شكل قرار الإدارة الأميركية رفع ليبيا من قائمة الدول الراعية للإرهاب ورفع مستوى التمثيل الديبلوماسي معها الى سفارة، منتصف ايار مايو الماضي مفاجأة، إذ جاء بعد اسابيع فقط على إبقاء الخارجية الأميركية ليبيا على لائحة الدول"الراعية للإرهاب"، ويتوقع ان يُكافأ السودان كذلك برفع اسمه من اللائحة السوداء، علماً انه أبقي ايضاً قبل اسابيع. وكانت الولاياتالمتحدة سحبت آخر سفير لها من ليبيا عام 1972، ثم سحبت جميع الموظفين الحكوميين وأقفلت سفارتها، بعدما هاجمتها تظاهرة جماهيرية وأضرمت النار فيها في كانون الأول ديسمبر 1979. ويعتقد بأن تفاعلات أزمة الملف النووي لإيران شكلت احد العوامل المهمة في تسريع التطبيع مع ليبيا، لأن واشنطن ارادت ان تبعث برسالة الى الدول التي تسعى الى ان تحذو حذو ايران، مشيرة الى انها يمكن ان تواجه خيارين: العصا أو الجزرة. السودان الى اين؟ الرئيس عمر البشير حين وصل الى السلطة نهاية حزيران يونيو 1989، وجد في سدة المكتب البيضاوي الجمهوري جورج بوش الأب، ولم يواجه الوضع الجديد في الخرطوم بعراقيل من واشنطن، سوى وقفها المعونات وفق قرار للكونغرس يحظر التعامل مع الحكومات الانقلابية. حتى عندما صُنّف السودان ضمن"دول الضد"العربية التي ناصرت موقف الرئيس العراقي السابق صدام حسين في تداعيات غزوه الكويت عام 1990 الخرطوم تصر على انها لم تؤيد الغزو بل ناصرت الحل العربي للأزمة، فإن ذلك لم يجلب عليه غضب واشنطن زعيمة"التحالف". كانت الخرطوم مطلع التسعينات مزهوة بالمد الإسلامي الثوري للنظام الجديد، تستقطب المعارضين الثوريين من كل لون، اسلاميين وقوميين ويساريين، وأصبحت ملجأ لعرب مطاردين في بلدانهم. ولأن حس الثورة كان اعلى من الدولة، طغت شعارات المواجهة مع اميركا، وعرفت الحكومة المتاعب الجدية للمرة الأولى مع واشنطن عندما وصلت إدارة الرئيس الديموقراطي بيل كلينتون الى البيت الأبيض، اذ لم تلبث إلا بضعة اشهر حتى أدرجت السودان في لائحتها للدول الراعية للإرهاب في آب اغسطس 1993، ليصبح بين سبع دول سيئة السمعة في التصنيف الأميركي، وبينها دول تعتبرها الولاياتالمتحدة راسخة العداء آنذاك مثل كوبا وكوريا الشمالية وإيران وسورية وليبيا والعراق. وزاد الرتق اتساعاً مع واشنطن بسبب الحرب في جنوب السودان، حين بدأ تصوير النزاع بصفته صراعاً ذا بعد عرقي وديني بين الشمال العربي المسلم والجنوب الافريقي المسيحي، وانحازت واشنطن لمصلحة الجنوبيين، بخاصة في ظل نجاحات عسكرية مهمة على المتمردين، سجلها الجيش بمساندة ميليشيا الدفاع الشعبي التي تستند الى عقيدة قتالية ترفع الشعار الإسلامي. واللافت ان العلامة الفارقة في العلاقات السودانية - الأميركية كانت على خلفية قضية غير ثنائية، عندما تعرض الرئيس المصري حسني مبارك لمحاولة اغتيال فاشلة في اديس ابابا نهاية حزيران يونيو 1995، واتهم السودان بإيواء منفذيها. إذ سرعان ما اتخذت ادارة كلينتون من الحادثة وسيلة لتشديد ضغوطها على الخرطوم. ومررت واشنطن قراراً في مجلس