ثورة اكتوبر سنة 1917 في روسيا كانت بيضاء تقريباً. وانبأت طلقة من الطراد "آفرورا" على القصر الشتوي في بطرسبورغ بحلول عصر الشيوعية، لكن الطلقة كانت، كما تبين، خلبية لم تترك أثراً إلا أنها هزت الزجاج في القاعة التي تشغلها الحكومة الموقتة. وفي اكتوبر سنة 1993 نشبت في وسط موسكو معركة دامية، وأطلقت دبابات القوات الحكومية قذائفها على مبنى البرلمان وأشعلت فيه النار وحولت واجهته المرمرية البيضاء ملاءة سوداء. بدأت عملية الاستيلاء على البرلمان الروسي فجر يوم الاثنين الرابع من تشرين الأول اكتوبر الجاري، وسقط عشرات القتلى ومئات الجرحى في العاصمة الروسية التي لم تشهد اراقة دماء بمثل هذا الحجم منذ أن أسسها الأمير يوري دولفوروكي سنة 1147. بلغت المواجهة التي بدأت في نهاية السنة الماضية بين الرئيس بوريس يلتسن والسلطة التشريعية نقطة الحرج في الصيف الفائت. وعندما أدرك الرئيس ان بقاء الازدواجية الفعلية للسلطة تهدد بالفوضى وبانهيار الاقتصاد وربما بحرب أهلية، حذر صراحة المعارضة المحافظة من أنه سيتخذ في أيلول سبتمبر خطوات حازمة للتغلب على الأزمة السياسية المستفحلة واستعجال الاصلاح الاقتصادي. وجاءت الخطوة الأولى في 21 ايلول عندما أصدر الرئيس مرسوماً بحل البرلمان ومؤتمر نواب الشعب واجراء انتخابات لهيئة جديدة للسلطة التشريعية أطلق عليها اسم الجمعية الفيديرالية. لكن البرلمان اعتبر ان مرسوم الرئيس غير شرعي والتأم مؤتمر نواب الشعب في جلسة عاجلة قرر فيها تنحية يلتسن وتعيين نائبه الكسندر روتسكوي قائماً بأعمال الرئاسة. وعلى رغم ان أكثرية سكان روسيا نظرت الى قرار المؤتمر نظرتها الى مهزلة، لم يتوقف النواب عند هذا الحد وسارعوا الى تعيين حكومة موازية واعطاء حقائب وزارات الدفاع والداخلية والأمن لأحد اعداء يلتسن الذي قرر عدم تفريق النواب بالقوة واكتفى بقطع قنوات الاتصال الحكومي بدار البرلمان وتطويقها بقوات من الشرطة، على أمل ان تهدأ فورة النواب لانعدام التأييد الشعبي لهم... ولكن بدأت ترد من بعض الكيانات القومية ذات الحكم الذاتي والمحافظات أنباء عن رفض الاعتراف بدستورية مرسوم الرئيس. وبدأ البرلمان المحاصر يأخذ "نفساً جديداً" وتحول مبناه الى مقر لقيادة كل القوى المعادية للحكومة. وفي آخر أيلول امتلأت موسكو بالشائعات عن حل الأزمة بالقوة. وحذرت مصادر مطلعة من أن فصائل من المسلحين تفد الى العاصمة من ابخازيا وناغورنو قره باخ وان المعارضة تستعد للاستيلاء على السلطة بالعنف. وبذلت ادارة يلتسن جهدها لتحاشي اراقة الدماء وأجرت محادثات مع ممثلي المعارضة في البرلمان، وأوعزت الى قوى الأمن بعدم استخدام السلاح ضد المتظاهرين. ولهذا حاول نحو ألف من انصار المعارضة يوم الأحد في 3 تشرين الأول اكتوبر ان تفك الحصار. وبعد الظهر، خرج الجنرال روتسكوي الى شرفة البرلمان ودعا المتظاهرين الى التحول الى العمل والتحرك للهجوم على مبنى بلدية موسكو والتلفزيون الوطني. واستسلم مبنى البلدية تنفيذاً لأوامر يلتسن بعدم استخدام القوة ونشبت أمام مبنى التلفزيون معركة عنيفة مساء 3 تشرين الأول فقتل عشرون وأصيب عشرات بجروح... فدعا الرئيس