هل تهاجم إسرائيل إيران 7 أكتوبر؟    الأهلي يُخطط للجمع بين صلاح وفان دايك    "سبورت السعودية" تقدم واجب العزاء لأسرة الأستاذ "عبدالله فرج الصقر"    اليوم العالمي للمعلم.. احتفاء بإنجازات المعلمين وتعزيز لأهمية التعليم    ضبط 22,094 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود في مناطق المملكة خلال أسبوع    زيلينسكي: سأطرح "خطة النصر" في اجتماع الحلفاء في ألمانيا    الإدارة العامة للمرور تشارك في معرض الصقور والصيد السعودي الدولي 2024    جمعيتي "طويق" و"العمل التطوعي" تحتفلان باليوم الوطني بعشرة أركان تفاعلية    ثاني أكبر روافد نهر الأمازون بالبرازيل يسجل أدنى منسوب للمياه بسبب الجفاف    "سلمان للإغاثة" يدشّن مشروع توزيع المساعدات الغذائية للأسر الأكثر احتياجًا في جمهورية قرغيزستان    يزيد الراجحي يعود إلى رالي المغرب مع طموحات الحفاظ على اللقب    اليوم عرسك    "المركزي الروسي" يرفع سعر الروبل مقابل العملات الرئيسية    رياح مثيرة للأتربة والغبار على الشرقية والرياض والمدينة    إتاحة تخصيص عقارات الدولة لأكثر من جهة حكومية    السجن مدى الحياة ل«مغتصب التلميذات» في جنوب أفريقيا    6 توصيات لتعزيز الهوية الثقافية ودعم الاستثمار في تعليم اللغة العربية محلياً و دولياً    إسرائيل تقصف الضاحية.. مصير خليفة نصر الله غامض    هل أوقف الاتحاد الدولي المُلاكمة الجزائرية إيمان خليف وجردها من ألقابها ؟    الفتح يختتم تحضيراته لمواجهة التعاون    في مباراة الفريق أمام الرياض .. القادسية يحتفي بوزير الإعلام "الدوسري"    عبدالعزيز بن سلمان يشارك في اجتماعات مجموعة العمل الخاصة بالتحولات في مجال الطاقة    الجيش الأميركي يعلن قصف 15 هدفا للحوثيين في اليمن    الهيئة السعودية للسياحة تطلق تقويم فعاليات «شتاء السعودية»    محافظ الطائف يعزي أسرة الحميدي في فقيدهم    مسؤولون وأعيان يواسون أسرتي القاضي وآغا في فقيدتهم    الخليج يعبر الخلود بهدف في دوري روشن السعودي للمحترفين    ميندي يوجه رسالة لجماهير الأهلي    جمعية الأدب تعتمد 80 سفيراً في 30 مدينة    لوحة «ص ق ر 2024» لمركبة «المرور» تلفت أنظار زوار «الداخلية» في معرض الصقور والصيد    رصد طائر «سمنة الصخور الزرقاء» في الحدود الشمالية    القبض على (4) يمنيين في جازان لتهريبهم (120) كجم "قات"    الوطنية للإسكان NHC تكشف مزايا ومكونات حديقة خزام الكبرى شمال الرياض    انطلاق حملة الحي يحييك للاحياء السكنية بالمنطقة الشرقية    ب 3 مناطق.. مركز «911» يتلقى 98 ألف مكالمة خلال 24 ساعة    تجمع الرياض الصحي الأول يكرم 14 استشارياً    إمام المسجد النبوي: آية ((إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )) تحمل في طياتها معاني عميقة    وفاة 866 شخصًا بمرض جدري القردة في أفريقيا    "الصحة العالمية"تستعدّ للقيام بالجولة الثانية لتلقيح أطفال غزة ضدّ شلل الأطفال    أثر الشخصية واللغة والأمكنة في رواية «الصريم» لأحمد السماري    أحلام على قارعة الطريق!    