Space X متهمة بالتعدي على ممتلكات خاصة    لقاح على هيئة بخاخ ضد الإنفلونزا    بشرى سارة لمرضى ألزهايمر    اصطياد ال 6 الكبار..إسرائيل توجع حزب الله    "اليوم الوطني".. لمن؟    بعد اتهامه بالتحرش.. النيابة المصرية تخلي سبيل مسؤول «الطريقة التيجانية» بكفالة 50 ألفاً    تفريغ «الكاميرات» للتأكد من اعتداء نجل محمد رمضان على طالب    القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة الشيخ خالد بن محمد بن إبراهيم آل خليفة    ضبط 22716 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    السعودية تتصدر دول «العشرين» في نمو عدد السياح الدوليين في 2024    القيادة تهنئ الحاكم العام لبيليز بذكرى استقلال بلادها    بلدية الخبر تحتفل باليوم الوطني ب 16 فعالية تعزز السياحة الداخلية    البكيرية تستعد للاحتفاء باليوم الوطني 94 بحزمة من الفعاليات    الصين لا تزال المصدر الرئيس للاوراق العلمية الساخنة    زاهر الغافري يرحلُ مُتخففاً من «الجملة المُثقلة بالظلام»    الفلاسفة الجدد    حصن العربية ودرعها    أبناؤنا يربونا    كلية الملك فهد الأمنية الشرف والعطاء    الشرقية: عروض عسكرية للقوات البحرية احتفاءً بيوم الوطن    "البريك": ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الإنتماء وتجدد الولاء    شكر وتقدير لإذاعتي جدة والرياض    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الفوز على ضمك    تشكيل الإتحاد المتوقع أمام الهلال    مآقي الذاكرة    مصر: تحقيق عاجل بعد فيديو اختناق ركاب «الطائرة»    اختفاء «مورد» أجهزة ال«بيجر»!    "الأوتشا" : نقص 70% في المواد الطبية و65% من الحالات الطارئة تنتظر الإجلاء في غزة    رياح سطحية مثيرة للأتربة والغبار على القصيم والرياض    فلكية جدة: اليوم آخر أيام فصل الصيف.. فلكياً    انخفاض سعر الدولار وارتفاع اليورو واليوان مقابل الروبل    الشورى: مضامين الخطاب الملكي خطة عمل لمواصلة الدور الرقابي والتشريعي للمجلس    2.5 % مساهمة صناعة الأزياء في الناتج المحلي الإجمالي    «النيابة» تحذر: 5 آلاف غرامة إيذاء مرتادي الأماكن العامة    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    "مدل بيست" تكشف مهرجان "ساوندستورم 2024" وحفل موسيقي لليوم الوطني ال 94    الأخضر تحت 20 عاماً يفتتح تصفيات كأس آسيا بمواجهة فلسطين    "أكاديمية MBC" تحتفل بالمواهب السعودية بأغنية "اليوم الوطني"    "تعليم جازان" ينهي استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني ال94    رياض محرز: أنا مريض بالتهاب في الشعب الهوائية وأحتاج إلى الراحة قليلاً    الدرعية تحتفل بذكرى اليوم الوطني السعودي 94    حاملة الطائرات الأميركية «يو إس إس ترومان» تبحر إلى شرق البحر المتوسط    مجلس الأمن يعقد اجتماعا طارئا لبحث التطورات في لبنان    بيع جميع تذاكر نزال Riyadh Season Card Wembley Edition الاستثنائي في عالم الملاكمة    شرطة نجران تقبض على شخص لحمله سلاحًا ناريًا في مكان عام    «لاسي ديس فاليتيز».. تُتوَّج بكأس الملك فيصل    الناشري ل«عكاظ»: الصدارة أشعلت «الكلاسيكو»    ب 2378 علمًا بلدية محافظة الأسياح تحتفي باليوم الوطني ال94    وزارة الداخلية تُحدد «محظورات استخدام العلم».. تعرف عليها    زعلة: ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الانتماء وتجدد الولاء    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    قراءة في الخطاب الملكي    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" تنشر على حلقات كتاب نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية اللبناني السابق . مذكرات ايلي سالم : سنوات الاحتلال وعهد الفرص الضائعة
نشر في الحياة يوم 25 - 01 - 1993


قال لي بشير الجميل: لن يخرج النواب أحياء
اذا لم ينتخبوني رئيساً للجمهورية
سألت أمين الجميل: هل أنت ملتزم بتوقيع معاهدة سلام مع اسرائيل؟
أجاب: قطعاً لا، وحتى بشير ابتعد عن اسرائيل بعد انتخابه
تنشر "الوسط" ابتداء من هذا العدد، وعلى حلقات، مذكرات الدكتور، ايلي سالم نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية اللبناني في عهد الرئيس امين الجميل ومستشاره للشؤون السياسية والاتصالات العربية والدولية. وقد شارك ايلي سالم طوال عهد الرئيس امين الجميل من ايلول - سبتمبر - 1982 الى ايلول - سبتمبر 1988 في صنع القرارات السياسية التي اتخذت خلال هذه الفترة، وفي الاتصالات المختلفة اللبنانية - العربية واللبنانية - الدولية، واطلع على مجموعة كبيرة من الاسرار المتعلقة باسرائيل ومخططاتها في لبنان، وبسورية، وبالولايات المتحدة والدول الكبرى الاخرى، وبالفلسطينيين، والايرانيين، وبدول عربية اخرى لعبت ادواراً مختلفة في الساحة اللبنانية. من هنا أهمية مذكراته هذه التي تكشف اسراراً ومعلومات جديدة ليس فقط عن لبنان وصراعات القوى المختلفة فيه، بل ايضا عن منطقة الشرق الاوسط. وقد حصلت "الوسط" من الدكتور ايلي سالم على حقوق نشر مذكراته هذه، على حلقات، في المجلة.
ويبلغ ايلي سالم من العمر اليوم 62 عاماً وهو نال شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من احدى جامعات الولايات المتحدة البارزة. وعمل سنوات طويلة في الجامعة الاميركية في بيروت وكان ابرز منصبين تسلمهما، قبل ان يتم تعيينه نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للخارجية، هما: منصب رئيس دائرة العلوم السياسية والادارية في الجامعة الاميركية 1972 - 1974 وعميد كلية الآداب والعلوم 1974 - 1982. له مؤلفات سياسية وتاريخية عدة نشرت في لبنان والولايات المتحدة.
