شمال العراق، او اقليم كردستان العراقي، هو، "أشبه ببلد مستقل" تحميه، عسكرياً وسياسياً، قوات التحالف الدولي وكذلك قرارات مجلس الامن الدولي، وتقوم فيه "حكومة كردية" و"برلمان كردي" و"سلطة كردية"، لكنه، في الوقت نفسه، "مرتبط" بنظام صدام حسين بعلاقات تقوم على الخوف والرهبة والتهديدات وذكريات القتل والتدمير والتهجير. وقبل ايام، فقط، هدد وزير الدفاع العراقي الفريق علي حسن المجيد بشن هجوم عسكري على منطقة الاكراد حين اعلن في مقابلة صحافية لمناسبة عيد الجيش: "ان الجيش العراقي على اهبة الاستعداد حالياً لاستعادة سيطرة الدولة على مناطق الشمال والجنوب". "اي شيء الا صدام حسين" هذا ما سمعته مندوبة "الوسط" ارواد اسبر، مراراً، خلال جولتها الواسعة التي قامت بها في مدن اقليم كردستان وقراه. وعادت ارواد اسبر من الجولة بتحقيق يكشف جوانب عدة غير معروفة عن هذا الجزء من العراق، الذي يتحدى صدام حسين ونظامه. وفي ما يأتي هذا التحقيق: الوضع الاقتصادي والسياسي هو الذي يطغى على المشهد العام في اقليم كردستان شمال العراق بل انه يُغيّب الكثير من المظاهر الثقافية المحلية، ويفرض نفسه على الزائرين. فشغل الناس الشاغل هو كيفية البقاء والاستمرار. يعيشون كل يوم بيومه. وطبعاً لا بد ان يتكلم أهل كردستان عن الاسباب التي ادت بهم الى هذه الحال، ولا مفر من الحديث عن الماضي القريب. اي شيء يعيدك اليه حتى السيارة الصغيرة التي تنقلت بها في كردستان العراق كانت نقلت دفعة واحدة 14 شخصاً من الهاربين الى ايران عام 1988. كردستان في حالة حرب، واذا هدأت الحرب، ينتقل الاقليم الى حالة استنفار. الحياة الاقتصادية مشلولة. وكذلك الحياة الثقافية. تبقى الاعراس، وهي الدليل على ان الحياة مستمرة، برغم كل شيء. تلك الاعراس الكردية التي لا تزال تتبع التقاليد الشعبية، تتشابك فيها ايدي الصبايا والشباب ويدبكون حتى الفجر. زيارة كردستان في شمال العراق ملأى بالمفاجآت. وللاقليم وجهان، وجه شبه طبيعي وأقل مأساوية مما تسمع عنه، ووجه مفجع. فقبل عبوري نهر دجلة من سورية الى الضفة "الاخرى"، على متن قارب صغير لا يحمل اكثر من ثلاثة ركاب، كنت اخشى الا يكون اقليم كردستان سوى سلسلة لا نهاية لها من مخيمات اللاجئين الذين تتوقف حياتهم على المساعدات الاجنبية. مخيمات منتشرة في مناطق جبلية وعرة، لا طرقات معبّدة فيها ولا مياه ولا حياة ولا كهرباء، مناطق لا بنى تحتية فيها والامراض والاوبئة تغطي المخيمات بأجنحتها السوداء. لكن الصورة اخذت تتبدل بعدما رأيت عند نقطة العبور عائلات كردية عائدة الى ديارها، ومعها بعض الاثاث المنزلي او الادوات الكهربائية المنزلية. تبدلت هذه الصورة ايضاً بعدما رأيت في كردستان مدناً واسواقها القديمة. رأيت "بلداً" له عاصمة وبرلمان وحكومة ووزارات بدأت تمسك شيئاً فشيئاً بزمام الامور. رأيت أسواقاً وفنادق ومطاعم يرتادها سكان الأقليم، وكذلك الاكراد الذين هاجروا الى اوروبا وغيرها. يرتادها ايضاً عراقيون عرب غادروا وطنهم منذ سنوات لاسباب سياسية، يأتون