الشاهي للنساء!    محافظ الطائف يلتقي مدير جمعية الثقافة والفنون    الأمير سعود بن نهار يعزي أسرة الحميدي    90 مبادرة لأمانة الطائف تعزز الوعي البيئي وتدعم الاستدامة الخضراء    اختتام مشاركة الهلال الأحمر في المعرض التفاعلي الأول للتصلب    مدير تعليم الطائف يطلق مبادرة غراس لتعزيز السلوك الصحي    أمانة الطائف توقع عقد إنشاء مشروع (قبة الفراشات) بمساحة ٣٣ ألف م٢    كتب الأندية الأدبية تفتقر إلى الرواج لضعف التسويق    2238 مصابا بالناعور في 2023    تعيين عدد من الأئمة في الحرمين الشريفين    أول فريق نسائي من مفتشي البيئة في المملكة يتمم الدورية رقم 5 آلاف في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    بدء الاجتماع الطارئ لمجلس الجامعة على مستوى المندوبين لبحث التحرك العربي للتضامن مع لبنان    نيابة عن ولي العهد.. وزير الخارجية يشارك في القمة الثالثة لحوار التعاون الآسيوي    خادم الحرمين يهنئ رئيس غينيا بذكرى الاستقلال ويعزي رئيس نيبال في ضحايا الفيضانات    تثمين المواقع    وزير الداخلية يعزي ذوي شهيد الواجب أكرم الجهني    مفتي عام المملكة يستقبل مفوّض الإفتاء بمنطقة جازان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خلدها الشعراء بقصائد تحفظها كتب التراث وذاكرة الاهالي . جبال "القارة" السعودية تسكنها الأساطير وفي مغاراتها تنام قصص ماضٍ جميل تحقيق من منطقة "الاحساء" السعودية
نشر في الحياة يوم 04 - 01 - 1993

تقع جبال "القارة" بالقرب من مدينة الاحساء على بعد 350 كيلومتراً شرق العاصمة السعودية الرياض، وقد اشتهرت على مر الزمن بجمالها الطبيعي وموقعها المميز وقدم مغاراتها، الأمر الذي جعلها هدفاً للزوار السعوديين او الاجانب الذين يسكنون المملكة، قبل ان تكون في ايام زمان ملجأ للأمن والطمأنينة. "الوسط" قامت بزيارة الى منطقة الاحساء وزارت جبالها المشهورة وعادت منها بالتحقيق المصور الآتي:
قبل ايام من رحلتي البرية الى الاحساء، كنت اعددت برنامجا حافلا يبدأ مع ساعات الصباح الاولى وينتهي عند المساء، لكي اعيش صباح الجبال وظهيرة الناس، لأغتني بيوم كنت اجلته كثيرا، منذ زرت الجبال قبل عشر سنين، اثناء امسية ثقافية اقامتها لي جمعية الثقافة والفنون بالاحساء. يومها، غصصت بالدهشة، فلم استطع الرد على كلام الشاعر الاحسائي الشاب احمد الملا والذي كان يقودني "شعريا" الى اسرار الجمال المكثف لتلك الجبال.
