عندما سمعت للمرة الاولى عن امكان التوصل الى اتفاق اسرائيلي - فلسطيني على "غزة - أريحا" تعجبت وتساءلت ترى ما هو الهدف من مثل هذا الاتفاق المحدود؟ وقلت لنفسي ان الحالة الوحيدة التي يمكن فيها مثل هذا الاتفاق ان يكون منطقياً هي اذا كان جزاءاً من اتفاق اوسع يشمل الضفة الغربية بأكملها اضافة الى غزة. وحين نشر نص الاتفاق الذي وقع عليه في واشنطن لاحقاً، سرعان ما اتضح ان ما توصل اليه الطرفان يتجاوز كثيراً مجرد الاتفاق على غزة وأريحا. والواقع ان النص يكشف بالضبط ذلك النمط من الاتفاق الموقت الذي ظل مصب الاهتمام منذ ان بدأت محادثات مدريد. وعلى منتقدي الاتفاق ان يتذكروا ان الفلسطينيين شرعوا في تشرين الثاني نوفمبر عام 1991 في التفاوض مع اسرائيل وهم يدركون ان المرحلة الاولى من المفاوضات ستعالج "الحكم الذاتي" للفلسطنيين في الاراضي المحتلة لفترة محدودة. وفي مرحلة لاحقة يمكن البحث في قضايا الحدود النهائية والمستوطنات والقدس ومسألة الدولة. وقد لا يروق هذا الاطار لبعضهم لكنه الاطارالذي قبلوه. ان الاتفاق الذي توصل اليه الطرفان هو في الحقيقة افضل كثيراً مما كانت اتوقع. اذ ان اسرائيل وافقت للمرة الاولى على سحب القوات فعلاً وليس مجرد إعادة انتشارها خلال الفترة الانتقالية. وهنا تكمن اهمية التنفيذ المبكر مجرد اعادة انتشارها خلال الفترة الانتقالية. وهنا تكمن اهمية التنفيذ المبكر للاتفاق الخاص بغزة - أريحا. اضافة الى ذلك قبلت اسرائيل بفكرة عودة بعض الفلسطينيين، بما فيهم قادة منظمة التحرير، الى الضفة الغربية وقطاع غزة اثناء الفترة الانتقالية. كما يدعو الاتفاق الى اجراء انتخابات حرة تحت مراقبة دولية. وستكون للحكومة الذاتية سلطة على جميع المجالات باستثناء تلك القضايا التي ستناقش في مفاوضات الوضع النهائي، اي القدس والمستوطنات والامن. ولكن اذا نظرنا الى الاتفاق نظرة موضوعية على انه تفسير صحيح لامكانات فكرة الحكم الذاتي لفترة محدودة، فلماذا توجد هناك معارضة كبيرة بين الفلسطينيين وبعض العرب له؟ ان بعض العرب يحتج بالطبع على اي اتفاق مع اسرائيل ايا كان فهؤلاء لا يعتقدون بأنه يجب اعطاء اسرائيل الشرعية الدولية التي ستنجم عن احلال السلام الشامل مع الفلسطينيين والدول العربية. ومن الواضح ان هذا هو رأي اتباع حركة "حماس" وبعض اليساريين. ولهذا لا يمكن تقليص معارضتهم مهما ادخلنا من تحسينات على النص الحالي. فهم سيعارضون حتى الاتفاق الذي توافق بموجبه اسرائيل على الانسحاب من كل شبر في الضفة الغربيةوغزةوالقدسالشرقية وتسمح بقيام دولة فلسطينية كاملة السيادة. ومنطقهم هو ان استمرار الاحتلال الاسرائيلي افضل من اي اتفاق من خلال المفاوضات بغض النظر عن شروط مثل هذا الاتفاق. واذا كان لديهم اي حل لمشكلة الاحتلال فانهم لم يكشفوه باستثناء التلميح الى ان الكفاح المسلح ربما كان الطريق لطرد الاسرائيليين. وكما هي الحالة فإن المتطرفين اكثر بلاغة وفصاحة في معارضتهم مما هم في شرح ماذا سيفعلون لو انهم تولوا المسوولية فعلاً. اذن ماذا عن خصوم الاتفاق الذين يقولون انه يجب ان يحصل الفلسطينيون على شروط افضل، وان الاتفاق الحالي محفوف بكثير من المخاطر؟ على رغم كل الانتقادات لأسلوب عرفات في القيادة فانني اعتقد بأنه حتى الذين ينتقدونه يعترفون بأن مفاوضي المنظمة لا بد انهم حاولوا جاهدين الحصول على المزيد من التنازلات من اسرائيل. ولا بد انهم طلبوا منها التزام الانسحاب الكامل وتجميد المستوطنات والانسحاب منها في نهاية المطاف، ودورا فلسطينياً في القدسالشرقية واعترافاً بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وحقه في العودة. فهل هناك من يشك للحظة في ان منظمة التحريد لم تحاول الحصول على الموافقة الاسرائيلية على هذه الامور؟ ولكن هل تعرفون ما حدث؟ ما حدث هو انهم لم يستطيعوا بعد سبعة اشهر من المفاوضات اقناع رابين وبيريز بالموافقة. إذن ماذا يفعلون؟ اما ان ينهوا المفاوضات بدافع الاحباط ويقبلوا بالتالي استمرار الاحتلال الى ما لا نهاية وعدم امكان ايجاد تسوية سياسية للصراع، وإما ان يحاولوا تأمين افضل شروط ممكنة من دون التخلي عن مواقفهم الاساسية. ويبدو ان هذا الخيار الاخير هو الذي قرر عرفات وزملاؤه اختياره. وفي اعتقادي انهم اتخذوا القرار السليم. ويترتب على المنتقدين الذين يريدون رؤية اتفاق افضل نوع من الالتزام ليشرحوا كيف يأملون بانتزاع شروط افضل من الحكومة الاسرائيلية الحالية. دعونا نتناول الامكانات المحتملة: لعل بعضهم يعتقد بأن في وسع الولاياتالمتحدة ان تضغط على اسرائيل لتقديم مزيد من التنازلات. الا ان ادارة كلينتون لم تعط اي تلميح على الاطلاق الى انها مستعدة للقيام بهذا الدور. وربما كان بعض القوميين العرب الشاعريين يقول ان التضامن العربي سيقنع اسرائيل بتقديم المزيد من التنازلات. ولكن هل هناك من يؤمن فعلاً بأنه يمكن تعبئة مثل هذا التضامن الفعال بطريقة تجبر اسرائيل على تقديم المزيد من التنازلات على طاولة المفاوضات؟ ان مثل هذا الاعتقاد هو اسوأ شكل من اشكال التهرب. كما انه ليس هناك من يعتقد فعلاً بأن الاوروبيين الذين لا يستطيعون الاتفاق في ما بينهم على فعل اي شيء في البوسنة سيهبون لنجدة الفلسطينيين. وهكذا فان الفلسطينيين يصبحون وحدهم وعليهم ان يحاولوا التوصل الى افضل اتفاق ممكن. صحيح انهم الطرف الضعيف. فواقع القوة يبين انهم لا يستطيعون فرض ارادتهم على عدوهم. ولذا ينبغي عليهم ان يعملوا ضمن اطر محدودة وضيقة لتحقيق ما هو ممكن. ومع ذلك فلننظر الى ما انجزوه: ان الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة كما عرفناه طوال ست وعشرين سنة اصبح على وشك الانتهاء. وخلال فترة أربعة اشهر سيكون هناك حوالي مليون فلسطيني ممن يعيشون تحت سلطتهم الخاصة ولهم شرطتهم الخاصة وسيحصلون على اموال سخية لمشاريع التنمية. فهل هناك احد بين المنتقدين في وسعه ان يعطي اي شيء مماثل لهذه النتائج؟ اضافة الى ذلك استطاعت منظمة التحرير اجبار اسرائيل على الاعتراف، ولو بالامر الواقع، بأنها هي التي تمثل الشعب الفلسطيني. وفي هذا ما يفتح الباب امام الاسرائيليين ليقبلوا بالسبب الاساسي لوجود المنظمة الا وهو الحقوق الوطنية الفلسطينية بما في ذلك حق اقامة دولة على جزء من الوطن التاريخي الفلسطيني. فلم يعد من الامور الشاقة على الاسرائيليين ان يتخيلوا ظهور نوع من الدولة الفلسطينية من خلال هذه العملية. صحيح ان مثل هذه النتيجة ليس مضموناً لكنه اقرب منالاً الآن مما كان في اي وقت مضى. انني لا أريد ان ابدو مفرطاً في التفاؤل. اذ لا يزال من الممكن انهيار الاتفاق، او وصول المفاوضات الى طريق مسدود، او عدم وصول الدول العربية الاخرى الى اتفاقات مماثلة. الا ان بعض ذلك يعتمد على القيادة السياسية وعلى نوع التأييد الدولي الذي سيحظى به الاتفاق الدولي. واعتقد بأننا نرى الآن انجازاً حقيقياً مهماً وصادقاً على طريق السلام ليس سلاماً مثالياً يرضي الجميع، وانما مجموعة عملية من الترتيبات التي ستحسن الى درجة هائلة حياة الكثيرين من العرب والاسرائيليين. ومن يدري؟ فلربما كان المستقبل المتوقع للقرن المقبل مستقبلاً من السلام والتنمية والديموقراطية بدلاً من النمط المألوف من الحروب والفقر والاستبداد. وسيكون هذا تغييراً هائلاً ربما تحقق من خلال التطورات التاريخية التي نشهدها اليوم. انني أحض جميع اولئك الذين يعارضون الاتفاق الآن على ان يفكروا من جديد وان يتغلبوا على عدم رضاهم عن الاسلوب الذي تم التوصل به الى الاتفاق، وان يفكروا بواقعية في البدائل، وان ينضموا بعدئذ الى الركب من اجل العمل معاً في سبيل تحقيق سلام عربي - اسرائيلي دائم. مستشار الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر وخبير في شؤون الشرق الأوسط.