وفي ما يأتي الحلقة الأولى من مذكرات ايلي سالم:
في السابع من حزيران يونيو عام 1982، وبينما كنت في زاوية آمنة من شقتنا في بيروت، اصابت قذيفة اطلقتها سفينة اسرائيلية غرفة الجلوس فأحدثت اضراراً وتركت وراءها ثقباً كبيراً في الجدار. إرتميت على الأرض من قوة الانفجار وأنا في حال ضياع. وحاولت الزحف الى مكان اكثر أماناً، فاتجهت الى مرصد الجامعة الاميركية الذي يبعد امتاراً عن بيتنا، ووصلت اليه تحت وابل من الرصاص والشظايا المتفجرة، فيما كان يشوبني مزيج من الخوف والشجاعة والقلق وعدم الاكتراث.
حصل هذا في اليوم الثاني للاجتياح الاسرائيلي للبنان. أروي هذه الواقعة لا لأنها فريدة، بل لأنها شيء عادي وروتيني في حياة الشعب اللبناني خلال حربه الطويلة حيث اصبح العنف والارهاب رديفين لحياتنا اليومية. وتكررت حادثة 7 حزيران يونيو معي شخصياً بدرجات مختلفة من الخطر، في بيتي في بعبدا وفي مكتبي في حرم الجامعة أو في مقر الحكومة وفي الطريق وفي الجو اثناء رحلات الهليكوبتر المحفوفة بالخطر التي كنت اضطر للقيام بها في مهماتي الرسمية.
وضعت هذا الكتاب لأنني شعرت بأن ذلك ضروري. لقد عشت الحرب اللبنانية في مراحلها المختلفة، وتابعت تطورات الاوضاع في وطني من موقعي داخل الحكم حين شغلت، لمدة 6 سنوات وطوال عهد الرئيس أمين الجميل 1982 - 1988 منصبي نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية ومستشار الرئيس للشؤون السياسية. اكتب كشاهد على مصير دولة صغيرة وقعت ضحية تصادم القوى في المنطقة، ومصير نظام ليبرالي ديموقراطي يكافح في مواجهة عوامل تريد تغييره او القضاء عليه. اكتب كشاهد على الاهمال واللامبالاة التي يمكن ان يعاني منها الضعيف في عالم الاقوياء.
اطلقت تسميات عدة على ما حدث في لبنان منذ اندلاع الحرب عام 1975: حرب اهلية، حرب داخلية، ازمة، نزاع، الاحداث أو فقط الحرب. لكن ما حدث في لبنان كان كل هذه الامور مجتمعة فما حدث لم يكن حرباً أهلية فقط لأن القوى الاقليمية كانت متورطة فيه بعمق، ولم يكن حرباً داخلية لأن الكثير من القتال وقع على الحدود اللبنانية - الاسرائيلية. وبالتأكيد فان ما حدث كان اكثر دموية من أي نزاع أو أزمة. الحرب في لبنان كانت نتيجة عوامل عدة داخلية وإقليمية وعالمية، ولم تستطع الطبقة السياسية اللبنانية تحمل الضغوطات التي واجهت النظام. وعلى رغم اننا كلبنانيين برعنا في المشاريع الخاصة، لكننا فشلنا في بناء دولة قوية وعرّضنا لبنان بالتالي الى نزاعات عنيفة ادت الى انهياره. ويعكس النزاع اللبناني، بوضوح، فشل القيادة السياسية. لقد فشلت الطبقة الحاكمة في بناء دولة قوية وتحقيق صيغة وفاق وطني وتحديد هوية واضحة للبلاد، اضافة الى عدم تسويتها المطالب المشروعة لبعض المواطنين في الوقت المناسب. وسيطرت الروح التجارية والفردية المبالغ فيها على المجتمع. ولم يعد الفساد ومحاباة الاقارب من الرذائل بل صارا القاعدة في التصرف السياسي. لذلك لم يتوقع الشعب الكثير من الدولة التي اكتفت بدورها بتأمين الحد الادنى، تاركة العنان "للعبقرية اللبنانية" التجارية التي كانت مسؤولة الى حد كبير عن الازدهار الذي شهدته البلاد قبل انهيارها. أما الحرية التي كانت شعارنا وسمتنا فقد لعبت دوراً كبيراً في سقوطنا. والحرية، مثل كل القيم السياسية، يمكن افسادها واستغلالها بالافراط والمبالغة. وفي حال لبنان وصلت الحرية الى حد الفوضى لأنها كانت تفتقد الى الضوابط التي تتماشى مع الفكر الخلاّق. وغالباً ما يلجأ الذين يخشون الحرية الى استغلال الحريات في دولة مجاورة لنشر افكارهم وتقويض افكار الآخرين. لذلك أصبح بعض صحافة لبنان الحرة مأجوراً لعدد من الانظمة التي كانت تناضل عقائدياً للسيطرة على الاتجاهات السياسية في العالم العربي. وفي غياب تركيز الاهتمام الوطني على القضايا الاساسية ونتيجة فقدان القاعدة الاخلاقية المرشدة، انحدرت الحرية وأصبحت جلبة مدوية ساهمت في اضعاف سلطة الدولة.
مشكلة الفلسطينيين
إن لبنان مجتمع قديم، لكنه دولة جديدة نسبياً مثل بقية الدول التي قامت على انقاض الامبراطورية العثمانية. كما انه يتميز بتركيبة اجتماعية وطائفية تعددية. وأدت فلسفة عدم التدخل التي اعتمدها النظام اللبناني الى غياب سياسة بناء الدولة، ولذلك سمح للهوية اللبنانية بالانجراف بين هويات متنافسة اخرى. وشعر المسيحي بأنه لبناني، لكن ضمن لبنان مبني على صورة المسيحي واتجاهه الغربي. وشعر المسلم السني بأنه لبناني لكن ضمن لبنان لا يتجزأ سياسياً عن المدّ السني العربي في افريقيا وآسيا. وأحس المسلم الشيعي انه لبناني محروم ومهمل من الدولة، وبالتالي اراد ان يصبح لبنان مرتبطاً مع ايران الثورية. وأما الدرزي فأحس انه لبناني ولكنه غضب من حرمانه من القيادة نتيجة صيغة سياسية أعطت الافضلية للماروني والسني. وظل لبنان قادراً على المحافظة على نظامه الديموقراطي الليبرالي حتى العام 1975، ولكن هذا النظام كان ضعيفاً جداً ومرتبطاً بالمصالح التجارية الخاصة اضافة الى اتباعه سياسة عدم التدخل الى حد المغالاة. ولذلك فشل في التكيف مع مد الاحداث الذي نتج عن قيام اسرائيل في قلب العالم العربي وفي المنطقة التي تربط العرب الآسيويين بالعرب الأفارقة.
