السؤال المطروح في الاوساط السياسية الاميركية في واشنطن المعنية مباشرة بتطورات الوضع في منطقة الشرق الاوسط هو: هل يشهد السودان ما شهده الصومال ويتكرر فيه "سيناريو التدخل العسكري الاميركي"؟ ففي ما يتعلق بالصومال اتخذت الادارة الاميركية قرار التدخل العسكري في هذا البلد لانقاذ مئات الآلاف من الصوماليين من الموت جوعاً، ثم "طلبت" من مجلس الامن اصدار قرار يعطي تفويضاً شرعياً لهذا التدخل، ثم انضمت دول اخرى عدة الى هذه العملية فاصبح في الصومال اليوم اكثر من 35 ألف جندي من دول عدة. هل يتكرر هذا السيناريو في السودان؟ هذا السؤال ليس مطروحاً، فقط، في الخرطوم وعواصم عربية اخرى، بل هو مطروح ايضاً في واشنطن. والمعلومات الخاصة التي حصلت عليها "الوسط" من مصادر رسمية ومسؤولة في ادارة الرئيس بوش وفي فريق الرئيس المنتخب بيل كلينتون تعطي الرد الآتي على هذا السؤال: الولاياتالمتحدة لا تنوي ان تكرر في السودان "السيناريو الصومالي" لكنها، بلا شك منزعجة وقلقة من تصرفات ومواقف النظام السوداني، ومن التحالف السوداني - الايراني، ولديها مجموعة خطط وخيارات لممارسة "ضغوط فعلية" على النظام في الخرطوم بهدف اسقاطه واستبداله بنظام آخر. فحين التقيت ادوارد دجرجيان مساعد وزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الاوسط قبل أيام طرحت عليه السؤال الآتي: هل ان الولاياتالمتحدة قلقة من الدور الذي تلعبه ايران في السودان؟ وكان جواب دجرجيان: "نعم الولاياتالمتحدة قلقة من هذا الدور الايراني. وقد أبلغنا الحكومتين الايرانية والسودانية بوجهة نظرنا هذه. نحن لن نقبل بان يقوم السودان بنشاطات واعمال تخريبية ضد دول صديقة لنا". وكان دجرجيان يقصد بكلامه هذا "النشاطات والاعمال السودانية" المدعومة من ايران ضد مصر. وفي هذا المجال كان جيمس ووتون كبير اخصائيي شؤون افريقيا الشرقية في دائرة ابحاث الكونغرس الاميركي اكثر وضوحاً، اذ قال ل "الوسط": "ان شعورنا العام هو ان السودان متواطئ مع ايران التي لها معسكرات تدريب في السودان يشرف عليها رجال من الحرس الثوري الايراني. كما ان مصر تقول ان ايران تدرّب المخربين ومعظمهم مصريون في السودان في نوع من المدرسة الخاصة للارهابيين. لكن تقاريرنا الاستخبارية تبين أن المخربين الذين يرسلهم السودان الى مصر هم سودانيون. وبناء على اقتراحنا طلب الكونغرس من وزارة الخارجية الاميركية أن توفد مسؤولاً رفيع المستوى الى طهران ليقول للحكومة الايرانية إنه إذا كان لها أي يد في ذلك فان عليها أن تتوقف. وهذا أمر غير عادي لأننا نعتبر أي تهديد لمصر في العادة أمراً يهم مصر وحدها. ويدعي الايرانيون أن معسكراتهم التدريبية في السودان هي للتدريب العسكري التقليدي المعروف. ونحن لدينا صور جيدة التقطتها الاقمار الصناعية لتلك المعسكرات، ولكن من الصعب قراءة تلك الصور بشكل دقيق". ويضيف ووتون: "لقد شرحنا للكونغرس ان السودان هو مشكلة سياسية. فمثلاً يصل الصوماليون الى السودان عبر الحدود ويقولون انهم يتضورون جوعاً، ولكنهم يعودون ببنادق م 16 بدلاً من الأرز. وفي رأيي أن وجهة نظر واشنطنوموسكو تجاه نظام الخرطوم واحدة، ولكن ليس لدينا أو لدى موسكو أي نفوذ هناك أو قدرة للضغط. ونقطة الضعف الوحيدة للنظام السوداني التي يمكن الولاياتالمتحدة ان تستخدمها هي فقره". واهمية هذا الكلام ان ووتون يعد تقارير خاصة عن السودان ودول افريقية اخرى ويرسلها الى جميع اعضاء الكونغرس الاميركي من نواب وشيوخ. لكن ماذا يعني ووتون بكلامه "ان نقطة الضعف الوحيدة للنظام السوداني التي يمكن الولاياتالمتحدة ان تستخدمها هي فقره"؟ في هذا المجال علمت "الوسط" من مصادر اميركية رفيعة المستوى ان فريق الرئيس الاميركي الجديد بيل كلينتون تلقى تقريراً سرياً حول النظام السوداني وكيفية التعامل معه، يتضمن اقتراحات ملموسة ومحددة تدعو باختصار الولاياتالمتحدة الى ممارسة "ضغوط اقتصادية" على نظام عمر البشير بهدف اسقاطه. هذا التقرير أرسله الى فريق كلينتون معهد بروكينغز الاميركي الشهير الذي يتوقع أن يلعب "دوراً استشارياً مهما" في الادارة الاميركية الجديدة. وقد أعد هذا التقرير السري، الذي اطلعت "الوسط" على مضمونه، الدكتور تيرينس ليونز المختص بالشؤون الافريقية في المعهد وساعده في ذلك الدكتور خالد الميداني سوداني من الخرطوم والدكتور فرانسيس دينغ من جنوب السودان الذي يعمل مستشاراً لشؤون اللاجئين لدى الامين العام للامم المتحدة بطرس غالي. ويتضمن تقرير بروكينغز الاقتراحات الاساسية الآتية: 1 - دعوة الادارة الاميركية الجديدة الى استخدام الضغوط الاقتصادية - أو "القوة الاقتصادية" - ضد النظام السوداني بهدف اسقاطه. 2 - مطالبة الادارة الاميركية بأن تعيد الى السلطة في الخرطوم "القوى المعتدلة الحديثة" التي أبعدها عن الحكم عمر حسن البشير حين قام بانقلابه أو "بثورة الانقاذ الوطني" في حزيران يونيو 1989. والمعروف ان الصادق المهدي هو الذي كان يرئس الحكومة التي أطاح بها انقلاب البشير. 3 - يعتبر تقرير بروكينغز ان الحكومة الحالية في السودان مدينة في سلطتها الى عوامل اقتصادية ومصرفية تحابي التجار الصغار في السودان على حساب مصالح عائلات رجال الاعمال التقليدية. والحل في رأي بروكينغز هو ايجاد حكومة بديلة في الخرطوم تجتذب البورجوازيين الصغار والاكاديميين والجامعيين الذين أيدوا الحكومة الحالية على امل الحصول على مناصب فيها. وفي هذا النطاق قال ل "الوسط" الدكتور خالد الميداني: ان المجموعة التي تحكم في السودان اليوم ليست مجموعة دينية بل انها حركة سياسية مادية ذات طابع ديني". التدخل الايراني ومما جاء في تقرير معهد بروكينغز المرفوع الى ادارة كلينتون: "ان التدخل الايراني الاقتصادي والسياسي في السودان يشير بوضوح الى وجوب انتهاج سياسة اميركية اكثر نشاطاً. اذ يجب فرض قيود اكثر صرامة لمنع اية مساعدات رسمية غير انسانية من الوصول الى خزينة نظام الخرطوم. فالهيئات الدولية كالامم المتحدة يمكنها ان تساعد في تقييد وصول المساعدات من الدول غير العربية كاليابان والصين وبشكل خاص ايران، الى السودان. ولمصر بشكل خاص دور مهم تلعبه في عزل الحكومة السودانية ووقف مخططاتها التوسعية في شمال افريقيا وفي اثيوبياوالصومال واريتريا". ويضيف التقرير: "ان مصر والولاياتالمتحدة وجميع الحكومات العربية والافريقية تقريباً لها مصلحة في احتواء اطماع النظام السوداني. والاهم من