أغلب الظن أن سلاما شاملاً سوف يتحقق، إن آجلا أو عاجلاً بيننا وبين الاسرائيليين. بل أن الخطوات الاولى والأهم في هذا السلام قد تحققت بالفعل في معاهدة "كامب دايفيد" بين اسرائيل ومصر، واتفاق أوسلو الأخير بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. واذا كانت خطوات السلام الاولى اثارت عاصفة من الاعتراضات والمخاوف، فمشروع السلام الشامل يثير شعوراً كاسحاً باليأس والمرارة، لأنه يهدد أصل القضية ويخرج منها أصحابها الاصليين وهم الفلسطينيون، ولا يقتصر على اخراج الاطراف التي كانت تتبناها كما حدث بعد توقيع معاهدة السلام المصرية - الاسرائيلية. غير أن شعورنا باليأس والمرارة، واعتراضاتنا على شروط السلام المجحفة تلك، ومخاوفنا من نتائجه لا على فلسطين وحدها بل على الوطن العربي كله، لن توقف المساعي التي تتم الآن للوصول اليه. ذلك أن هذا السلام حلقة أساسية في خطة عالمية وفي ترتيب أشمل لأوضاع الكرة الارضية ككل. فهو يأتي بعد انهيار المعسكر الشرقي، وحرب الخليج، وانتقال العمالقة من الصراعات الايديولوجية الى الصراعات الاقتصادية، وفتور العمل القومي العربي وتراجعه الاستراتيجي، ووصول الصراع العربي - الاسرائيلي الى حالة من الاستقرار فقد فيها العرب حلم الاسترداد، واكتفى فيها الاسرائيليون بالمكاسب الكثيرة التي حققوها حتى الآن. فهؤلاء باتوا يواجهون أخطاراً أخرى لا تهددهم وحدهم، بل تهدد الاستقرار العربي ذاته وتنذر باغراق المنطقة كلها في سيل من حركات العنف والارهاب. اللحظة الراهنة اذاً، ناضجة لتوقيع اتفاقيات السلام الشامل بشروطه المطروحة الآن، لأن هذه الشروط حصيلة لتلك الاوضاع والتطورات ولعمليات اختبار القوى التي لن تتغير موازينها في المدى القريب. والسؤال المطروح الآن بالحاح على قطاعات واسعة من المثقفين وقادة الرأي وحتى رجال الاعمال ممن كانوا يقفون في صفوف المقاطعة ويرفضون التطبيع مع اسرائيل هو: هل سيكون التطبيع الشامل نتيجة حتمية لاقرار السلام الشامل؟ وهل سيضطر الكتّاب والشعراء والعلماء الفنانون والسياسيون والجامعيون والاقتصاديون والمهنيون العرب... أن يلتحقوا بمسيرة السلام الذي اختارته دولهم ويشاركوا في التطبيع؟ أم أن بوسعهم التصرف بشكل مستقل، متجاوزين تبادل الاعترافات، وفتح الحدود واقامة المشاريع المشتركة؟ والى أي مدى بوسع هؤلاء أن يواصلوا مقاطعتهم لاسرائيل، ويرفضوا التطبيع معها، انطلاقاً من ايمانهم الذي لا يداخله الشك ببطلان وجودها، وبأن المستقبل كفيل بتعديل ميزان القوى لصالحنا نحن االعرب، وبحجة أن التطبيع يزيدها قوة ويزيدنا ضعفاً؟ وهل هم مصيبون في نظرتهم، محقون في مواقفهم، المناقضة لما يراه فريق آخر من العرب من أن السلام يحد من عدوانية الاسرائيليين، ومن أن التطبيع يساعد العرب على سرقة نار التقدم من أعدائهم؟ فعندئذ يقوم، حسب أصحاب هذا الطرح، وضع جديد أقرب الى العدل، لن ينتهي طبعاً بإلقاء الاسرائيليين في البحر، وانما يمكن أن يمهد لظهور قوى متوازنة، وأن يؤدي الى مساواة في الحقوق، لا تكون فيها اليد العليا للاسرائيليين الذين سيتحولون الى مجرد أقلية قومية، تندمج في المحيط العربي الواسع. أعتقد شخصياً - رغم تفهمي لدواعي الاتفاق مع اسرائيل والرضا بالقليل الذي تقدمه - أن مواصلة المقاطعة هي الموقف الصحيح المنطقي الذي ينسجم مع ايماننا بأن فلسطين كلها أرض عربية، وأنها جزء لا يتجزأ من وطن واحد وان استوطنتها جماعات من الاجانب الغزاة أو المهاجرين. كما أعتقد أن المقاطعة ممكنة، رغم ما سوف يواجهه الداعون اليها من مقاطعة مضادة. فلسنا أول أمة يمنعها ضعفها من استرداد كل حقوقها بالحرب أو بالتفاوض، فتضطر الى قبول سلام ظالم، حتى تحين لها فرصة تعديل الميزان. ألم يضطر الفرنسيون الى التنازل عن جزء من وطنهم للالمان، بعد الهزيمة التي ألحقها بهم هؤلاء عام 1870، وكانت نتيجتها ضم الالزاس واللورين الى بروسيا؟ لكن الفرنسيين ظلوا يتحينون الفرص حتى استردوا ما فقدوه بعد هزيمة الالمان في الحرب العالمية الاولى... ولسنا بحاجة للتذكير، بما حدث في فلسطين نفسها بيننا وبين الصليبيين في العصور الوسطى. أو بما حدث في الاندلس - مع اختلاف المواقع - بيننا وبين الاسبان الذين استردوا بلادهم كلها بعد استعمار عربي دام ثمانية قرون. أو بما حدث في الجزائر بيننا وبين الفرنسيين. أو بما يحدث الآن بالذات في جنوب أفريقيا بين أهل البلاد والمستعمرين الاوروبيين... وربما كان هذا المثل الأخير أقرب الينا من أي مثل آخر. فالوضع في جنوب افريقيا يكاد يطابق الوضع في فلسطين، وميزان القوى بين الأفارقة والأوروبيين يشبه ما هو قائم بيننا وبين الاسرائيليين. وربما كان وضعنا أفضل الى حد ما. ومع ذلك فقد انتهى الصراع في جنوب افريقيا، بتنازل البيض عن امتيازاتهم وعن النظام العنصري كلّه، مما سيحوّلهم الى أقلية، لا تستطيع أن تستبد وحدها بشؤون البلاد. قرأت أن اسحق رابين رئيس وزراء اسرائيل قال للسياسي المصري الدكتور مصطفى خليل، نائب رئيس الحزب الوطني الديموقراطي للشؤون الخارجية، إنه قرر الاتفاق مع الفلسطينيين، لأنه لا يجوز أن تظهر بلاده أمام العالم بمظهر العنصريين البيض في جنوب افريقيا. وبامكاننا القول إن مَثَل جنوب افريقيا، كان حاضراً بالفعل في تفكير رابين وحكومته. والخطر الذي تراءى للادارة الاسرائيلية هنا، ليس هو التورط في السياسة العنصرية، فهي متورطة فيها منذ استعمار فلسطين وطرد شعبها، انما هو من ألا يكون مصير الاسرائيليين في فلسطين أفضل من مصير البيض في جنوب افريقيا. فاذا كان الوضع الدولي غير مؤات كي نستعيد ما استعاده الأفارقة من حقوق، فأمامنا على الاقل سلاح الحرب الباردة في هذا السلام الظالم المفروض علينا، وأمامنا النضال السلبي الذي اتبعه الهنود مع البريطانيين. غير أن المقاطعة العربية المطلوبة لا يجب أن تكون مجرد صمت أو تجاهل أو بقاء خارج دائرة الاتصال. فالحرب المطلوبة، طويلة النفس لها أسلحتها وأساليبها ومراحلها وأهدافها القريبة والبعيدة. إنها قبل كل شيء حرب نفسية، معنوية، يشنها الرجال والنساء الذين يريدون أن ينقذوا فلسطين كفكرة، بعد أن فقدوها أو فقدها حكامهم وفقدها جيوشهم في الواقع الملموس. وما دامت كذلك، فهي حرب أخلاقية في الدرجة الاولى، لا تتجاهل الحقائق، ولا تقع في فخ خداع الذات، كما أنها لا تنسجم مع نزعة كراهية الآخرين. لا بد لأصحاب هذا الخيار الأخلاقي أن يعوا كل الايجابيات والسلبيات أكانت من الجانب الآخر أم من جانبنا. لا بد لنا من فهم منطق الاسرائيليين، متنبهين الى حقيقة أساسية هي أن مجتمعهم متعدد التيارات والقوى: فيه من يفهم منطقنا، وفيه أيضاً من يشعر بالذنب، وفيه من يتكلم عن حقين اثنين في بلد واحد... كما أن معركتنا ليست مع الاسرائيليين كأفراد أو حتى كجماعة. بل إنها مواجهة مع كيان استعماري عنصري، ينتمي في الحقيقة الى قوى استعمارية أكبر، ويفرض نفسه على بلادنا بالقهر والقوة. بهذا المعنى تكون هذه المعركة معركة كل مثقف شريف ولو كان اسرائيلياً. كل من يرفع صوته ليقول إن هذا الوضع ظالم، وإن هذا السلام غير عادل هو معنا. لكن هذا لا ينبغي أن يُترك للاجتهادات الفردية. ونحن لا نستطيع أن نخوض معركة المقاطعة أفراداً معزولين. وانما يجب على المثقفين العرب أن يجدوا طريقهم للقاء والحوار مع أنفسهم ومع المثقفين الاجانب. وليكن شعارنا أن نسترد ايماننا بفكرة فلسطين. * شاعر مصري