اختزنت منذ ذلك اليوم، هذا السحر الصخري ووجدته يتفجر في وأنا أقرأ اواخر تشرين الثاني نوفمبر الماضي رواية قديمة لشكري عياد اصدرها تحت عنوان "كهف الاخيار" ضمن سلسلة "مختارات فصول" 1985م. كانت احداث الرواية تدور حول رحلة الى جبال القارة: بعد مناقشات طويلة وبحث في معاجم اللغة وكتب التاريخ. كان الافتراض الذي بدا لنا معقولا جدا هو ان القارة - او هذه القارة بالذات - هي فعلا نوع من المدن المحصنة انشئت في عصر تميز بنشاط حربي غير معهود. فهذا هو المعنى المركزي في الاسطورة، الذي لا يمكننا التخلي عنه اذ اعتبرنا ان لهذه الصورة اصلا في الواقع التاريخي. اما ادوات الحرب - كهذه الدبابيب او المطي - فتفصيلات قد يكون من المشوق بحثها على اعتبار انها جزء من ذلك الاصل القديم، ولكن من الجائز ايضا ان تكون اضافات أدخلها الراجز المجهول، وكنا نسلم ضمنا بأنه لا بد ان يكون متأخراً عن عصر الاسطورة بزمان بعيد. بقي تخمين العصر الذي بني فيه هذا الاثر العجيب. رجح طارق اول الامر انه بني حوالي القرن السادس قبل الميلاد، عندما كانت جيوش الاشوريين تثير الذعر وتنشر الخراب في المنطقة كلها. ولكنه ما لبث ان جاء بفرض اكثر جرأة: ان ما نعرفه عن تاريخ البشرية جد قليل. لقد أصبح من شبه المؤكد الآن ان الانسان الهوماسابينس عاش على ظهر هذا الكوكب منذ قرابة خمسين الف سنة. هذا ما تدل عليه الحفريات. اما النقوش المكتوبة، فلا تصعد الى أكثر من سبعة آلاف سنة، ولذلك نسمي عشرات الالوف من السنين التي سبقت هذه الفترة عصور ما قبل التاريخ. لانها مجهولة لدينا جهلا تاما. ولكننا اذا نسقنا الحقائق الجيولوجية والمعلومات الاثنوغرافية المتوافرة لدينا الان، امكننا ان نصل الى نتيجة او افتراض ممكن على اقل تقدير: وهو ان هذه المنطقة من العالم شهدت حضارة مزدهرة اثناء العصر الجليدي الاخير، ولكن تغيرات كونية هائلة محت هذا التاريخ محوا يوشك ان يكون تاما ص 17 - 18.
أكان يقصد جبال "قارتنا"؟!
قرار الزيارة
تناولت الهاتف واتصلت بالشاعر الاحسائي الشاب ابراهيم الحسين، وكان اصدر قبل شهر مجموعة قصائد نثر ضمن سلسلة كتاب "كلمات" في البحرين تحت عنوان "خرجت من الارض الضيقة".
أيمكن ان تكون ارضكم ضيقة يا ابراهيم؟!
رتبنا برنامج الرحلة سوياً: اولا جبال القارة ويمكن لأي شيء آخر يكون ثانيا او ثالثا او رابعا.
متى ستصل؟!
- سأنطلق من الرياض في السابعة من مساء الاربعاء. ربما سأكون في الاحساء العاشرة مساء.
هل ستقيم عندي؟!
- لا!!
لماذا؟!
- لانك تسكن المدينة. اريد ان ابيت في هواء القرى. سأنام في قرية "الجشة"، عند عبدالله السفر، حيث اكون قريبا من قرية "القارة".
في منتصف الليل، كان يجمعنا هواء الجشة: الشاعر ابراهيم الحسين، والقاص عبدالله السفر، والشاعر جعفر العمران من قرية القارة، وأنا.
ناولني عبدالله معجم علامة الجزيرة "الشيخ حمد الجاسر" الذي ورد فيه ذكر جبال القارة تحت حرف "الشين" حيث كانت القارة تسمى جبال "الشبعان": وفي تاريخ الاحساء، هو الجبل المعروف الان في الاحساء بجبل القارة، وسمي الشبعان لكونه في وسط النخيل، والانهار من جميع جوانبه، فهو الشبعان والريان ايضا وفيه مغارات واسعة مرتفعة باردة في ايام الصيف" ص 911.
ثم اخذ حوارنا يتشعب الى قصائد النثر وقصص الاطفال ومعارض الكتب والمجلات الثقافية الدورية، لكنني كنت اعيده كل مرة الى جبال القارة، الى ان انصرفنا جميعا لنوم متأخر.
في السادسة صباحا، صحوت، وفي عيني رائحة حلم اذكر كل تفاصيله: "رجال مهيبون يقودون قطعانا من الفيلة، تطير على رؤوسهم طيور جارحة لها رؤوس نساء جميلات. في مأدبة يتوقفون. ينفتح جبل فأظهر انا، على جبيني تاج مذهب وفي يدي صولجان مطعم بالاحجار الكريمة. أمشي يرافقني أسدان، الى ان اصل الى عمق المأدبة. عندها تنطلق زعقة يرتج لها تاجي، فنتحول جميعا الى صخور. وبعيني الخارجيتين اللتين احلم بهما، اصير اراقب نفسي، شامخا والرياح تهب من حولي لتزيد تفاصيل وجهي دهشة".