الى كردستان عبر سورية او تركيا كي يقتربوا من اهلهم وكي يتنسموا رائحة ارضهم. ذهبت الى اعراس عمّ فيها الفرح وتصاعدت فيها انغام الموسيقى مانعة الكلام، دافعة الجميع الى حلقة الدبكة. سرت في اسواق ودخلت دكاكين تشتري منها النساء والصبايا الاقمشة البراقة البهية الالوان التي يتميز بها الزي الكردي. هذه الاقمشة هي من صنع باكستان وجنوب شرقي آسيا، وقد يصل ثمن المتر الواحد منها الى 500 دينار! رأيت في شوارع اربيل - عاصمة كردستان - ودهوك والسليمانية رجال شرطة يفرضون النظام واحترام القانون في الشارع، ينظمون السير ويوقفون الباعة المتجولين في الاماكن المحظورة عليهم. وطبعاً لا تزال المناطق والطرقات بين المدن تحت سيطرة مسلحي الاحزاب، او البيشمركة وهي كلمة كردية تعني "الذي يواجه الموت". رأيت "الأسايش" او مركز الامن، بل زرته، مثل اي اجنبي لاعرف عن نفسي واحصل على اذن بالتجول بين المدن. عند نقطة العبور، على ضفاف النهر من جهة اقليم كردستان العراقي، كشك صغير يكاد يتسع لشخص ويرفرف عليه العلم الاصفر وهو علم الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يرئسه مسعود بارزاني. داخل الكشك جلس احد البيشمركة، يدون اسم كل شخص يدخل الى كردستان او يخرج منها، واسم الحزب الذي يكفله.الدخول او الخروج غير ممكن، للاكراد وغيرهم، من دون موافقة احد الاحزاب. فالوضع غير مستقر تماماً، وهناك خوف مستمر من دخول عناصر "مدسوسة"، قد تكون كردية، وتعمل لصالح نظام صدام حسين. خاصة ان هناك عدداً لا بأس به من الجنود العراقيين الذين يهربون من الجيش الى اقليم كردستان، على امل اللجوء السياسي الى بعض البلدان الغربية. وفي مركز الامن في اربيل رأيت بعيني - الاصح بطرف عيني - سجناً فيه موقوفون أخلّوا بالامن. رأيت شاباً "يأكل بهدلة" لانه كان يحمل سلاحاً من دون ترخيص، لان "السلطة" منعت حمل الاسلحة في المدن، خاصة في العاصمة اربيل، من دون ترخيص. طبعاً، التقيت المواطنين الاكراد، وكذلك العراقيين العرب المعارضين لبغداد. في شوارع مدن كردستان رأيت صحفاً تعبر عن وجهات نظر مختلفة ومعظمها بالكردية والبعض منها بالعربية. استمعت الى محطات اذاعية محلية عدة وشاهدت برامج تلفزيونية لثلاث محطات كردية. وغالباً، عندما تكون الامور هادئة يعبر سكان بغدادوكركوك والموصل الى إقليم كردستان، يأخذون - أو يقرأون- ما يشاؤون من صحف ويعودون بعدها الى ديارهم. والبعض كما سمعت يهرب الصحف والنشرات الحزبية الصادرة في كردستان الى بغداد وغيرها، ويبيعها، بعد نسخها مع فارق هائل في الاسعار. الحياة اليومية شبه طبيعية. فقد امنت الجبهة الكردستانية نوعاً من الادارة المحلية، اذ تمر الشاحنات وتجمع النفايات في شوارع المدن، والشبان يخروجون ليلاً الى المطاعم والمقاهي، يستمعون الى الموسيقى واغنيات ام كلثوم وفيروز التي تبث عبر مكبرات الصوت. واذا كنت ابديت دهشتي لانتشار الاغاني العربية فقد بدا الامر طبيعياً جداً بالنسبة للشبان الاكراد الذين رافقوني. بدأت الوزارات الاقليمية