهه الى جنيف على الاقل رئيسي وفدي لبنان وسورية السفيرين سهيل شماس وموفق العلاف للاطلاع منهما على حصيلة مشاوراتهما وللانطلاق من ذلك لتحديد هيكل مباحثاته مع الرئيس الاميركي. 5 - كان الهدف من "كشف" كريستوفر موافقة سورية على تسهيل سفر يهود سورية وعلى تسهيل البحث عن مصير جنود اسرائيليين فقدوا في لبنان اعطاء حكومة اسحق رابين حجة تبرر بها تخفيف تصلبها حيال سورية ومطالبها. ذلك ان يهود سورية أزيلت القيود عن مغادرتهم منذ مدة والجميع يعترفون بذلك كما ان دمشق ابلغت دائماً الى واشنطن استعدادها لتسهيل البحث عن مصير الجنود الاسرائيليين المفقودين لكن في الوقت المناسب. 6 - تناول البحث بين الرئيس السوري والوزير الاميركي دور ايران في احتمال تعطيل العملية السلمية وما يمكن ان تقوم به سورية على هذا الصعيد. ومعروف ان سورية لعبت دوراً مهماً على صعيد تطبيع علاقات دول خليجية مع ايران. وكان الجواب دعوة الى البحث الجدي في عدم ابعاد ايران عن امن الخليج وفي مشاركتها في الحفاظ عليه. هل يعني ذلك اقتراب التفاهم على مبادئ التسوية بين سورية واسرائيل وان لقاء الاسد وكلينتون سيعطي علامة الانطلاق لتكريس هذا التفاهم؟ القريبون من دمشق يؤكدون المعلومات المذكورة اعلاه كلها، ويقولون ان القيادة السياسية العليا في سورية تعتقد حتى الآن، وما لم يحصل تطور معين، ان احتمالات التوصل الى تسوية او اتفاق على مبادئ تسوية توازي احتمالات الفشل. ذلك ان وزير الخارجية الاميركي، على رغم كل ما قيل، لم يجلب معه من اسرائيل الى دمشق مواقف نهائية او اجوبة عن المواضيع قيد البحث وانما اقتراحات للبحث. وهو ما يجري الآن. لكن ذلك لا يعني ان تبلورها قبل قمة جنيف بين الاسد وكلينتون مستبعد او مستحيل.