تناولنا افطارنا في منزل جعفر في قرية القارة، ثم خرجنا.
مررنا بالمكتبة لنشتري صحف الخميس، لكنها لم تكن وصلت بعد.
جولة في الجبل
بدأت جولتنا في "رأس القارة"، وهو الجبل الواقع وسط القرية يعلوه تشكيل جمالي تستطيع ان تراه بأشكال مختلفة: مرة حيوان اسطوري يشبه الاسد، مرة جسد كامل لفيل، ومرة انسان يلف ساعده الايسر على صدره وكأنه يضم طفلا.
قال لي جعفر: "ان واحدا من اسرار جبال القارة هو تشكيلاتها الجمالية التي تستطيع ان تراها على وجوه عدة اذا انت غيرت زاوية النظر اليها".
اضاف جعفر عن "رأس القارة": "في مغارات هذا الجبل، كان الناس يجتمعون لممارسة طقوس احتفالاتهم، فهي مهيأة لاستيعاب عدد كبير من الناس وكأنها قاعات للاجتماع، فبيوت الناس كانت صغيرة".
هذا هو السر الثاني.
تحس وانت تنتقل من جبل الى جبل ان تلك الجبال تعقد علاقات حميمة مع الفقراء، اذ تمنحهم مغاراتها اسرة كي يناموا مطمئنين في بردها.
البرد: سر ثالث لسلسلة الاسرار التي لا تنتهي. فالاحساء بلد حار جدا في الصيف. وحين لم تكن هناك كهرباء، كان الفلاحون يلجأون الى مغارات القارة لكي يقاوموا قسوة القيظ.
وهي لا تمنحهم البرد فحسب.
يقول "عبدالله احمد ابو حليقة" 72 عاما من مواليد القارة: "منذ طفولتنا، نقصد الجبل يوميا، نقضي فيه نهايات النهار الحار وامسيات الصيف. نعرف المغارات المظلمة مغارة مغارة، ونصل لها دون المصابيح اليدوية. اقدامنا تعرف مسالكه الوعرة، فلقد نشأنا عليها. لا نخاف ظلام الجبل لاننا مطمئنون له. لا ذئاب، لا افاعي هناك بعض الخرافات عن كائن يتنفس في الليل او عن رجل احمر مخيف يختبئ في الكهوف، لكن شيئا من هذا غير موجود. الجبل مكان آمن لنا ولغيرنا. هناك روايات يتداولها الاجداد عن امرأة وجدت متفحمة داخل احدى المغارات. ما هو سرها؟! لا أحد يعرف. ربما تاهت في طرق الجبل!!".
قلت لنفسي: "اما نحن، فلن يدخلنا التيه".
في غدير "الجفيرة"
انتقلنا من رأس القارة الى "غار العيد"، جبلان متجاوران يحاذيهما غدير اسمه "الجفيرة". وهناك مكان آخر اسمه "غار الناقة"، كان الرجال والشباب والاطفال ينامون فيه طيلة نهارات رمضان الحارة منذ الفجر ويبقون فيه الى الزوال.
يقول جعفر: "من هم في سن الخامسة والعشرين الى الثلاثين عاما لا يزالون يحتفظون بذكرياتهم الرمضانية وبعضهم لا يزال يمارسها. فمنذ اول يوم من رمضان ينقل كل واحد فراشه الى غار الناقة، ويبقى الفراش حتى صباح اول ايام عيد الفطر.
يتسع غار الناقة لپ300 شخص. وهو على شكل غرف ابدعتها يد الخالق عز وجل لتناسب مختلف الاذواق. توجد في الغار منطقة باردة يطلق عليها "الثلاجة" ومنطقة اكثر برودة تسمى "الفريز"، وهاتان المنطقتان لا يمكن النوم فيهما لبرودتهما الشديدة حتى في منتصف صيف الصحراء.