هذا انه يجب وقف الدعم الايراني للخرطوم، وهو امر قد لا يكون ممكناً الا بعد تطبيع العلاقات الديبلوماسية بين واشنطنوطهران. وما على المرء الا ان ينظر الى المفاوضات الشاقة بين الحكومة السودانية وصندوق النقد الدولي خلال الاشهر القليلة الاخيرة لكي يدرك ان السياسة الدولية لعزل النظام السوداني تساعد على تقويض مكانته وسلطته وعلى احداث انقسامات متزايدة داخل قيادة الجبهة القومية الاسلامية. اما التحالف الديموقراطي الوطني المعارض فهو منقسم على نفسه حول قضايا عدة. ومع ذلك فقد تطور خلال الاعوام الثلاثة الماضية، وخرج بخطة خلاّقة لتأليف حكومة انتقالية تعمل على اقامة نظام سوداني مفتوح متوازن في البلاد يحقق الاستقرار والوفاق". ويتفق تقرير بروكينغز مع وجهة نظر الدكتور دنغ بان اهم اولويات السودان هي انهاء الحرب الاهلية بين الجنوب والشمال التي اصبحت حرباً على نمط الحرب الايرلندية. ويرى التقرير ان الفريق البشير وفريقه "يعارضون السلام بقوة لأن السلام يعني التوفيق والحلول الوسط، بينما يؤيد البشير القمع في الجنوب السوداني". حكومة سودانية في المنفى في الوقت نفسه علمت "الوسط" ان "دائرة ابحاث الكونغرس الاميركي" اعدت تقريراً عن الوضع في السودان طالبت فيه الادارة الاميركية بوضع السودان على قائمة "الدول الارهابية" بسبب "دعم النظام السوداني لمجموعات وقوى ارهابية" وحثت الادارة الاميركية على تقديم الدعم للاحزاب والقوى المعارضة السودانية "شرط ان تتحد في ما بينها". وأكد تقرير الكونغرس هذا ان النظام السوداني الحالي المدعوم من الجبهة القومية الاسلامية بزعامة الدكتور حسن الترابي "يشكل تهديداً حقيقياً للدول المجاورة للسودان وخصوصاً لاثيوبياوالصومال، واريتريا التي ستصبح دولة مستقلة بعد استفتاء نيسان ابريل المقبل". وأضاف هذا التقرير: "ان النظام السوداني يدرب الارهابيين مما يعني انه يخطط لارسالهم الى الدول المجاورة له. ان هدف الولاياتالمتحدة يجب أن يكون إقامة حكومة جديدة في الخرطوم لا تتبنى التطرف الاسلامي. وأقل ما ينبغي أن تفعله الولاياتالمتحدة هو ان تؤكد بوضوح للمجتمع الدولي انها لن تقبل انتشار الافكار المتطرفة التي يتبناها النظام السوداني في الصومالواثيوبيا واريتريا". ويذهب التقرير أبعد من ذلك اذ يدعو الادارة الاميركية الى تشجيع المعارضة السودانية على تأليف "حكومة سودانية في المنفى" والى الاعتراف بهذه الحكومة. ويقول التقرير: "يجب علينا أن نساعد المعارضة السودانية بأن نقول لها: إنها إذا ما شكلت حكومة في المنفى فان الولاياتالمتحدة ستعترف بها. وسيكون في هذا اشارة قوية الى النظام في الخرطوم. فقد لا يكترث النظام في السودان كثيراً بالرأي العام العالمي، لكنه في حاجة بكل تأكيد الى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. كذلك يجب ادراج السودان على قائمة الدول الارهابية لحرمانه من امتيازات اقتصادية وتجارية". ومن التقارير التي يدرسها فريق كلينتون تقرير وضعه استاذ جامعي سوداني يعيش في الولاياتالمتحدة هو الدكتور رياض ابراهيم. ومما جاء في هذا التقرير: "من الصعب ان نتوقع الى متى سيدوم التحالف بين الجبهة القومية الاسلامية وبين مؤيديهم داخل