لم تشكل قضية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان مشكلة مهمة الا في اواخر الستينات عندما تحول اللاجئون الى مقاتلين يحملون السلاح ضمن تنظيمات عسكرية بدأت تؤكد قوتها داخل البلاد. ولذلك صار بعض اللبنانيين ينظرون الى اللاجئين كمصدر تهديد للتوازن السياسي والديموغرافي القائم، خصوصاً ان غالبيتهم من المسلمين. وأعطى ضعف النظام السياسي اللبناني، بقاعدته الطائفية ونزعته الى عدم التدخل، الفرصة للفلسطينيين لفرض انفسهم، وهذا أمر لم يتوفر لهم في أي مكان آخر من العالم العربي. واستغل الفلسطينيون المسلمين اللبنانيين للحصول على قاعدة سياسية وعسكرية في لبنان، واستعمل المسلمون اللبنانيون الفلسطينيين كورقة ضغط على المسيحيين للحصول على دور اكبر في عملية صناعة القرار اللبناني.
وخاف المسيحيون على التوازن اللبناني الهش في خضم التطورات الجذرية في المنطقة، ولكنهم لم يلجأوا الى الدولة التي كانت تصاب بالشلل امام التحديات السياسية الكبرى. وحاولوا الحصول على دعم خارجي مهما كان مصدره، حتى من اسرائيل. وبدأت منظمة التحرير الفلسطينية تشن غارات على المستوطنات الاسرائيلية في الجليل من قواعد في جنوب لبنان، بعد موافقة الدولة اللبنانية على السماح للمنظمة بذلك في اطار اتفاق القاهرة عام 1969. وكان لبنان الضعيف الدولة العربية الوحيدة التي أعطت المنظمة هذا الحق، بينما وضعت الدول العربية الاخرى قيوداً على نشاطها وحدّت من تحركاتها وبالتالي أمنت لنفسها السلام على حدودها مع اسرائيل.
وأدى تساهل لبنان مع منظمة التحرير الفلسطينية الى تعرضه لاعتداءات اسرائيلية من البر والبحر والجو سببت الموت والدمار وتهجير السكان اللبنانيين من الجنوب. وبلغت هذه الاعتداءات ذروتها حين قامت اسرائيل بغزو لبنان عام 1982.
لكن لا بد من الاعتراف بأن أحد العوامل المهمة التي ساعدت على انفجار الحرب هو ان المسيحيين والمسلمين كانت لديهم مخاوف تجاه نيات بعضهم البعض، لكن لم يحاول اي فريق منهم مواجهتها ومعالجتها بصراحة وفي اطار حوار جدي. وأدى هذا الوضع الى سوء تفاهم عميق بين المسلمين والمسيحيين ساهم في تفجير الحرب.
حصل المسيحيون في لبنان على حقوق وحريات لا يتمتع بها مسيحيون آخرون في الدول العربية. وعلى رغم ان الحرب شكلت خطراً على جميع الطوائف اللبنانية، لكن المسيحيين كانوا اكثر احساساً من غيرهم بأن وجودهم بات مهدداً، خصوصاً الموارنة منهم.
وكان السكان الشيعة في جنوب لبنان الضحية المباشرة والفورية للصراع بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل. وشاهد الشيعة قراهم تتهدم ومحاصيلهم الزراعية تحترق ومنازلهم تدمر نتيجة للغارات الجوية الاسرائيلية. ودفعتهم سياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها اسرائيل الى النزوح الى ضاحية بيروت الجنوبية. كانوا فقراء ومهملين من الدولة فتحولوا، كما تحول الفلسطينيون قبلهم، من قرويين مسالمين الى حزبيين مسلحين. وقاد ظهورهم على الساحة السياسية اللبنانية رجل دين هو الامام موسى الصدر الذي اسس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى وذراعه العسكرية السياسية، "حركة أمل"، التي يقودها السيد نبيه بري الآن. وقد اختفى الصدر في ظروف غامضة خلال زيارة لليبيا.
ويشعر الشيعة اللبنانيون انهم لا يدينون للدولة بأي شيء. وهم متأكدون من انهم اكبر الطوائف، ومع ذلك يشعرون انهم لا يشاركون في عملية صنع القرار السياسي اللبناني. وتريد "أمل" اصلاح النظام جذرياً، وأما "حزب الله" فيرغب في اعادة تشكيله من جديد على نموذج اسلامي. وقد حارب الشيعة جنباً الى جنب مع الفلسطينيين في البداية لكن عندما لاحظوا ان سياستهم هذه تؤدي الى تدمير منازلهم وقراهم حاربوا كلا من اسرائيل ومنظمة التحرير لأنهما كانتا القوتين اللتين نازعتهم على حقهم في تقرير مصيرهم في جنوب لبنان.
وفي مواجهة ما اعتبروه تطويقاً اسلامياً يهدد الوجود المسيحي في لبنان والشرق العربي، مدّ قسم كبير من المسيحيين اللبنانيين المنضوين تحت لواء "الجبهة اللبنانية" يده الى اسرائيل التي كانت سعيدة جداً بذلك. وكما كان تشرشل اثناء الحرب العالمية الثانية مستعداً للتعامل مع الشيطان لتحرير بلاده، قرر أركان "الجبهة اللبنانية" التعامل مع أي كان، حتى اسرائيل، "لحماية لبنان والابقاء علىه كما يريدون". لكن هذا لم يكن قراراً سهلاً، اذ ان علاقة "الجبهة اللبنانية" باسرائيل كانت تتحدى التاريخ وتناقضه. فالموارنة كانوا دائماً، ولو بدرجات مختلفة، مرتبطين بالعالم العربي، حتى لو اختلفوا مع غيرهم احياناً على تفسير فحوى العروبة، وكان المفكرون الموارنة من الذين اطلقوا الفكرة العربية وروجوا لها.