الكردستانية تنظم الحياة العامة. وتشكلت معظم الوزارات بعد ان تم انتخاب البرلمان في شهر ايار مايو 1992. وقد تم تشكيل 15 وزارة من الوزارات الضرورية. بعض هذه الوزارات كان لديها مؤسسات سابقاً امانة عامة او مديرية تابعة للحكومة تم تغيير اسمها الى وزارة وتطورت اداراتها والقسم الآخر من الوزارات بدأ من الصفر. فهناك وزارات لها ابنية ووزارات اخرى في مرحلة تشكيل الهيئة الادارية للوزارة. وكانت وزارة التربية خلال زيارتي للاقليم تفحص طلبات المرشحين للتعليم. شاهدت امام مبنى الوزارة حشداً كبيراً من الشبان ذوي الشهادات الجامعية، يأملون بتعيينهم كمعلمين، والبعض منهم ينتظر هذا التعيين منذ اكثر من ست سنوات. ويعتبر عدد من الاكراد الذين تحدثت اليهم ان الامر الاكثر الحاحاً الآن هو تقوية وزارة الداخلية، فكثير من الامور يعتمد عليها. جهاز الشرطة قائم، وكذلك دائرة الامن للحفاظ على امن المواطنين، لكن لا تزال هناك اجهزة اخرى ضرورية لممارسة وزارة الداخلية مسؤولياتها الطبيعية، لم تتكون بعد، والامر الملح الآخر هو تكوين وزارة العدل لان السلطة القانونية غائبة عن الكثير من المناطق والاقضية والنواحي. وقد تم تعيين المحافظين في المحافظات، وعما قريب سيعين قائمقامون ومدراء نواح للمناطق. على الصعيد الامني الوضع الداخلي غير مستقر تماماً. حوادث القتل والسرقة مستمرة خاصة بسبب الوضع الاقتصادي الضاغط. وقد بدأت الحكومة الكردستانية اتخاذ الاجراءات الضرورية للحد من هذه الظواهر السلبية. المحاكم لا تزال تعمل في كردستان في مقر لجنة حقوق الانسان الكردستانية في اربيل، سألت المسؤولين عن وجود سجناء من افراد تابعين لحكومة بغداد، فأتى الجواب ان هذا من اختصاص وزارة العدل، وان اللجنة لا تعلم بوجود مثل هؤلاء السجناء. ويقول المسؤولون عن اللجنة انه ليس هناك اي معتقل سياسي اليوم في كردستان. وتزور اللجنة السجون للتحقق من اوضاع المعتقلين المتهمين بالقتل او السرقة والتأكد من ظروفهم الصحية. ومن جهتها بذلت وزارة الصحة جهوداً كبيرة للسيطرة على بيع الادوية العشوائي. قيل لي ان الادوية التي ترسلها الجمعيات والمنظمات الخيرية والطبية يحول معظمها الى السوق السوداء او يباع لايران، لا سيما منها معدات المستشفيات. في سوق شيخ الله في اربيل كان هناك قسم خاص بعربات الادوية التي يبيعها من لا علاقة له بالتطبيب ويعطي النصائح بأخذ جرعات من هذا الدواء او ذاك. هذه الظاهرة اختفت من سوق شيخ الله على الاقل، لكن بعض المنظمات لا تزال تشكو من ان معظم المساعدات لا تصل الى اصحابها. ضغوط ومآسٍ لكن هناك الوجه الآخر، المفجع، لشمال العراق. على الصعيد الطبي والصحي، هناك نقص شديد في الادوية والمعدات الطبية. وفي بعض المناطق عدد قليل جداً وغير كاف من الاطباء: فهناك طبيب اسنان واحد بين اربيل والحدود الايرانية في اتجاه شقلاوة. في مستشفى مدينة شقلاوة يأتي المرضى بشراشفهم وطعامهم. طبعاً هذا ليس هو الجانب المأساوي. الا ان المستشفى غير قادر على اجراء عملية، وقالت لي الطبيبة