في الحلقة الخامسة روى منصور رحباني كيف انتقل مع اخيه عاصي من الاذاعات الى المسرح والمهرجانات السنوية في بعلبك، والأرز، وقصر البيكاديللي في بيروت، وفي دمشق، وكيف كان عملهما يتداخل فيذوبان في شخص واحد. وفي هذه الحلقة يروي منصور كيف بدأا في التلفزيون ولم يشاءا ان "يحترقا" به فانتقلا الى العمل السينمائي بنصيحة صديق لهما وحققا ثلاثة افلام ما زالت تعرض حتى اليوم. ثم كيف انتشرت اعمالهما في العالم العربي، مركزاً على مقدرة فيروز وصوتها الخارق وحضورها المذهل. بعدما كان لبنان يعرف محطة تلفزيونية واحدة: "شركة التلفزيون اللبنانية" تأسست عام 1959 في تلة الخياط - بيروت، بدأ بث تجريبي في 1962 من محطة جديدة: "شركة تلفزيون لبنان والمشرق" الحازمية. وبدا الناس مشدودين الى هذه المحطة الجديدة التي اخذ اعلامها يعدهم ببرامج جديدة وقوية. وكان البث يومئذ في لبنان لا يزال بالابيض والأسود. في تلك الفترة اتصل بنا الصديق جان ابو جودة، رئيس مجلس ادارة "تلفزيون لبنان والمشرق" فاجتمعنا به عاصي وأنا، وطلب منا اعداد حلقة تلفزيونية خاصة لبثها يوم افتتاح المحطة الجديدة. كانت شروط التلفزيون على غير توقعاتنا فأصر عاصي على شروط وتعثرت المفاوضات. وذات مرة قال له ابو جودة: "أنت تفاوض بديبلوماسية فائقة يا عاصي. كان يجب ان تكون سفيراً تمثل الدولة في الخارج". فأجاب عاصي: "انا سفير شعبي الى الفن، وديبلوماسيتي هي في تنفيذ اعمال جيدة لا تخيب ظن شعبي بنا، وهو اعتاد ان نقدم له اعمالاً لا يعتذر عنها بسبب ضعف الامكانات". امام هذا الجواب رضخ مجلس الادارة لشروط عاصي فوضعنا اوبريت "حكاية الاسوارة". كانت تلك تجربتنا الأولى مع التقطيع التلفزيوني، ونجحت بسرعة لما جاءت به من مناخ جديد على البرامج التلفزيونية عهدذاك. لم نتحمس للتلفزيون اخذ "تلفزيون لبنان والمشرق" يلحّ علينا باعداد برامج اخرى، فكنا نعتذر عن تلبيتها جميعاً. كنا متنبهين الا نحترق بتكرار الظهور على الشاشة الصغيرة التي تستهلك بسرعة، وان نبقي على اعمالنا المسرحية التي يقصدها الناس، عوض ان تذهب الى بيوتهم بالسهولة التي عادة تقتل الفن. لكننا لم نقاطع الشاشة الصغيرة كلياً. كنا في فترات متباعدة نهيئ برنامجاً تلفزيونياً تكون له اصداء كبيرة، وتكتب عنه الصحافة طويلاً، ويحبه الناس ويطلبون اعادة بثه. كان من قدرنا ان تتناول الصحافة كل عمل لنا، حتى في التلفزيون، فيكتب عنه النقاد والموسيقيون والعارفون بأمور الفن والثقافة. قدمنا للتلفزيون برامج منوعات غنائية، نجمتها فيروز، منها: "دفاتر الليل"، "ليالي السعد" "ضيعة الاغاني"، "القدس في البال"، وبرامج ميلادية وأخرى للفصح. خارج نجومية فيروز طلب منا التلفزيون مسلسلاً تمثيلياً، اعددناه بمساعدة مستشارنا الفني لأمور السيناريو كامل التلمساني. قدمنا مسلسل "قسمة ونصيب" من بطولة هدى، ومسلسلاً آخر بعنوان "من يوم ليوم" بطولة هدى ووحيد جلال. وهذا