لقاء مع بشير الجميل
وفي الحرب، برز بشير الجميل. ويقال ان الحرب تصنع الابطال ثم تستهلكهم، ولعل هذا المثل ينطبق على بشير نجل زعيم الكتائب بيار الجميل وشقيق أمين. سيطر بشير على ميليشيا حزب الكتائب ووسعها لتضم ميليشيات مسيحية أصغر ووحّدها تحت اسم "القوات اللبنانية". واعتمد بشير على الاسرائيليين، وكانت اسرائيل تأمل في استعماله لضرب منظمة التحرير الفلسطينية، بينما كان بشير ينوي استغلال اسرائيل للوصول الى الرئاسة. وبدأ بشير يخطط لهذا الهدف منذ عام 1981.
وفي ربيع عام 1982، تلقيت دعوة من معهد "اميركان انتربرايز" للتخطيط والدراسات في واشنطن للتحدث عن لبنان. وغضب بشير مني لأنه لم يرد ان يذهب احد الى واشنطن من دون التنسيق معه مسبقاً وتبني مواقفه هناك لأنه كان يعتبر الولايات المتحدة "منطقة نفوذ" له. ووجه بشير رسالة واضحة وقوية اليّ في هذا الصدد. ولم يجرؤ وقتذاك أي مسيحي لديه اقرباء في المناطق المسيحية الواقعة تحت سلطة بشير على تجاهل أي رسالة تصدر عنه لأنه كان معروفاً بأنه قاس لا يرحم.
وأذكر لقائي مع بشير عام 1976 خلال مأدبة عشاء في منزل شارل مالك. بدا لي هادئاً وخجولاً لكنه إنفعالي في الوقت نفسه، وكان مالك المعروف بعجرفته وغروره يخاطبه وكأنه القائد المخلص للطوائف المسيحية مما ترك لدي انطباعاً قوياً، خصوصاً ان بشير كان صغير السن آنذاك. وتربطني صلة قرابة بعيدة بمالك لأننا من بلدة بطرام في شمال لبنان، وكان له تأثير فكري كبير عليّ على رغم اننا اختلفنا سياسياً الى حد كبير. كنا نتفق على المسائل الأساسية مثل أهمية لبنان والوجود المسيحي في الشرق، لكننا اختلفنا على التفاصيل والنهج. اذ نشر مالك الايمان المسيحي وأظهر اهتماماً قليلاً بالاسلام، وكان يمجد التراث الاغريقي - الروماني المسيحي ويخفف من اهمية الدور العربي في استمرار الحضارة. وتتلمذ بشير على يد مالك وتبنى افكاره كلها. اما انا فكانت لي خلفية مختلفة تماماً. اذ درست الاسلام في الجامعة وكتبت مطولاً في هذا الحقل. وأنا أقدر التراث العربي الثقافي الذي استمر نحو سبعة قرون ووصل الى أعلى درجات الشمولية في معظم حقول المعرفة. وعلى رغم ايماني القوي باستقلال لبنان وسيادته ونظامه الليبرالي الديموقراطي، الا انني لم اشك يوماً بأن لبنان بلد عربي ووريث تراث عربي كبير. وكان اتجاهي قومياً وعلمانياً، اذ شعرت ان دور الكنيسة محدود وانه لا يمكن الاتكال على الولايات المتحدة، ليس لنقص في نياتها الخيرة ولكن لأنها قوة عظمى تراعي مصالحها التي لا تتفق دائماً مع مصلحة لبنان.
شعرت بالقلق من الرسالة التي وجهها الي بشير واطلعت الدكتور جورج فريحة، احد اصدقائي في الجامعة الاميركية في بيروت وصديق حميم لبشير، على الامر. واقترح علي ان نجتمع خلال مأدبة غداء في بيته. ووصلت في الوقت المتفق عليه ولكن بشير وصل متأخراً صافحني بقوة، في اشارة واضحة الى سلطته. وحدق في وجهي وقال: "لنبدأ في عملنا. انت ذاهب الى واشنطن وهذه العاصمة مهمة بالنسبة الي لاني سأرشح نفسي للرئاسة". وسألته: "الآن او بعد ست سنوات؟". فأجاب: "الآن او ابداً". وكان ذلك بمثابة صدمة لي. فبشير مقاتل حزبي شاب يداه ملطختان بالدماء يخافه ويشك به المسلمون وهو ليس محل ثقة في العالم العربي، وعلى رغم ذلك فهو يعتقد ان انتخابه ممكن. ولم يكن هناك ادنى قدر من الشك في تصميمه. وتابع كلامه مظهراً ضيقه من مقاطعتي اياه، وقال: "ان معهد "اميركان انتربرايز" منتدى مهم بالنسبة الي، ولذلك يجب ان يعكس خطابك آرائي كاملة، وإلا لن تذهب". واستمر في الكلام مطولاً، فبشير لا يتكلم فقط بل يحاضر.
وشرد ذهني بينما كان بشير يتكلم، فأنا بروفسور منذ نحو ثلاثين سنة، وهذا الشاب يمكن ان يكون تلميذي. وهو يزعجني في الحديث عن السياسة وهي موضوع معروف بالنسبة لي. وكان يطلب مني ان اتبنى افكاره، ولكني شعرت ان هذه الافكار ليست واضحة تماماً وان خبرته محدودة، وان فلسفته العامة خطرة لانها تستند الى عاطفة وترتكز على الانفعال. وقاطعته مرة اخرى مما اثار الرعب في نفس مضيفنا، وقلت، بين المزاح والجد وهذا تكتيك مدروس، "انا اكبر منك بعشرين سنة، وانا بروفسور ومهمتي التعليم والكتابة ان اعكس بعقلانية كل القضايا التي تثيرها، ولقد قرأت كل تصاريح حزبك في شأن لبنان وانا موافق على بعضها واختلف على الباقي. انا ملتزم بلبنان تماماً، وفي حال اختلاف الرأي بيني وبينك اتوقع ان تتبنى افكاري وليس العكس". وقلت عبارتي الاخيرة في اسلوب اكثر مزاحاً. وعندها حذرني فريحة من الاستمرار في كلامي بحركة خفية من رجله من تحت الطاولة، ولكن بشير وقف وعانقني، واندهش فريحة كما دهشت انا ايضاً لذلك. وقال بشير: "انت محق في كلامك، افعل ما تريد، انت صديقي". وأصبحنا اصدقاء، على رغم الاختلاف الجذري في المواقف.