كل غار يأخذ اسم صفاته او مكتشفه، مثل غار "غفور"، او غار "ميهوب". ولكل غار مرتاديه، فغار الناقة يرتاده الشباب نظرا لغموضه ووعورة طرقه واختلاف مناخاته مما يجعل الدخول له مثيرا. اما غار العيد فيرتاده كبار السن لانه منفتح وكبير، لذلك فان برودته اقل والوصول اليه أسهل. بعد ذلك توجهنا الى مصنع الفخار الزراعة وصناعة الفخار اليدوية وصناعة الخوص اليدوية هي المهن الحرفية الاساسية في القارة وتكاد صناعة الفخار ان تكون المهنة اليدوية التي تشتهر بها القارة. وهناك قابلنا "سيد علي حسين الغراش" 56 سنة الذي ورث هذه المهنة عن اجداده، ولم يبق لها غيره وولديه حسين 36 عاما وصالح 28 عاما.
سيد علي الغراش واحد من اهم معالم القارة، ليس لانه من مواليد هذه القرية، وليس لانه الوحيد والامهر في صناعة الفخار، بل لانه حين يشكل الطين بيديه فان تفاصيل وجهه تلبس ايقاع الريح، التي تشكل هي الاخرى ملامح الجبال. لذلك، فالوقوف على جبل "الداغة"، حيث كل المغارات مستغلة لمصنع الفخار، يعد وقوفا على الجزء الحي من حياة الجبال الساكنة، سكونا صاخبا. انتقلنا من جبل "الداغة" الى جبل "المغارة"، وهو الاسم الذي اطلقته بلدية الاحساء على هذا الجبل المعروف لدى الاهالي باسم القارة، ربما لانه الجبل "الام"!! يتناقل ابناء القرية عن اجدادهم ان القرية اخذت اسم هذا الجبل وليس العكس، وان اسم الجبل يعود الى عائلة كانت تقطنه وتحتمي بمغاراته. وهناك رواية تؤكد ان "القارة" هو اسم البئر الذي كانت هذه العائلة تعتمد عليه في "السقاية". منذ اكثر من سبع سنوات بدأت بلدية الاحساء الاهتمام بجبل "المغارة"، فقامت بانارته ورصف الطرق المحيطة به وانشأت استراحات ومقاصف ودورات مياه وملاعب أطفال، مما جذب عددا اكبر من الزوار الذين تتزايد اعدادهم في عطلة نهاية الاسبوع الخميس والجمعة، سواء من داخل او خارج المملكة: الاوروبيون والاميركيون المتواجدون في السعودية بغرض العمل او الزيارة يضعون جبال القارة في رأس قائمة الاماكن الاثرية التي يحرصون على مشاهدتها.
اتجهنا بعد ذلك الى جبل في الاطراف الغربية للقرية، على قمته بقايا بناء صغير. كان هذا البناء لفت نظري، وكنت اريد ان أصعد لألتقط بعض الصور له.
قال جعفر مندهشاً: "لكن الصعود الى القمة صعب. لماذا لا تلتقط صورا من الأسفل؟!".
تظاهرت بأنني لم أسمعه، فالريح الباردة كانت شديدة، وكنت قررت ان أصعد، فصعد خلفي. حاولت الا أبدي تعبا، فأخذت أقفز من صخرة الى صخرة والخوف يشق قلبي، فالكاميرا المعلقة على رقبتي ثقيلة وخشيت ان تخل بتوازني، فأهوي الى القاع الذي يبتعد شيئا فشيئاً.
توقف جعفر في نصف المسافة، لانه يعاني في الاساس من تمزق في فخذه، اما انا فأكملت.
اثناء نزولنا، قال لي جعفر: "سيحدثك الشيخ عبدالله ابو حليقة عن هذه الغرفة".