اشترته تلفزيونات عربية عدة، واشتهر كأحد اجمل المسلسلات الغنائية التي فيها التشويق البوليسي والعقدة الغريبة. ثم عدنا فقدمنا برامج اخرى للتلفزيون الاردني. لكننا لم نتحمس كثيراً للتلفزيون. اشتغلنا له باقتصاد مدروس كي لا تستهلكنا الشاشة الصغيرة. اشحنا في ما بعد عن الاشتغال للتلفزيون لأننا نؤمن ان هذا الفن المسرح، التلفزيون، السينما، يتم بجهود عدد كبير من الناس. حين تكون شاعراً تكتب قصيدة وتلقيها في حلقة او تنشرها فتكون القصيدة وصلت الى بعض غايتها. وإذا كنت رساماً ترسم لوحتك وتعرضها فتصل الى بعض غايتها. في الغناء، تحتاج مقطوعتك لصوت يؤديها ولموسيقيين يعزفون ولأستديو للتسجيل. وكذلك التلفزيون والسينما يحتاجان الى مخرج وممثلين وتقنيين. لذا لا يقوم عمل تلفزيوني كبير الا بجهود مجاميع تتضافر لانتاجه، وهذا يتطلب ميزانيات ضخمة لا أرى في التلفزيونات العربية اليوم واحداً لديه استعداد لتخصيصها لعمل ضخم فيه التخطي والعظمة. جميعها تستقرب الربح السريع وتنفذ اعمالاً رخيصة وضيعة لا عمر لها. يتم تصوير ساعة تلفزيونية كاملة في يوم او يومين، بينما في الغرب يستغرق التصوير يوماً كاملاً لاستخراج لقطة او لقطتين من بضع دقائق. التلفزيون يلزمه كرم لتنفيذ الديكور والموسيقى والتمثيل والاخراج والمؤثرات المرافقة كي يخرج الانتاج كبيراً. واذا كانت التلفزيونات العربية تطمح الى اعمال راقية فيجب ان تسخو على الانتاج، وهي لو شاءت قادرة على ذلك. انطلاقاً من هذا قررت الا اعمل للتلفزيون بعد اليوم. اما حلقة المنوعات فيجب ان اعد لها ميزانية ضخمة لتنفيذها بالمستوى المطلوب ولا اعرف اي تلفزيون مستعد لصرف ميزانية بهذا الحجم. من هنا جعلت نفسي خارج الانتاج التلفزيوني وأكتفي حالياً بأعمالي المسرحية. هذا المنحى تنبهنا له من أول الطريق، عاصي وأنا: كنا دائماً على اتفاق خفي غير معلن مع جمهورنا على الا نقدم له الا ما ينتظره منا. هو يثق بنا، ونحن نقدم له ما يرضيه. لذلك، مثلاً، كنا نمده في اعمالنا وحلقاتنا بما يقبله لأنه يثق بنا. من هنا جعلناه يقبل مثلاً عبارة "الزمان اللي بياكل كلس الحيطان" من مشهد "نهاية زنوبيا" في احد مهرجانات دمشق الدولية، وهي اللوحة الاخيرة - 20 دقيقة - من مسرحية لم نكتبها كاملة اسمها "زنوبيا". ذلك اننا نعتبر المشاهد او المستمع خلاقاً آخر، يتلقى العمل ويتفاعل معه. لذا حين يثق بك وبنتاجك يقبل منك كل ما تقدمه له. هكذا قبل منا الجمهور انتقالنا من المسرح الى التلفزيون ثم الى السينما. ميدان السينما ذات يوم من عام 1965، وكنا في جلسة خاصة مع صديق العمر رجا الشوربجي الذي قال: "لماذا لا تلجون ميدان السينما؟ عندكم جميع مقومات العمل الناجح: البطلة، التلحين، السيناريو... والفرقة الشعبية جاهزة. لماذا لا تأخذون احدى مسرحياتكم، وجميعها ناجحة وأحبها الجمهور، فتحولوها الى فيلم سينمائي؟". لمعت الفكرة في رأس عاصي فاقتنع. وعقدنا في المكتب جلسة مع مستشارنا كامل التلمساني، وهو مخرج طليعي ورسام مصري ترك مصر لأسباب سياسية، فبات مستشار مكتبنا وشاركنا في ورشة عملنا التلفزيوني. تحمس كامل ايضاً لفكرة دخولنا عالم السينما، ولفكرة تحويل احد اعمالنا المسرحية للشاشة. في هذه الفترة بالذات صدف ان جاء الى لبنان المخرج يوسف شاهين. اجتمعنا به وعرضنا عليه الفكرة فاقتنع بها. وقمنا بخدمة كبيرة له حين سعينا الى استرداد هويته اللبنانية، لا سيما ان له جذوراً وقيد نفوس في زحلة تعود الى جده لأبيه من آل الحاج شاهين. فاتحناه بأمر انتاج احدى مسرحياتنا فيلماً سينمائياً فاستحسن الامر وعرّفنا الى منتج سينمائي معروف عهدذاك: المهندس نادر الأتاسي. وحين توافقنا على المبدأ العام، فكرنا بنقل "بياع الخواتم" الى الشاشة لأنها فريدة من نوعها في السينما ويوسف شاهين نفسه احبها. اتفقنا ان نبقيها تلك القطعة الغنائية كما خرجت على المسرح، وطلبنا ان يضع ميزانية العمل فجاء برقم 225 الف ليرة لبنانية. وكنا، عاصي وفيروز وأنا وصبري، شركاء في الانتاج مقابل اتعابنا، والتمويل من نادر الأتاسي. وأتينا بفريق التقنيين والفنيين مدير اضاءة، مدير تصوير، مصور، ماكياج، مؤثرات صوتية من الخارج. على ان حساب حقل يوسف شاهين لم يطابق حساب بيدر التنفيذ، فاذا بالميزانية تصل الى 600 الف ليرة. لكن الفيلم خرج سليماً، وصورته الجمالية جيدة. صحيح ان نتائجه المادية كانت علينا عند حدود الكارثة لكن نتائجه الفنية ارضت طموحنا عهدذاك. وقد لعب في صالات كثيرة، ولا ازال حتى اليوم اسمع بأن بعض الصالات يعيد عرضه، ويستشهد به بعض النقاد والكتّاب والمعنيون بأمر السينما وبأعمال يوسف شاهين. من النوادر التي رافقت تصوير "بياع الخواتم" ما يستحق ذكره: بلغنا ان كاميرا جديدة اسمها دولي وصلت الى بيروت، وفيها امكانات ان يجلس عليها المخرج فتصعد به وتهبط وتتحرك على عجلات صغيرة مما يخلق سهولة التقاط المشهد من زوايا عدة دفعة واحدة. طلب يوسف شاهين ان نجيء بها الى الاستوديو وكان التصوير كله داخلياً في الاستوديو العصري حيث انجزت اعمال الديكور كلها. وبعدما كان طلبها للقطة من عشر دقائق، وكان ايجارها مرتفعاً يومئذ لم يعد يتخلى عنها وأكمل تصوير لقطات الفيلم الباقية كلها بها. وكنت كلما سألته عند انتهاء التصوير كل يوم وبعدما اراه متهللاً مرتاحاً: "كم صورنا اليوم من اصل الفيلم الكامل؟ "كان يجيب: "عشر ثوان او خمس عشرة". ذلك انه كان دقيقاً في المونتاج ويصور لقطات كثيرة ليبقي منها على جزء جيد قليل. استغرق تصوير الفيلم نحو اثني عشر اسبوعاً، اقفلنا المكتب خلالها لأنني كنت امثل في الفيلم دور "مخول" امام فيلمون وهبه في دور "سبع". وهذان الدوران يعودان الى ايام طفولتنا وقصص سبع ومخول الآتية من تلك الأيام، بينما عاصي كان مع يوسف شاهين ووظيفته ان يقاتل الجميع بمن فيهم المخرج حتى يتحقق له ما يريد. نجح "بياع الخواتم" شعبياً