هدّد سامي مارون بالقتل
كنت اخاطر في العبور من طرف المدينة الى الطرف الآخر لرؤية بشير، اذ كان لقاؤه في بيروت الغربية، حيث اسكن، امراً مستحيلاً، ولكني شعرت انه من المهم ان احاول التأثير على هذا الشاب القوي كي ينظر الى لبنان نظرة شاملة لا ضيقة أو محدودة. ان يرى بشير المنطقة بطريقة موضوعية وليس من خلال نظرة طائفية ضيقة. وكسبت احترام بشير لاني كنت أسمعه كلاماً لم يعتد عليه.
طوال عشر سنوات تقريباً سمع هذا الشاب صوتاً واحداً فقط ورواية واحدة ربما تصلح لقائد ميليشيا. لكن بشير يطمح الآن للوصول الى الرئاسة. كان لدى بشير فريق من الشبان المخلصين يعملون في سبيل ايصاله الى رئاسة الجمهورية، وتميز اعضاء هذا الفريق بالدهاء، وكانوا مدربين على استخدام اية وسيلة للوصول الى غايتهم. وقدم هذا الفريق بشير الى الناس على انه بطل مخلص ومصلح ومحرر للبلاد. وأصغى المسيحيون الى خطاباته المتفائلة، ذات النبرة العالية التي هاجمت كل الذين يهددون لبنان، واما المسلمون فكانوا يستمعون الى هذه الخطابات سراً. وتحدى بشير كل العادات والتقاليد المألوفة، وبدا صادقاً وبسيطاً. وأظهر استعداده لقبول التحدي لتحرير لبنان حتى آخر شبر من الپ10.452 كلم مربع، وهو الشعار الذي اطلقه.
وقامت علاقاتي مع بشير على اسس مهزوزة، اذ اختلفنا في شأن سورية واسرائيل والولايات المتحدة والاصلاحات السياسية الداخلية، وفي الواقع اختلفنا على كل شيء تقريباً. ولكن هناك شيئين اعجبت بهما: الاول، موقف بشير الصارم المعادي للفساد في الدولة. والثاني، اسلوبه او بعض جوانب شخصيته. لقد اعجبت بإيمان بشير بلبنان وعاطفته وقدرته على التعبير عن نفسه بكلمات بسيطة تصل الى الناس بسهولة. كان بشير يتحرك بسرعة، ويركض عوضاً عن المشي، ودائماً في عجلة من امره وكأنه يعرف ان لديه وقتاً محدوداً. اضافة الى ذلك، كان هناك جانب مظلم في شخصيته. كان قاسياً لا يرحم. لم يتحمل بشير اي معارضة او منافسة، ولم يسمح لأي شخص ان يؤسس قاعدة مستقلة عنه او ان يعتنق افكاراً لا تتفق مع افكاره. واخبرني سامي مارون، رجل الاعمال واحد اصدقاء امين الجميل، انه دعا بشير ذات مساء لتناول العشاء لكسب صداقته. وسارت الامور على ما يرام لكن عندما ودعه بشير حدق طوىلاً في عينيه وقال له: "اذا بقيت على صداقتك لشقيقي امين ودعمك له ستجد نفسك في صندوق سيارتك". وفي لغة الحرب هذا يعني ان سامي سيقتل وتلقى جثته في مكان ما. وبشير لم يكن فريداً في قسوته، ولكنه كان الوحيد بين رجال الميليشيات الذي سعى للوصول الى الرئاسة. ومن هنا يجب استخدام معايير مختلفة للحكم عليه.
قواعد لأميركا
تطورت علاقة بشير الجميل مع اسرائيل تلقائياً نتيجة قرار "الجبهة اللبنانية" التحالف مع اي طرف لانجاح سياستها. وكان بشير مقتنعاً بأن تحالف منظمة التحرير مع "الحركة الوطنية" التي قادها كمال جنبلاط سيدمر لبنان، مما يعني زوال المسيحيين. لذلك اعتبر ان تحالفه مع اسرائيل هو لابقاء المسيحيين. وكان يهدف الى استعمال اسرائيل لهذا الغرض ثم الاستغناء عنها. والحديث عن اسرائيل بموضوعية او التحالف معها كان شيئاً جديداً بالنسبة الي. لقد تعرفت على السياسة من خلال المسألة الفلسطينية او "القضية" كما كنا نسميها في اواخر الاربعينات. وهناك اصدقاء ورفاق لي أسسوا حركات راديكالية عربية وكانوا انقلابيين ثوريين في عملهم السياسي الموجه ضد اسرائيل، لذلك اعتبرت ان ادخال اسرائيل في السياسة اللبنانية هو شيء خطير من شأنه ان يزيد المشكلة تعقيداً ويهدد وجود لبنان الهش الذي كان معلقاً في الميزان بين دولة شكلية ذات دستور ومجموعة دويلات طائفية تحت حكم الميليشيات.
واتخذ بشير وغالبية قادة "الجبهة" من بعده موقفاً ايديولوجياً معادياً لسورية لكني كنت اعتقد ولا أزال ان الخلاف مع سورية خراب للبنان والاتفاق معها ضرورة وطنية ملحة ويمكن التعامل مع سورية سياسياً او ايديولوجياً، وهناك لغة خاصة يجب استعمالها معها. وتبقى سورية دولة عربية ولنا معها حدود مشتركة. واذا لم تكن سورية صديقة لبنان فمصير لبنان بخطر اذ ان استقرار لبنان يعتمد على التفاهم العميق مع سورية.
اما عن الولايات المتحدة فقد شعرت بأن بشير ذهب بعيداً في علاقاته معها ولسبب ما وقع هذا الشاب في غرام الولايات المتحدة، والحب اعمى. وخلال استعماله اسرائيل لطرد منظمة التحرير من لبنان حاول بشير استمالة اميركا بوعدها بمنحها قواعد بحرية في لبنان كي تقف الى جانبه. وكان ذلك، في رأيي، موقفاً خطراً، لان لبنان المتنوع اجتماعياً وسياسياً لا يمكن ان يربط بدولة عظمى ويقع في حبائلها.
وعن الوضع الداخلي ومسألة الاصلاحات الشائكة، قدم بشير شخصه وقيادته وسلامه الى الشعب باسلوب نابوليوني. وربما كانت لديه خطط لتهدئة البلاد بواسطة جيش قوي يخضع لقيادته، ولكن افكاره عن الاصلاح السياسي والمشاركة كانت بدائية متقلبة لا اساس موضوعياً لها.