الأمن بفرض عقوبات على الحكومة السودانية اذا لم تسلم منفذي المحاولة، علماً ان الخرطوم نفت بشدة أي علاقة بها، لكن ذلك لم يكن كافياً لإخراجها من متاهة العقوبات الدولية التي رزحت تحتها زمناً. وتطور الأمر، بإغلاق واشنطن محطة مخابراتها في الخرجوم اواخر عام 1995، ثم سحبت في شباط فبراير 1996 سفيرها من الخرطوم وانتقلت السفارة بطاقمها الى نيروبي بدعوى وجود تهديدات امنية. وبدأت الخرطوم تدرك تبعات عدائها لواشنطن، فبادرت الى ابداء حسن نية بالتخفف من ايوائها بعض غلاة المطلوبين للولايات المتحدة، خصوصاً زعيم تنظيم"القاعدة"اسامة بن لادن الذي اقام في العاصمة السودانية منذ مطلع التسعينات، فطلبت منه مغادرة البلاد وانتقل الى افغانستان في نيسان ابريل 1996. وعرضت الخرطوم، كما اوردت تقارير غربية في رسالة الى الإدارة الأميركية، استعدادها للتعاون الكامل في مكافحة الإرهاب، لكن الأجندة الحقيقية للسياسة الأميركية حينها كانت تهدف الى اسقاط نظام الرئيس البشير وليس التعاون معه، كما يقول ثيموني كارني، آخر سفير اميركي نشط في الخرطوم منتصف التسعينات. ولم تفلح يد الخرطوم الممدودة في اقناع إدارة كلينتون بالتعاون، اذ صممت واشنطن على انتهاج سياسة"العزل والاحتواء"، ودعم جهود المعارضة المسلحة لإطاحة حكومة البشير، وساعدت في الهجوم الثلاثي على البلد مطلع 1997، من ثلاث جبهات: اريتريا وإثيوبيا وأوغندا. وفي تشرين الثاني نوفمبر 1998 فرض كلينتون عقوبات اقتصادية على الحكومة السودانية، بينما كان مفاوضوها يجرون محادثات سلام مع متمردي"الجيش الشعبي لتحرير السودان"في نيروبي. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تُستأنف فيها المحادثات بعد توقف لأكثر من ثلاث سنوات. وبلغت المواجهة ذروتها خلال الولاية الثانية لكلينتون، عندما قصفت بوارج أميركية من البحر الأحمر في 20 آب أغسطس 1998،"مصنع الشفاء"للأدوية في الخرطوم بصواريخ"كروز"، بذريعة ان بن لادن يملكه وانه ينتج، أسلحة كيماوية. ولكن، كانت الخطوة رداً على هجمات جماعة بن لادن على السفارتين الأميركيتين في نيروبي ودار السلام في الأسبوع الأول من الشهر ذاته. وحتى انقضاء ولاية كلينتون نهاية عام 2000، استمرت إدارته رافضة أي نوع من التقارب مع الحكومة السودانية، لا تدخر جهداً في عزلها اقليمياً ودولياً، والضغط المتواصل عليها. واستمرت في تقديم العون لمعارضيها، حتى باتت حكومة البشير مقتنعة بأن الهدف الأكيد للإدارة الديموقراطية هو إطاحتها. تنفست الخرطوم الصعداء مع وصول الإدارة الجمهورية الجديدة، بقيادة الرئيس جورج بوش الابن الى البيت الأبيض مطلع عام 2001، ولم تمضِ على إدارته أسابيع قليلة حتى أوصى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في واشنطن، الولاياتالمتحدة بانتهاج سياسة جديدة تجاه السودان، تقوم على التواصل بديلاً من"العزل والاحتواء". وتبنت ادارة بوش توصيات الدراسة الهادفة الى إنهاء الحرب الأهلية في جنوب السودان، عبر التواصل والتعاون مع حكومة