وتلقته الصحافة بالتقريظ، فرغبنا في ان نعيد التجربة ولكن بقصة جديدة هذه المرة موضوعة خصيصاً للسينما. وضعنا "سفر برلك" عبارة عثمانية تعني النفي الى مكان مجهول. كتبنا السيناريو باسهام من كامل التلمساني وعقدنا الصفقة كما كانت في "بياع الخواتم": انتاج نادر الأتاسي ومشاركتنا نحن في الانتاج بعملنا وأتعابنا: أنا وعاصي وفيروز وصبري الشريف. جئنا اولاً بمخرج فرنسي هو برنار فاريل، ومعه فريق تقني فرنسي. فأخذ يطوي يوماً بعد يوم وأسبوعاً بعد اسبوع بحجة البحث عن اماكن تصوير. كان المطلوب ايجاد قرية لبنانية نموذجية تلبس الطربوش، اي ان سطوحها من القرميد، وفي بيوتها القناطر القديمة وبيوت الحجارة الاصلية من ايام الحرب العالمية الأولى. وأخذ فاريل يفتش ولا يعود بنتيجة. امضى شهرين من التجوال والاقامة في "الكورال بيتش" على حسابنا مع فريقه التقني. أرسلناه الى بيت شباب لأنها النموذجية لهذا الغرض، فلم يرض بها. واكتشفنا في نهاية الامر انه لا يمضي نهاره في البحث عن امكنة التصوير بل في مغامرات عاطفية شتى. عندها اوقفنا العمل في الفيلم ودفعنا له اتعابه وعاد الى فرنسا من حيث أتى. مخرجان من أصل لبناني بعد فترة 1966 علمنا بوصول هنري بركات الى لبنان. فاجتمعنا به وعرضنا عليه الامر وقرأنا له السيناريو فأعجبه. وهذه المرة ايضاً سعينا له كما ليوسف شاهين باسترداد الجنسية اللبنانية بعدما تبينت له جذور لجدوده في شتورة في البقاع، عملنا معه قليلاً على السيناريو، وطلبنا منه ان يضع ميزانية الفيلم، وأخبرناه ضاحكين ما حصل لنا مع يوسف شاهين. لكن ميزانية بركات كانت دقيقة جداً فلم تزد مطلقاً في نهاية الفيلم عن الرقم الموضوع الا بنسبة مئوية ضئيلة هي الهامش المتاح لكل ميزانية. استعملنا لقرية "عين الجوز" في الفيلم، تضييعاً للخارطة، مكانين للتصوير: بيت شباب في المتن ودوما في البترون. ونادراً ما استطاع الناس التمييز بأنهما قريتان. وأذكر ان صاحب الفندق الذي كنا ننزل فيه كان يسحب البطانيات عمن ناموا ليرضي بها من لم يناموا بعد. كنت اثناء التصوير اداوم في المكتب لأن دوري في الفيلم صغير نفذته في يوم واحد، وكان التلحين انتهى والكتابة انتهت، ولم يعد عندي عمل اقوم به، فكنت ابقى في المكتب لأتابع اعمالنا وأنصرف الى تحضير مسرحيتنا التالية: "أيام فخر الدين". وكان عاصي مضطراً ان يبقى في التصوير لأن دوره "ابو احمد" في الفيلم كبير فيه استعاد الكثير من شخصية ابو عاصي ولأنه كعادته يريد ان يشرف على كل شيء. احتجاج تركي ونجح الفيلم نجاحاً باهراً، غير ان السفارة التركية قدمت احتجاجاً الى السلطات في كل بلد لعب فيه بعد بيروت: تونس، العراق، الاردن، وسواها بحجة ان الفيلم ضدها، مع اننا في الحوار كنا نستعمل كلمة "العثمانيين" لا الأتراك، وكنا نعلم ان دولة العثمانيين انتهت مع مجيء الدولة التركية. في بيروت عرض الفيلم طويلاً وفي عدد من المناطق