النظام العسكري السوداني. الا ان الشيء الواضح هو ان التطورات السياسية في السودان طالما تأثرت منذ العهد الاستعماري بالقوى الخارجية. اذ أن رعاية البريطانيين مثلاً لطوائف وقوى معينة ساعدت تلك الطوائف على تعزيز مكانتها وترسيخ قاعدتها الاقتصادية ومهدت السبيل امام التطور السياسي في السودان". ويعتقد ابراهيم، وهو يعمل كمستشار مع فريق كلينتون أنه عندما يتوقف الدعم المالي للنظام السوداني فان حركة الاخوان المسلمين نفسها في هذا البلد ستضعف الى درجة كبيرة. ويرى ابراهيم ان النظام السوداني "غير آمن" ويلاحظ ان ردوده منذ ان تولى السلطة، على مختلف اتجاهات المعارضة كانت عبارة عن "درجات متفاوتة من القمع والعنف وبشكل لم يسبق للسودان أن عرفه منذ استقلاله". ويضيف: "ان السياسة الاستعمارية في السودان لم تؤد الى مجرد تفاقم التقسيمات الطائفية والطبقية فحسب، بل لعبت دوراً مهماً في ظهور حركات سياسية بديلة مثل الاخوان المسلمين والحزب الشيوعي. أما نجاح الاخوان المسلمين بشكل خاص في اكتساب نفوذ كبير خلال السنوات الاخيرة فيعود الى مزيج من العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية اكثر منه الى اي شيء آخر". ويصف الدكتور اباشار جمال، وهو استاذ جامعي سوداني مقيم في الولاياتالمتحدة، الوضع الاقتصادي في السودان بانه "صعب للغاية بل يكاد ان يكون بائساً". وسألت "الوسط" غاري غراي مدير الشؤون السودانية في وزارة الخارجية الاميركية عن رأيه في هذه التقارير المرسلة الى الرئيس الجديد كلينتون فقال إنه اطلع على هذه التقارير وما تتضمنه من اقتراحات وأضاف: "ليس واضحاً حتى الآن، بالطبع، الى أي مدى ستذهب ادارة كلينتون في تبني كل الاقتراحات الواردة في هذه التقارير، إذ ان هذه الادارة لم تبدأ ممارسة أعمالها بعد. لكن الامر الواضح هو أن العلاقات السودانية - الاميركية وصلت الى حالة متردية لا سيما عقب إعدام عمال الاغاثة في جنوب السودان. وإذا كانت الادارة الاميركية الجديدة ستنفذ أقوالها في ما يتعلق بحقوق الانسان فان هذا سيكون أمراً سيئاً بالنسبة الى حكومة الجبهة القومية الاسلامية في الخرطوم. ومن المؤكد أن الضغط سيزداد عليها بعد قرار الجمعية العمومية للامم المتحدة الذي ادان الاحداث الاخيرة في السودان. وما تدعو الحاجة اليه الآن هو ممارسة دول عربية الضغط على السودان". وقال غراي: "من ناحية اخرى أعتقد أنه هناك مبالغة في تصوير الدور الخطر الذي يمكن للسودان ان يقوم به. ولهذا فان ما يلزم هو الوقاية بدلاً من العلاج، لكي لا تتطاول الحكومة السودانية وتصل في جهودها لزعزعة الاستقرار في دول اخرى الى كينيا وأوغندة. ان مصر قادرة على العناية بنفسها، لكن النظام السوداني لديه قدرة على اثارة المشاكل والاضطرابات في شمال افريقيا اي منطقة المغرب العربي وفي شرقها. ويجب العمل على ردع النظام السوداني ومنعه من الحاق الاضرار بدول اخرى". وامتنع غراي، بسبب موقعه الرسمي في الادارة الاميركية، عن اعطاء اية تفاصيل أو معلومات عن "الاجراءات الرادعة" التي ستتخذها الولاياتالمتحدة ضد السودان. لكن يبدو من ذلك كله ان النظام السوداني لديه من الاسباب التي تجعله يشعر بالقلق على مستقبله.