وحين قابلناه، أخبرنا ان هذا الجبل يدعى "قوع ابو حصيص"، وان ذلك البناء لم يكن سوى برج للحراسة استخدمه اهل القارة في الدفاع عن انفسهم في حربهم مع الاتراك، التي لا يذكر تاريخها، او في معركة "كنزان"، التي قال انه يذكرها مثل الحلم… القاص عبدالله السفر رجح انها وقعت عام 1913 كما اخبرنا الشيخ ان ثمة ابراجا اخرى مثل برج "الشعبة"، وانها تنتشر على الجبال المحيطة بالقارة بغرض الحماية.
في تلك اللحظة من جولتنا، شعرنا جميعا بالتعب. فالساعة كانت تدخل في الثانية بعد الظهر.
مع أحد الفنانين
سألني جعفر ما اذا كنت أرغب في تصوير المزيد من اللقطات، فاجبته بالنفي بعدما اكتشفت انني التقطت اكثر من 72 صورة.
- اريد ان التقي مع احد الفنانين الذين يشكل الجبل مادة اساسية لانتاجهم الفني.
انحرف جعفر بسيارته باتجاه المنتزه الوطني ثم اتجه يمينا.
توقف بسيارته امام منزل متواضع، قائلا: "هذا مصور فوتوغرافي، يعتمد في اعماله على جماليات جبال القارة".
هل هو من اهل القرية؟!
- أجل.
استقبلنا ابراهيم حسين العلي 28 عاما بحفاوة على الرغم من انه لم يكن هناك موعد مسبق معه
قلت له:
لن نأخذ من وقتك الكثير، لكنني اريد ان اعرف شيئا عن مشاركاتك في مجال التصوير الفوتوغرافي وعن علاقتك الفنية مع جبال القارة.
- علاقتي مع الجبل ابتدأت منذ الصغر، حين كنت أحمل "بسطتي" الى سوق "الاحد" الشعبي، حيث يعرض الفلاحون وأرباب الحرف اليدوية بضاعتهم للبيع. كان السوق يقام بمحاذاة الجبل، وكان لا بد ان يكون هو المنظر الطاغي. كبرت وكبر المنظر معي. كان التصوير هوايتي الاولى كطفل ولا تزال. وكان جبل القارة هو مشهدي الغامض، وربما لاحظت ان التشكيلات الجبلية في قريتنا متميزة ومثيرة حتى من جانب واحد. والذي يزيدها اثارة خاصة بالنسبة لي كمصور، تنوع كل تشكيل عندما انظر اليه من زوايا اخرى. وليس هذا فقط، فاللون العام للصخور يختلف باختلاف اوقات النهار او باختلاف فصول السنة. انا الآن أجري الكثير من التجارب التصويرية على تشكيلات الجبال.
مثل ماذا؟!
قام واحضر لي صورة فوتوغرافية لجبل "رأس القارة" الذي يعلوه تشكيل يشبه جسم انسان يلف ساعده الايسر على صدره وطلب منى ان أحدق طويلا في هذا التشكيل الى ان صار واضحا لي. احضر صورة اخرى لطفل نائم، وصورة ثالثة تضم التشكيل الجبلي وهو يحيط الطفل النائم بساعده. صارت الصورة صورة أخرى: طبيعة تمنح الطفل اوردة الصخر، تهدهده لينام!!
هل شاركت بمعارض خارجية؟
- في البداية، شاركت بمعارض محلية وحصلت على جوائزة عدة، ثم شاركت في معارض خليجية، انا الآن استعد للمشاركة في معرض دولي في باريس تنظمه لجنة حقوق الانسان.
كيف تفسر علاقتك مع الجبل؟
- الجبل بالنسبة لي ملجأ. في الصيف وحين كنت طفلاً، كان الجبل بردي، كان نزهتي وملعبي. حين كبرت، صار مصدر إلهامي، بل هويتي التي اخبئها في قلبي اينما ذهبت. القارة هي اسمنا الذي يتعرف به الناس علينا. لذلك تجد كل اهل القرية كباراً وصغاراً يدينون للجبل بأسمائهم.