اللبنانية. وقررنا فوراً ان نقطف ثمرة هذا النجاح، فوضعنا قصة "بنت الحارس" واشتغلنا على السيناريو مع كامل التلمساني وجئنا مجدداً بالمخرج هنري بركات وكان الانتاج ايضاً وأيضاً لنادر الأتاسي. وفي هذا الفيلم لعب عاصي دور رئيس البلدية مستعيداً حنينه الى تلك الأيام التي كان فيها مضطراً الى ملاحقة الكلاب والقطط والحمير بأمر من رئيس بلدية انطلياس. كان دائماً عنده حنين نوستالجي الى تلك الأيام الأولى، ايام البؤس والوظيفة. وأنا لعبت دور بشير المعاز، مستعيداً كذلك ايام طفولتي في الجرود مع جدتي غيتا حين كنت اذهب معها الى البراري والحقول. من طرائف التصوير في هذا الفيلم ان عاصي، وهو المعروف بكرمه الزائد، كان دائماً على خلاف مع المنتج. وكنا نصور في القطين قرية في كسروان قرب غزير وهي مشهورة بالمطاعم، وكنا عادة نحضر السندويشات اثناء التصوير الى الفريق الكامل توفيراً لأن عددهم كبير. كان الفريق نحو سبعين فدعاهم عاصي جميعاً الى المطعم على حساب الانتاج. وصدف ان كنا في اليوم التالي نصور في منطقة فوار انطلياس حيث كان مقهى ابو عاصي قبل ثلاثين عاماً، واسترجاعاً لذكريات تلك الأيام وعندما حان وقت الطعام والاستراحة من التصوير دعا عاصي الفريق كله الى الغداء في احد مطاعم الفوار على حساب الانتاج كذلك. كان نادر الأتاسي يعرف كرم عاصي، فاتصل بي في المكتب مستفهماً بهلع: "وين كان التصوير مبارح؟" فقلت له: "في القطين". قال: "وين كان الغداء؟" فقلت: "في احد مطاعم القطين". قال: "ووين كان التصوير اليوم"؟ فقلت: "في نبع فوار انطلياس". قال: "ووين تغدى الفريق؟" قلت: "في مطعم الفوار". فصرخ نادر بلغته الشامية الطريفة: "ايه شو هاد؟ يفضح حريشكن. ما بيصير يتصور هالفيلم الا بمناطق المطاعم والقهاوي؟ والله العظيم رح يكون حسابي مع عاصي عسير". ورحنا كلانا في ضحكة طويلة ترددت عبر اسلاك التلفون. وكان نادر يحرص ان يقول انه ليس بخيلاً ولا مقتراً لكنه "حريص". "بنت الحارس" يتمم الدورة الفنية ظهر فيلم "بنت الحارس" كذلك موفقاً كسابقيه. برع في تصوير الواقع اللبناني وخرجت فيه جمالية كثيرة، ونجح تقنياً لأننا كنا استعنا له، كعادتنا، بتقنيين اجانب وحمضناه في لندن. ومع "بنت الحارس" اتممنا الدورة التي دخلنا بها الى التراث اللبناني من مختلف ابوابه: المسرح، الاذاعة، التلفزيون، السينما. وانتشر تراثنا الموسيقي والغنائي والحواري في الناس عبر تلك الوسائل، فراج وبقي في قلوبهم. ولعل تلك كانت اسرع وأبعد من الكتاب في ايصال نتاجنا، مع ان بعض اعمالنا المسرحية صدر حواراته كاملة في كتب مستقلة. وكان في بال الاستاذ غسان تويني اصدار مجموعة اعمالنا الكاملة في "دار النهار للنشر" عام 1988 لكن المشروع انطوى مع ما حدث في لبنان بعد ذاك العام من احداث. كتاب "سمراء مها" ولا يمكن القول ان لنا عملاً مطبوعاً خصيصاً للكتاب سوى مجموعة قديمة: "سمراء مها" 1952 صدرت عن "دار