الى اجتماع عاجل لوزراء الدفاع والداخلية والأمن انتهى الى خلاصة مفادها ان كل فرص الحوار والتفاهم استنفدت. الهجوم على البرلمان وفي ليل 3 - 4 تشرين الأول كان القتال لا يزال دائراً أمام مبنى التلفزيون والجموع أمام البرلمان تحتفل بالنصر، فارسل وزير الدفاع بافيل غراتشوف طوابير دبابات من أربعة اتجاهات الى موسكو وفجر الرابع من الجاري صدرت اشارة الهجوم من طلقة دبابة على الواجهة البيضاء لدار البرلمان. واستمرالهجوم حتى الساعة الثالثة بعد الظهر، عندما خرج بعض المعتصمين في المبنى رافعاً الأيدي. ودارت المعارك الأساسية والأكثر دموية في داخل المبنى. وقال شهود عيان ان مجزرة وقعت في الداخل. وبعد الظهر قضي تماما على المقاومة، وغادر المبنى زعيما المعارضة الجنرال روتسكوي ورئيس البرلمان روسلان حسبولاتوف اللذان استسلما ونقلا الى السجن. مساء ذلك اليوم، بات واضحاً ان الرئيس يلتسن انتصر. وأغمض رؤساء الدول الغربية أعينهم عن فظاعة المأساة وأعلنوا بصوت واحد تأييدهم الرئيس، وحملوا مسؤولية اراقة الدماء للمعارضين الذين وصفتهم وسائل الاعلام الغربية بأنهم "متمردون". لكن هؤلاء كانوا يعتبرون أنفسهم "السلطة الشرعية الوحيدة" وكانوا واثقين من أنهم يعملون دفاعاً عن الدستور والنظام! وكانت نقطة الضعف في سلسلة أعمال يلتسن، بلا جدال ان مرسومه بحل البرلمان لم يكن فقط مخالفة صريحة للدستور الذي لا يعطيه مثل هذه الصلاحيات بل ينص على أنه في حالة حل هيئات سلطة الدولة يكف تلقائيا عن ممارسة سلطاته رئيساً للبلاد. عبء المسؤولية وهكذا نتيجة مرسوم يلتسن في 21 ايلول نشأت في روسيا حالة فريدة من ازدواجية السلطة. وكان الرئيس يعتبر إرادة الشعب الذي منحه الثقة في استفتاء نيسان ابريل الماضي هي مصدر شرعيته، في حين ان روتسكوي الذي عينه مؤتمر نواب الشعب رئيساً للبلاد كان واثقاً بأن شرعيته تنبع من الدستور نفسه. وهكذا بدا الوضع القانوني المتناقض لا يعطي مبرراً لاعتبار روتسكوي وحسبولاتوف "متمردين"، بل سيجعل من الصعب في المستقبل محاكمتهما لأن كل تهمة سيرد عليها بأنهما تصرفا في اطار الدستور والقانون. لا شك في أن قمع المعارضة بالقوة هو انتصار ليلتسن الذي استطاع انهاء ازدواجية السلطة. لكن هذا الانتصار طرح في الوقت نفسه مسائل حادة يتوقف على حلها ليس فقط مصير الرئيس يلتسن كسياسي، بل ايضاً مستقبل روسيا السياسي: الى أي مدى ستصل المقاومة ليلتسن في الاقاليم خصوصاً المناطق التي اعتبر فيها مرسومه منافياً للدستور؟ ألن يكون تصاعد النزعة الانفصالية في المناطق بداية لتمزق شامل لروسيا؟ الى أي مدى ستكون الانتخابات المقبلة ديموقراطية ما دامت المعارضة قمعت بالقوة مع منظماتها ومطبوعاتها، ان كل ما بقي من الصحف صار تحت رقابة صارمة؟ وأخيراً، كان البرلمان المحافظ "كبش فداء" للحكومة ويعتبر المسؤول عن تعثر الاصلاح وتردي مستوى المعيشة. واليوم - والمستقبل لا يحمل في طياته تباشير تغيرات سريعة نحو الأفضل - سيضطر يلتسن الى تحمل المسؤولية الكاملة عن الاضطرابات الاقتصادية التي تثير الاستياء في صفوف المواطنين... أليس هذا العبء ثقيلاً ليتحمله فرد واحد؟