بعد خروجنا من منزل ابراهيم العلي، تجولنا في احياء القرية. الوجوه أليفة وبسيطة، تتحدث معنا بتلقائية وكأننا من نخل القرية، كبار السن، الذين تجاوزوا الخمسين، يشكلون نسبة كبيرة. يعملون في الدكاكين الصغيرة، او يتكئون على نواصي الشوارع الضيقة في مواجهة بيوتهم، يردون تحيات العابرين ويحاولون ان يدخلوا معهم في احاديث عن النخيل او عن الشتاء الذي للتو طرق ابواب كهولتهم.
حمدان المحمد 80 عاماً وعباس المسعود 75 عاماً اخذا يضحكان عندما سألتهما عن الاساطير الجبلية التي يتناقلها الاهالي.
عباس المسعود قال: "في جبل دالوا" هناك صخرة على شكل رجل يمتطي حماره. يقال ان هذا الرجل كان يبيع العطور في مناسبة عقائدية يُحرم فيها استخدام العطور، لذلك مسخه الله تعالى الى صخر. وفي غار "العيد"، يقال ان الله تعالى مسح رجلاً ارتكب فاحشة الزنى.
ضحك مرة اخرى ليزيد:
- كل هذه اقاويل نسمعها ولا يعلم حقيقتها الا الله.
ألا تصدقها؟
- انا لا أصدق الا الذي أراه. جبال القارة ملىئة بالمغارات والصخور ذات الاشكال المختلفة. وكان الناس يقصدونها في القيظ وفي رمضان. "الملا طاهر" كان يدرّس الاطفال القرآن في غار "العيد". وكنا نستقبل الامراء والوجهاء الذين يفدون الى قريتنا في الغار نفسه، ونجلب لهم التمر والرمان والعنب. كل هذه الاشياء انتهت. الناس اليوم لديهم مكيفات ولا يحتاجون الى برد جبال القارة.
الجبال والناس
احسست ان جولتنا لفظت عطر انفاسها، وان ما جمعته من وجوه ومن صور كفيل برسم خريطة من العشق داخل قلبي الذي كان ينتظر يوماً كهذا، وان هذه الخريطة لن يدمى لها جرح ما حييت. طلبت من جعفر ان يعود بنا الى قرية الجشة مرة اخرى، لأجمع اوراقي، ثم انطلق الى الرياض. كانت الساعة تقترب من السابعة مساء. ولم نكن تناولنا غداءنا بعد. وانا كلما اجوع تزداد شهيتي للعمل، لذلك استغليت وقت الطريق من القارة الى الجشة لأسأل جعفر:
ألا تعتقد ان التنوعات التي تطرأ على التشكيلات الجبلية في قريتكم تؤثر على شخصياتكم، فتغدون مثلها، خصوصاً وأنتم مرتبطون بهذا الشكل الحميمي معها؟
- أنا لم أفكر بهذا الموضوع من قبل، لكنني الآن اتصور بأن ثمة تشابهاً بيني مثلا وبين هذه الجبال. وعورة طرقها منحتنا شدة البأس. غموضها يجعلنا نميل الى كشف الخفايا والوصول الى الحقائق. ربما لاحظت ان شيوخ القرية لا يؤمنون بالخرافات. صدقني بأنني لم أتخيل أنك ستسألني هذا السؤال. اعتقد ان لتنوعات اشكال الصخور والوانها تأثيراً علينا، ولكن ليس الى الحد الذي يجعل لنا اكثر من شكل.. المهم ان تعرف ان الجبل شكلنا منذ طفولتنا.
أنت تتحدث عن أطفال ما قبل عشرين عاماً. ماذا عن علاقة الاطفال اليوم بالجبل؟
- العلاقة بين أطفال اليوم والجبل صارت أقل التصاقاً، بخاصة مع توفر الوسائل الحديثة مثل التكييف. صار الاطفال يذهبون للجبل للنزهة فقط.
وهل ستنتهي هذه العلاقة مع الوقت؟ هل سيصير الجبل في المستقبل مجرد تضاريس شامخة يمر امامها الناس دون ان تخفق لها قلوبهم؟!
- لا اعتقد ان الامر سيصل الى هذه الدرجة، فللجبل حضور طاغٍ، ربما يقل حضوره لدى الاجيال المقبلة، لكنه لن ينتهي، لن ينتهي ابداً.