الرواد" في دمشق المطبعة الهاشمية. والواقع اننا لم نسع الى اصدار الكتاب بل اصدقاء لنا جمعوا بعض قصائدنا وأصدروها مع رسوم بريشة ادهم اسماعيل في كتاب من 144 صفحة، حوى 77 قصيدة كانت راجت بصوت فيروز وسواها. بعض هذه القصائد موضوع شعراً ثم لبسه اللحن، وبعضها الاخر موضوع على قياس لحن موجود سلفاً او راج في الغرب فوضعنا له كلمات عربية تتناسب وإيقاعه الغربي. من هذا المثال قصيدة "ماروشكا": ماروشكا ماروشكا في الغاب الحزين هلا تسمعين اجراس الحنين تدوي بارتياح ليس الا الرياح وصدرت في الكتاب مقدمة للناشر جاء فيها: "ليس هذا الغناء بحاجة الى من يقدمه للناس، بعد ان اطل عليهم من وراء كل مذياع ووجد سبيله القريب الى كل قلب. ولكن "دار الرواد" ما قصدت الى تقديم الاغاني بقدر ما قصدت الى تقديم الشعر، وهي تفخر ان تقدم الاخوين رحباني كشاعرين بعدما عرفهما القراء كموسيقيين مبدعين". هكذا اكتملت دورة البث الجماهيري للنتاج الرحباني، ومنذ اواخر الستينات اخذت تصدر الدراسات النقدية والانطباعية والتأريخية لما بات يسمى في ما بعد: "مدرسة الاخوين رحباني". هذا التيار الذي اشتهر في الناس، امتد عصره الذهبي من مطلع الستينات الى منتصف السبعينات، حين انكسر بالحرب في لبنان. اللغة اللبنانية المحكية خمس عشرة سنة كنا خلالها مسيطرين على الفن في المنطقة. من خلالنا انتشرت اللغة المحكية اللبنانية في العالم العربي. انتهجنا خطاً يؤمن بأن للمسرح لغة خاصة هي غير اليومية المحكية العادية. انها اللغة البيضاء: انتقينا اجمل ما في المناطق اللبنانية ونسجنا لغة مسرحية ذات معالم تتمتع بجميع الخصائص اللبنانية ومع ذلك مفهومة في كل العالم العربي. في اغانينا انتهجنا الخط نفسه. وكانت مصر سباقة الى نشر لغتها العامية في العالم العربي، لأن الاعتقاد السائد كان ان اللغة الفصحى لا تصل الى الناس. جئنا نحن فأثبتنا العكس وكتبنا كمية كبيرة من القصائد الفصحى التي بلغت اطراف العالم العربي وما زالت في الناس حتى اليوم "سنرجع يوماً"، "زهرة المدائن"، "لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب"، "أنا يا عصفورة الشجن مثل عينيك بلا وطن"، "كتبت اليك من عتبي". ووضعنا الحاناً لقصائد من سعيد عقل والاخطل الصغير ونزار قباني وبدوي الجبل وبولس سلامة ورفيق خوري وعنترة وجرير وعمر بن ابي ربيعة وجميعها انتشرت. كل هذا لم يأت صدفة. اشتغلناه بكل وعي ومعرفة حتى جعلنا له هذه الخصائص. كنا واعيين تماماً، عاصي وأنا، اين نحن والى اين يجب ان نصل. كانت خطواتنا جميعها واعية ومقصودة. نغني للأوطان والشعوب لا للأشخاص منذ البدء عرفنا ان صوت فيروز مميز. لذا اخذنا جماله الطبيعي الخارق وتفردها وحضورها المذهل، واشتغلنا بطريقة تجعل صوتها مختلفاً عن اصوات الآخرين. صوت فيروز ليس صوتاً وحسب. انه ظاهرة متكاملة لا تتكرر. فأنت تستمع مع صوت فيروز الى كلام ولحن جميلين، الى اداء لديها تبلور