وخلال المناقشات الطويلة في شأن هذه المواضيع وغيرها التي كانت تتم غالباً في حضور الكاتب والصحافي جوزيف ابو خليل الذي كان مستشاراً لبشير ولوالده بيار الجميل، كان بشير يبدأ حديثه باتخاذ موقف متطرف يهدف الى الصدمة والمواجهة. ولكنه كان ينتهي بقبول موقف عقلاني الى درجة انني اقتنعت، أو أقنعت نفسي، بأن ما يقوله بشير يختلف تماماً عما يفعله.
"لن يخرجوا أحياء"
قبل موعد الانتخابات بأيام قليلة سألت بشير الجميل: "ماذا تفعل اذا اجتمع النواب وانتخبوا شخصاً آخر سواك رئيساً للجمهورية؟". فأجاب ببرودة، وفي يده هراوة يحملها غالباً للتأكيد على سلطته: "لن يخرجوا من المجلس احياء". وسألته مرة اخرى: "ماذا لو اجتمعوا ورفضوا الاقتراع؟". وكان جوابه: "يبقون هناك بلا طعام او ماء حتى ينتخبوني".
وتم انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية في 23 آب اغسطس 1982 واستطاع تأمين حضور 62 نائباً بالاقناع أو القوة، وهو العدد المطلوب، فصوّت 57 منهم لمصلحة بشير وامتنع خمسة نواب عن التصويت.
وكان الاسرائيليون سعداء، اذ وعدهم بشير بما يرضيهم، واصبح في وسعه الآن الوفاء بوعده. ولكنهم علموا لاحقاً ان هذا الشاب خدع ثعالب السياسة الاسرائيلية، بمن فيهم مناحيم بيغن رئيس الوزراء وآرييل شارون وزير الدفاع. لقد اراد بيغن توقيع اتفاق سلام مع لبنان، لكن بشير اجابه خلال اللقاء معه في ايلول سبتمبر 1992: "ليس في وسعي فعل ذلك فأنا رئيس دولة غير متجانسة ويجب عليّ ابقاءها موحدة. واي قرار من هذا النوع يحتاج الى موافقة رئيس الوزراء المسلم السني اضافة الى البرلمان". ولم يصدق بيغن ما سمعته اذناه، وصمت شارون صمتاً تاماً.
وتحوّل بشير الحزبي الى رجل دولة بعد الانتخابات. والتقى به بعض السياسيين المسلمين البارزين الذين كانوا يعارضونه ووجدوه مقبولاً واعتبروه قد تغيّر. وطلبوا منه اشياء كانوا يعرفون مسبقاً انه سيعارضها، لكنهم دهشوا عندما وافق على مطالبهم ووعدهم بالتعاون الكامل معهم. وربما ان بشير كان يخدع من حوله لانه كان محتاجاً الى توسيع وتوطيد قاعدة سلطته، لكن ذلك يظل في علم الغيب. وتجمع الصحافيون الاجانب حوله، اذ شدهم صعوده السريع وكانوا ينتظرون معرفة مواقفه في شأن القضايا المعقدة في بلده المعذب. ووافق بشير على إجراء مقابلة خاصة مع إحدى محطات التلفزيون الاميركية الكبيرة وطلب مني أن أكون الى جانبه. قال لي انه يود الكلام بحرية، وان عليّ اختيار النقاط التي يجب حذفها او تغييرها قبل اذاعة التسجيل. وبعد انتهاء المقابلة سألني بشير اذا كان هناك اشياء غير مقبولة وأجبته بأن لدي 18 ملاحظة. وكان رده: "حسنا، دعنا نبدأ مناقشتها". وقلت له: "اولاً، ان هجومك على سورية ليس مفيداً، لا بل فيه ضرر وخطر على الوطن، وكرئيس للجمهورية فانت ستتعامل مع سورية لذلك يجب ان توطد صداقتك معها لا ان تنفرها منك". وأجاب بشير: "حسناً، احذفها من المقابلة". واكملت كلامي: "ثانياً، ان ملاحظاتك المتسرعة في شأن مسلمي لبنان مضرة، فأنت الرئيس الآن وهم مواطنوك ولديهم مشاكلهم الخاصة. ومن الضروري تفهم هذه المشاكل والتأكيد للمسلمين انك ستتعامل معهم بعدل وانصاف". ووافق بشير على حذف هذه المقاطع من حديثه، وناقشنا كل الملاحظات عدا الملاحظة الاخيرة في حضور فريق التلفزيون وبعض مرافقي بشير. ولكن بشير رفع اصبعه في حضور فريق التلفزيون في ما يشبه الجد وقال لي: "مهما كانت ملاحظتك الاخيرة، وحتى لو سببت اعلان حرب، فستبقى ضمن المقابلة ولن احذفها". وقلت له "حسناً، ستبقى"، وهكذا كان. ولا تحضرني الآن فحوى تلك الملاحظة ولكنني لن أنسى ابداً قبول بشير الانتقادات التي وجهتها اليه. وليس في وسعي الحكم اذا كانت ليونته هذه من الاشياء التي كانت ستفيده لاحقاً او لا.
وفي 14 ايلول سبتمبر 1982، وبينما كان بشير مجتمعاً بمجموعة من انصاره في احدى مكاتب الحزب في بيروت الشرقية، انفجرت قنبلة في المبنى وأدت الى مقتل عشرين شخصاً من اصدقائه. وكانت هذه نهاية لغز من الغاز الحرب والميليشيات. وبعد موت بشير دخل الاسرائيليون و"القوات اللبنانية" من ورائهم الى عمق بيروت. وقامت وحدات من "القوات اللبنانية" تحت اشراف الاسرائيليين بارتكاب احدى اسوأ المجازر في تاريخ حرب لبنان الطويلة المدمرة داخل مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وهي مجزرة صبرا وشاتيلا.