البشير، وتجاوبت الخرطوم مع السياسة الجديدة، فبدأ تعاون استخباراتي بين الطرفين في أيار مايو 2001، مكّن واشنطن من الحصول على معلومات مهمة عن الجماعات المتهمة لديها بممارسة الإرهاب، وإرسال محققين وخبراء من وكالة الاستخبارات المركزية"سي آي أي"ومكتب التحقيقات الفيديرالي"أف بي آي"الى الخرطوم. كانت واشنطن على صلة بالخرطوم، ولم يكن ذلك التعاون الوثيق كافياً ليمنع هجمات أيلول سبتمبر 2001 على واشنطن ونيويورك، لكنه كان كافياً ليدفع عن الخرطوم تهمة التورط بمساعدة منفذيها ما جنبها انتقاماً أميركياً. ولم يكن التعاون مقتصراً على مكافحة الإرهاب، إذ بادرت واشنطن الى تنشيط وجودها الديبلوماسي في العاصمة السودانية، وقررت الانخراط بحماسة في عملية السلام لتسوية قضية الجنوب، وسمى الرئيس بوش السيناتور جون دانفورث مبعوثاً خاصاً له في السودان، أثمرت جهوده في إبرام اتفاق جبال النوبة الذي وقع في سويسرا، ثم تحرك الشركاء الدوليون مع منبر"الهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا"ايغاد حتى ولد اتفاق نيفاشا للسلام في كانون الثاني يناير .2005 لكن اندلاع حرب دارفور في شباط 2003 حرّك الأجندة الأميركية، بعدما صارت هذه الأزمة قضية داخلية في الولاياتالمتحدة، بفضل مجموعات الضغط واليمين المسيحي المتطرف ومنظمات يهودية، وبعدما كان وقف حرب الجنوب شرطاً لتطبيع العلاقات السودانية - الأميركية، أضحت تسوية أزمة دارفور شرطاً جديداً. وعلى رغم اتفاق أبوجا للسلام في دارفور، أعلن مساعد وزيرة الخارجية الأميركية روبرت زوليك أخيراً ان تطبيع العلاقات مع الخرطوم مرتبط بتطبيق اتفاقي أبوجا ونيفاشا، لكنه لم يحدد نسبة التنفيذ المطلوبة، ما يشير الى ان الولاياتالمتحدة تريد أن تحتفظ بأوراق ضغط في يدها تستخدمها في الوقت المناسب، الى أن تقتنع بأن الخرطوم باتت تستحق الرضا الكامل. نخبة من الساسة والأكاديميين السودانيين، وبعضهم في مراكز بحوث، يعتقدون بأن أهداف واشنطن لم تتغير تجاه الحكومة السودانية، بل تغير أسلوبها ونهجها في التعامل. فهي ترغب في أن يغيّر نظام الحكم، خصوصاً الممسكين بمفاصله الإسلاميين سلوكهم، وفي تفكيك النظام سياسياً عبر اتفاقات السلام في جنوب البلاد وغربها ثم في الشرق لاحقاً، وابقائه تحت الضغط والابتزاز، ومنحه فرصة المنافسة بعد ذلك في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، لأن واشنطن كما يعتقدون لا ترى بديلاً مناسباً في حال سقوط الحكومة الحالية. لكنهم يتوقعون رفع اسم السودان من اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، والتدرج في رفع مستوى التمثيل الديبلوماسي، بعد تطور مستوى التعاون الأمني منذ فتح مكتب وكالة الاستخبارات الأميركية في الخرطوم عام 2003، والتخطيط لانشاء مركز للوكالة في السودان لمراقبة منطقة القرن الأفريقي وشرق القارة... بالتالي، واشنطن تتعامل مع الخرطوم بموجب سياسة"خطوة خطوة"وپ"التطبيع بالتقسيط"، كي تستطيع أن تأخذ كل ما تريد من دون أن تدفع ثمناً.