مع الأيام، والى لفظ انصقل جيداً بمخارج الحروف. فيروز في مطالعها لم تبدأ وحدها. بدأت مع عاصي ومنصور وصبري الشريف في ليالي التعب والتمارين والصقل، بدأنا مؤمنين بالخط الذي كنا نشتغل فيه: اطلاقة الصوت المميز، وكتابة الشعر المميز واللحن المغاير، بمبادئ ثابتة: لا نغني الاشخاص بل الأوطان والشعوب. ونادراً ما تنبه الناس الى هيئة الاركان التي كانت تخطط خلف صوت فيروز كي لا يظل صوتاً وحسب. تأثروا بصوتها فكان فاعلاً فيهم وموجهاً لهم. هكذا، بجمال صوتها الخارق والمواضيع التي اخذ يحملها هذا الصوت، صارت فيروز قضية وطنية عامة تغني هموم الانسان. ان الاختبارات التي خضع لها صوت فيروز كانت فعلاً اعجوبية ولا يمكن ان تحتملها فنانة غير فيروز. فهي تنقلت من صعوبة الى اخرى: غنت القطع الكلاسيكية، غنت القطع الشعبية، غنت الموشحات والمواويل، غنت اغاني الاطفال، غنت القطع المترجمة وهذه كانت اكبر اختبار: كنا نأتي بقطع صعبة جداً ايطالية او اسبانية او فرنسية فتغنيها جميعها ببراعة فائقة. لم يبق نوع من الاغاني شرقي او غربي، لم يبق نوع من الموشحات او القصائد، وكثيرها غاية في الصعوبة، الا غناه صوتها الفريد بعد غنى التجارب التي مر بها. نحن استفدنا خبرة مع الاوركسترا وفيروز استفادت خبرة صوتية. اوركسترات بكاملها كانت تأتي لخدمة صوتها. اعمال كاملة على ايام "اذاعة الشرق الادنى" نسجلها فلا تعجبنا، كنا نلغيها ونعيد تسجيلها من جديد. ولصبري الشريف هنا فضل كبير. هذا هو المشروع الثقافي الضخم الذي جئنا به، فجاء الغناء الرحباني مغايراً لكل ما كان موجوداً في الشرق حتى في اوروبا قطعنا مختلفة عن المألوف الموجود. وهكذا، قد تسمع اليوم صوتاً تستغرق بعض دقيقة لتعرفه. بينما حين تسمع فيروز تقول فوراً: هذه فيروز، وتسمع اللحن الرحباني فتقول: هذا لحن رحباني. لهذا قلت ان فيروز، اضافة الى جمال صوتها وموهبتها الخارقة، ظاهرة لا تتكرر: صوتها مميز، اطلاقة صوتها مميزة، الكلام الذي حملته جاء جديداً وتأثر به الشعراء في العالم العربي سواء بالشكل او بالمفردات، الألحان مميزة، التوزيع الموسيقي مميز توزيع ربع الصوت مثلاً... كل ما جاء في هذا الصوت من خوارق، وما خلف هذا الصوت من تجارب وصقل، جعل منه رمزاً من رموز هذا العصر تأثر به الناس، حتى الشعراء كتبوا له وانفعلوا به لأنه لم يكن مجرد صوت وحسب. ومن الأساس جئنا جدداً. بدأنا جدداً. واليوم يقال اننا بتنا "مدرسة". لكننا نحن لم نأت بمناهج وقواعد. بل كتبنا هكذا لأننا هكذا شعرنا. ويقال اليوم اننا اسسنا لوطن. لكننا لم نأت بدستور وقوانين. كل ما كان ان الناس وجدوا في اعمالنا جذوراً لوطن منشود. نحن اوجدنا بالفطرة عالماً نسجناه من محبة الناس حولنا. كنا محاطين في مطالعنا بكبار مبدعين، وفي طريقنا التقينا كباراً مبدعين، وحين سنترك القلم والريشة والوتر سيبقى حول آثارنا كبار مبدعون. الأسبوع المقبل : كبار في حياتنا