تعهد أمين الجميل
عجلة السياسة لا يوقفها الموت بل تكمل مسيرها حتى ولو باتجاه مختلف وحتى في مأتم بشير بدأ التركيز على انتخاب خلف له. وكان من الطبيعي بسبب مراكز القوى الفاعلة على الارض في تلك الفترة ان يقع الاختيار على امين الابن الأكبر لبيار الجميل. وكان امين اقل تطرفاً من بشير. فهو نائب في البرلمان، معتدل وواقعي، ولديه اتصالات واسعة مع مسلمي لبنان وعلاقات قوية في العالم العربي. ولذلك كان امين الخيار المنطقي، وتم انتخابه في 21 ايلول سبتمبر 1982. وانعقد المجلس بإرادة اعضائه وليس تحت التهديد كما حدث في انتخاب بشير، وكانت نتيجة الانتخابات 77 صوتاً لمصلحة امين وثلاث اوراق بيضاء. وعلى رغم انني كنت اعرف الكثير عن امين، لكنني لم أحظ بمعرفته شخصياً وعندما اقترح علي جورج فريحة وسجعان قزي، وهما من اكثر المقربين من بشير، زيارة الرئيس الجديد قبلت دعوتهما بسرور. وكان امين يعيش في شقة في بكفيا واستقبلنا بمفرده وعانقنا بحرارة، وكانت تبدو عليه علامات التعب نتيجة الاحداث المتسارعة في الايام التي سبقت وتلت انتخابه. وكان قزي كتب خطاباً لبشير كي يلقيه عند ادائه القسم الدستوري، وكان فخوراً به واراد من امين ان يتبناه. لكن امين قرأ الخطاب بإيجاز وشكر قزي موضحاً ان الخطاب لا يعبر عن اسلوبه الشخصي، وبالتالي لا يصلح له. وخلال تلك الزيارة كان هناك شيء واحد في بالي: هذا رئيس بلد من اخطر البلدان في العالم، رئيس مهدد في بلد مهدد ولكن شقته كانت تقريباً بلا حراسة - ثلاثة او اربعة من المسلحين امام الشقة، بينما كان كل قائد ميليشيا يحيط نفسه بعشرات الحراس المدججين بالسلاح. وهناك ميليشيات عدة تحاول اغتيال امين بدعم من قوى خارجية في محاولة لتوسيع وتعميق الخلاف بين اللبنانيين. قلت للرئيس: "فخامة الرئيس، انت محتاج الى حراسة اكثر فعالية من هذه" وحدق في وجهي وقال: "ان الله فوقنا يا عزيزي ايلي". وكان هذا اول الحوارات العديدة التي جرت بيني وبين الرئيس امين الجميل خلال ست سنوات من العمل المكثف معه.
وأدى انتخاب بشير وامين لاحقاً الى ظهور وضع جديد في البلاد. اذ كانت هذه المرة الاولى التي ينتخب فيها عضو حزب عقائدي نظامي رئيساً للبنان. وعلى رغم ان بشارة الخوري كان رئيساً للحزب الدستوري، لكن ذلك الحزب كان تجمعاً لسياسيين، على عكس حزب الكتائب الذي كان حزباً عقائدياً يستند الى قاعدة شعبية. وهو في ذلك يشبه الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب التقدمي الاشتراكي والحزب الشيوعي اللبناني وحزب البعث. وكان رؤساء لبنان دائماً من السياسيين المستقلين نسبياً ولم يكونوا حزبيين مثل بشير وامين. وشكّل انتخاب بشير مشكلة كبيرة للمسلمين لانه قائد ميليشيا مسيحية يمينية اقامت علاقات مع اسرائيل. وجاء حلول امين مكان بشير كحل جزئي للمشكلة، ولكن امين كان شخصية بارزة في حزب الكتائب مما اثار المخاوف من قيامه بتعيين الكتائبيين في المراكز الحكومية الاساسية.
وعدت الى الجامعة الاميركية وبدأت التخطيط للسنة الاكاديمية الجديدة ولمجيء رئيس الجامعة الجديد، البروفسور مالكولم كير، احد زملائي ايام الدراسة في الولايات المتحدة الاميركية. وكنت منشغلاً تماماً كعميد لكلية الاداب والعلوم منذ العام 1974 ومهتماً بالمشكلات والنزاعات القائمة في حرم الجامعة بسبب الحرب والخلافات الايديولوجية الناتجة عنها. وكانت الجامعة في الماضي عالماً قائماً بذاته ودولة مصغرة، ولكنها تأثرت منذ العام 1975بمشاكل الوطن الجريح. وكان للميليشيات من يتعاطف معها بين الطلاب والاساتذة، وأدخل افرادها السلاح الى مهاجع الطلاب الداخليين. وبين الحين والآخر، كانت الميليشيات تدخل مجنزراتها ومدافعها الى الحرم الجامعي. وكنت امضي الكثير من وقتي في محاولات لاقناع الميليشيات بترك الجامعة وشأنها. ومرة كنت اتناول القهوة مع زملاء لي عندما رأيت احد المنشقين عن الجيش اللبناني يدخل الجامعة بدبابته ووراءه حاملة جنود ومدفع ميداني متوجهاً الى ملعب كرة القدم. وركضت من دون تفكير في اتجاهه، وكان الطلاب بدأوا بالتحلق حوله لارضاء فضولهم. وخرج الضابط الملتحي من دبابته وبدأ باعطاء اوامر في شأن تركيز المدفع. واندفعت نحوه وقبلت وجنتيه وشرحت له ضرورة الحفاظ على حياد حرم الجامعة وقدسيته. وطلبت منه سحب قواته ولكنه كان مقتنعاً، وأصر بعد جهد جهيد على اطلاق عشر قذائف باتجاه القطاع الشرقي من بيروت قبل ان ينسحب. وفي اليوم التالي هبطت طائرة مروحية تابعة للوحدة الفرنسية في قوات "اليونيفيل" العاملة في لبنان في ملعب كرة القدم نفسه مما اثار حشرية الطلاب والاساتذة. وهرعت مرة ثانية واقنعت الطيار الفرنسي وبلغة فرنسية من تأليفي وتلحيني ان يغادر فوراً ولا يعرض الجامعة لمخاطر اضافية.
وبعد رحيل الطيار الفرنسي وطائرته بساعات معدودة، رنّ التلفون في مكتبي، وتحدثت معي سيدة عرفت عن نفسها بأنها موظفة في السفارة الفرنسية في بيروت. وتكلمت معي بطلاقة المتكلمين بالفرنسية، وأهانتني لاني اجبرت الطيار على الرحيل واتهمتني بالاساءة الى العلاقات بين لبنان وفرنسا مهددة بسحب الجنود الفرنسيين من قوات "اليونيفيل" التابعة للامم المتحدة في لبنان. فلزمت الصمت، اذ لم اجد الكلمات بالفرنسية للتعبير عن نفسي. وفجأة انفجرت السيدة بالضحك وعرفت عن نفسها انها ايفيت، زوجة صديقي سمير تابت نائب رئيس الجامعة. الحرب اللبنانية لم تقتل النكتة عند اللبنانيين بل غذتها ووجدت فيها وسيلة للتعبير المرح عن الالم المتفشي.