هل هناك مبدعون قاموا بمحاولة تخليد هذا الحضور؟
- أجل. هناك مبدعون من أهل القارة ساهموا في هذه العملية، منهم الفنان التشكيلي احمد الزويد، والمصور الفوتوغرافي ابراهيم العلي والشاعر محمد الجلواح الذي كتب ملحمة شعرية من 260 بيتاً تناولت تاريخ القارة والتفاصيل اليومية لحياة الناس، الكبار والصغار. انا اتحدث هنا عن المبدعين المعاصرين. اما الاقدمون، فلقد خلدوا القارة بقصائد تحفظها كتب التراث وذاكرة الاهالي.
تحدثت عن تفاصيل حياة الناس. كيف كان الاطفال يلعبون في زمانك انت؟
- كانت هناك العاب شعبية مثل "الصوّيعة" يشارك فيها احد عشر طفلاً، عشرة يختبئون في اماكن مختلفة والطفل الحادي عشر "يغمّ" عينيه ثم يحاول الامساك بأحد الاطفال العشرة والذي يحل محله. لعبة "القب" يستخدم فيها نوعان من العصي: عصا طويلة وعصا صغيرة. يقف اللاعب في دائرة نصف قطرها 25 سم، ثم يضرب العصا الصغيرة بالعصا الكبيرة الى أبعد مدى. اللاعب الآخر يحاول ان يرمي العصا الصغيرة داخل الدائرة لكي يفوز على اللاعب الاول الذي يدافع عن دائرته مستخدما العصا الطويلة. هناك لعبة "الخطة" والتي يرسم فيها اللاعبان مجموعة من المربعات والمستطيلات على الارض ويحاولان القفز من مربع الى آخر بقدم واحدة: اليسرى ثم اليمنى. اما لعبة "الصبّة" فلها طريقتان. الاولى يستخدم فيها اللاعبان ثلاثة احجار لكل منهما. ولكي يفوز احدهما على الآخر يجب ان يجعل احجار في خط مستقيم على احد قطري المربع المرسوم على الارض. الطريقة الثانية يستخدم فيها كل لاعب تسعة احجار. لعبة "الحلول" يُستخدم فيها خمس كرات مصنوعة من الفخار، وعلى اللاعب ان يقذف احدى الكرات الخمس في الهواء وان يلتقط كل كرة على حدة من الارض باليد نفسها.
ألم يكن لديكم العاب مجسمة تلعبون بها؟
- كنا نصنع العابنا بأنفسنا. فمن "الجوالين" الفارغة نصنع سيارة، اطاراتها او دواليبها من أغطية القوارير التي نربطها بواسطة "مطاط" بلاستيكي حول "بكرة" خيوط مستعملة، وعلى هذه السيارة ننقل الرمل من الجبل الى شوارعنا الضيقة.
تذكرت ان عليّ ان أدير محرك سيارتي الواقفة منذ مساء امس امام منزل عبدالله السفر، قبل ان أجهز اغراضي المتناثرة في مكتبته الصغيرة. ففي الشتاء تحتاج سياراتنا الى وقت لكي تتهيأ للسير في برد صحراء "الدهناء" والتي تفصل بين الاحساء والرياض.
ولأن الاطفال كانوا آخر احاديثنا، فلقد استرجعت وانا في بداية الطريق الصحراوي منظر طفلين كانا يلعبان الكرة امام جبل "دالوا"، وحين شاهداني اركض وبين يدي صندوق اسود، هو "كاميرتي" لالتقاط مشهد غيمة بدت وكأنها محشورة بين صخرتين، حين شاهداني، لاذا بالفرار. ثم ان احدهما قذفني من بعيد بحجر.
أخذت افكر:
- لماذا هرب الطفلان؟ ولماذا قذفني احدهما بحجر؟! هل لأن اطفال القارة يخافون على جبالهم من الغرباء؟! ام ان الجبال اوحت لهما ان يقذفاني بالحجارة لانني كنت التقط صورة صمتها؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.