تزداد الحروب حدة بعد حلول الظلام، وربما توجد صلة بين الظلام والميل الى العنف عند الانسان. وبيروت التي كانت غارقة في الدماء منذ العام 1975، كانت تزداد دموية وعنفاً وقصفاً بعد هبوط الليل، فترعد المدافع في الشوارع الداخلية الضيقة، وتلعلع اصوات المدافع الرشاشة، ومن حين الى آخر يبدأ المقاتلون بإطلاق النار في طرق مدروسة وبسرعات مختلفة وكأنها مدوزنة موسيقياً. وكانت ليلة السادس من تشرين الاول اكتوبر عام 1982 هادئة نسبياً. كنت اتناول العشاء مع اصدقاء لنا في شقتنا عندما رنّ الهاتف في العاشرة مساء. وكان الدكتور وديع حداد، احد زملائي السابقين في الجامعة الاميركية على الخط وابلغني انه في القصر الرئاسي في بعبدا وانه يعمل مع الرئيس الجميل. وسألني اذا كنت استطيع الحضور الى بعبدا فوراً لان الرئيس يرغب في التحدث معي. حاولت تأجيل الموعد حتى الصباح لاني لم اكن متحمساً للخروج وحدي في الليل وعبور الحواجز المختلفة. لكن حداد اصر على ان المسألة لا تحتمل التأجيل. فاستأذنت ضيوفي وقدت سيارتي في الشوارع الجانبية في محاولة لتجنب الحواجز، وعند وصولي الى القصر الجمهوري في بعبدا وجدت الرئيس الجميل وحداد يتمشيان امام مدخل القصر، وبدا الرئيس لي شاباً رقيقاً وصغيراً بعض الشيء في باحة القصر الواسعة والخالية، وكان مستغرقاً في التفكير والتأمل ويمشي وكأن عبئاً ضخماً ألقي على عاتقه. ولكنني شعرت ان ثقة داخلية دفينة تنبعث منه. حياني بحماس ومشينا سوياً لبعض الوقت ونحن نتحدث. وقال لي: "سألتقي غداً رئيس الوزراء المكلف شفيق الوزان لتشكيل الحكومة وأريدك ان تكون حاضراً خلال الاجتماع لاني اود ان تكون وزيراً للخارجية خلال سنوات عهدي الست، وبعدها تعين سفيراً للبنان في واشنطن". واجبته قائلا: "جوابي هو نعم اذا كان جوابك على سؤالي التالي هو لا. هل انت ملتزم بتوقيع معاهدة سلام مع اسرائيل؟". فأجاب الجميل: "قطعاً لا، وانت كما تعرف، اختلفت مع بشير على كل المسائل السياسية، وحتى بشير نفسه بعد انتخابه بدأ بالابتعاد عن اسرائيل". وقلت له: "حسناً، دعنا ننسى مسألة تعييني سفيراً في واشنطن لان طبعي لا يتفق مع المهام الديبلوماسية. وعندما اترك وزارة الخارجية سأعود الى عملي في الجامعة الاميركية في بيروت".
وبعد حوار عام استأذنته ورجعت الى البيت وانا اتساءل عن الاسباب التي دعت الرئيس الى عرض هذا المنصب علي. فالرجل لم يعرفني الا عند زيارتي القصيرة له قبل ايام معدودة لتهنئته. وعلى رغم اننا لم نلتق من قبل فقد كنت اعرف بعض الاشياء عنه، ولكني لم اكن متأكداً انه يعرف اي شيء عني. عدت واصوات المدافع ترافقني. كنت في السابق استمع اليها وانساها لانها لا تعنيني مباشرة، اما الآن فقد تغير كل شيء، صارت هذه الاصوات مسؤولية حكومة سأكون انا من اركانها. وعند وصولي الى شقتنا خرجت الى الشرفة ونظرت الى البحر الساكن الذي يبعد نحو خمسين متراً وتمعنت فيه. هذا البحر كان الفينيقيون يعتبرونه "بحيرة" لهم لا يسمح للرومان بعبوره الا باذن. هذا البحر بالنسبة الينا طريق واسعة توصلنا الى غرب افريقيا واوروبا والاميركيتين واوستراليا ونيوزلندة. وهو بحر ذو اتجاهين، يسلكه اللبنانيون للهجرة والعمل في الخارج ثم للعودة الى وطنهم حاملين معهم اموالاً وافكاراً واحلاماً جديدة حولت لبنان منذ اواخر القرن التاسع عشر الى بلد متقدم متحضر وجعلت منه نموذجاً فريداً في المنطقة.
والقيت نظرو الى الشرق حيث يتكىء جبل لبنان شامخاً فوق الشاطئ دافعاً مدنه وقراه الى حافة المياه. وبدت لي مئات من البلدات والقرى كحقل من الاضواء في نسيج الظلمة، تظهر وادعة راضية، ولكنها في الواقع منهكة بالحرب والاقتتال والتجزئة. لبنان احد اجمل بقاع الارض، فمناخه معتدل وفصوله واضحة المعالم وجغرافيته متنوعة كشعبه. لماذا كتب على هذه البقعة الفريدة في العالم هذا القدر القاسي من الالم والعذاب؟ وكيف يتفق هذا الجمال كله مع العنف الشديد الذي ينبع فيه؟ هل يمكن وقف دورة العنف هذه؟ وكيف السبيل الى ذلك؟ وأكملت الحوار مع نفسي: "قريباً ستصبح داخل اللعبة، ستقرر وتحاول التنفيذ، وستتوقف عن مراقبة الاوضاع من بعيد وعن الكتابة والقاء المحاضرات والعظات. هل يمكنك ان تقرر؟ هل يمكنك ان تنفذ؟ هل القرار لك؟ وهل الحكومة قادرة ام هي مجرد صوت خافت من اصوات اخرى ترتفع في المنطقة وفي العالم؟
الاسبوع المقبل
الحلقة الثانية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.