المناوبة انه منذ فترة انتهت القفازات المعقمة، اما الابر، فكانت على وشك ان تنتهي، وليست هناك وسيلة للحصول على كميات جديدة منها. في المستشفى، كانت امرأة حامل تنزف وتصرخ من الالم. لكن ليس في المستشفى ما يخفف آلامها. وحالات الاسعاف التي لا يمكن معالجتها في شقلاوة ترسل الى مستشفى اربيل الذي يبعد مسافة ساعتين بالسيارة. الوضع الصحي العام رديء نتيجة الاخطاء المرتكبة سابقاً. ففي شقلاوة ايضاً، وهي مدينة اصطياف جبلية معتدلة المناخ، فيها كروم وبساتين فاكهة، ازداد منذ سنوات عدد المطاعم والمنتجعات. وكلها تصرف نفاياتها ومياهها المستعملة صرفاً غير مدروس وتلقي بها في الطبيعة، حتى ان المياه الجوفية في هذه المنطقة صارت ملوثة. فقد كانت المجارير من ابرز اسباب ظهور موجة شلل الاطفال عام 1988، هذا عدا الاوبئة التي باتت مستوطنة منذ فترة في المنطقة كالحمى المالطية والتهاب الكبد الفيروسي والكوليرا وغيرها من الامراض. غادرت مستشفى شقلاوة هرباً من صراخ طفل رضيع فيما الممرضة حاولت مراراً، وبلا جدوى، ان تبحث عن شريان نافر في جبهته كي تصنع له مصلاً. وكلما وخزته بالابرة، تصاعد صراخه وذرفت عيانه دموعاً تذوّب الصخر. وشكا الكثيرون من الذين التقيت بهم من ان اقل من نصف الادوية والمعونات التي ترسلها المنظمات الخيرية والصحية العالمية يصل الى المستوصفات والباقي يباع في السوق السوداء او يهرب الى الخارج. اما على الصعيد الاقتصادي، فالوضع رديء جداً وضاغط. والناس على حافة المجاعة، علماً ان الاراضي خصبة وقد تعطي ما يفوق حاجة المنطقة. واقليم كردستان العراقي خاضع لحصارين: فهو يتحمل نتائج الحصار الدولي على العراق، كما انه خاضع لحصار عراقي عليه. هذا يترجم عملياً بفقدان السلع والمواد الغذائية: الحليب ومشتقاته غائب، لا لحوم، لا قمح ولا خبز. واذا وجدت هذه السلع فإن اسعارها جنونية. وعلى سبيل المثال يساوي كيلو الشاي مئة دينار. وراتب المعلم 180 ديناراً تقريباً، فيما هناك اعداد كبيرة من الفلاحين وغيرهم لا يكسبون مئة دينار في الشهر. وقد يبدو الشاي بالنسبة الينا سلعة غير ضرورية، لكنه بالنسبة الى اهل العراق جميعاً اكثر من ضروري، وهو من صميم عاداتهم الغذائية وتقاليد الضيافة. فالاكراد شعب كريم مضياف، اذا دخلت بيت احدهم يقاسمك زاده، وان كان قليلاً. اما الرز، وهو اهم من الخبز، فقد ارتفعت اسعاره بشكل خيالي، وثمن الكيلوغرام الواحد يتعدى العشرة دنانير فيما كان الكيلو يساوي اقل من نصف دينار. كذلك هناك نقص في الطحين والزيت والسمن. والعائلات المهجرة تحصل على اقل من كيس طحين في الشهر توزعه عليها منظمات الاغاثة، لكن بشكل غير منتظم. في اربيل كنت اتحدث مساء، مع سيدة، وبعيداً عن اجواء الاوضاع الاجتماعية والسياسية العامة، دار الحديث حول بعض الطرق لتحضير اطباق الطعام. وفيما كنت اشرح لها طريقة طبخ معينة راحت تنظر الي وهي تضحك. فأدركت انه حتى هذا الكلام اليومي "السطحي" يعيدنا الى الواقع المؤلم: فمن اين تأتي بالجبن ومن اين تأتي بالكعك ومن اين تأتي بالسبانخ؟. الحركة الاقتصادية مشلولة تماماً، وهناك الكثيرون من العاطلين عن العمل، لا سيما بين الشباب المتخرجين من الجامعات، والذين ينتظرون الفرج بضجر كبير. وعندما سألتهم لماذا لا يلتحقون بالاحزاب؟ أجابوا: "نحن جميعاً بيشمركة. لكن عندما تهدأ الحرب نعود الى بيوتنا لنخفف قليلاً عن الاحزاب التي لا تستطيع أن تؤمن العيش للجميع". اما الاطفال فيحاولون بشتى الوسائل ان يكسبوا بضعة فلوس، يحمل احدهم خفاً ويعرض على الرجال ان يمسح أحذيتهم. اما الفتيات، فيأتين بأطباق كبيرة عليها الخيار المرشوش بالسماق ويبعنه ببضعة فلوس. "كل هذا من سردام" قيام حكومة كردستانية لم يؤد الى القضاء على نفوذ الاحزاب والتنظيمات والقوى المختلفة. فهناك نزاعات بين الاحزاب الكردية، وهناك تيارات متناقضة ومختلفة عن بعضها البعض. من اقصى اليسار الماركسي الى اقصى الاصولية الدينية. وقد ساهم نشاط حزب العمال الكردستاني في رفع اسعار السلع الغذائية خلال الاشهر الماضية بوضعه عقبات امام دخول الشاحنات التركية اذ كان يقطع الطريق على هذه الشاحنات الآتية من تركيا، ويمنعها من المرور. وهذه الشاحنات التركية هي، حتى اليوم، المصدر المالي الوحيد الذي تعتمد عليه حكومة كردستان العراق، اذ تدفع الرواتب من الضريبة الجمركية التي تفرضها على الشاحنات. وفي بعض الايام تمر اكثر من الف شاحنة في اليوم في الاتجاهين. وطبعاً، كل المصارف والبنوك مغلقة، والاموال مجمدة. اما صرف العملة فيقوم عن طريق السوق السوداء فقط، ولم تعد هذه التسمية مناسبة، لان عملية صرف العملة لا تتم سراً بل علناً، والعملة العراقية انخفضت كثيراً. لكن المشكلة الكبرى التي يواجهها السكان الآن هي ازمة الوقود. فليس هناك غاز ولا وقود آخر للاستعمال المنزلي، ولا بنزين للسيارات. والشتاء في هذه المناطق بارد قارس. بين نقطة العبور الى سورية ومدينة دهوك، ترى على الطريق خطاً متواصلاً من الشاحنات التركية يمتد كيلومترات. هذه الشاحنات تكسر الحصار المفروض على العراق، فتأتي من تركيا محملة بالمواد الغذائية وقد فاتت مدة بعض المواد، وتعبر من المنطقة الكردية الى كركوك وتعود محملة بالبنزين. ومن اجل ذلك، قام سائقو هذه الشاحنات برفع مستوى صندوق الشحن ووضعوا تحته خزانات من صفائح معدنية تصل الى مستوى الارض تقريباً، كي تعبأ بأكبر كمية ممكنة من البنزين يعودون بها الى تركيا. السلطات المحلية الكردية التي تفرض ضريبة جمركية على هذه الشاحنات تطالب احياناً بنسبة معينة من البنزين، لا سيما ان المنطقة الكردية تشكو من انعدام الوقود. وخلال زيارتي شاهدت النساء مع اطفالهن يتسلقن الجبال ويقطعن الحطب استعداداً للشتاء. ويحمل الصغار رزمات الحطب على ظهورهم في طريق العودة. رأيت مراراً نساء مسنات جالسات على جانب الطريق قرب رزمات كبيرة من الحطب، في انتظار مرور سيارة تقبل بنقلهن الى نقطة قريبة من القرية. وبرغم الارهاق والتعب، لا تفارق الابتسامة وجوههن التي أحرقتها الشمس. وترتسم الابتسامة العريضة بين خصلتي الشعر القصيرتين. ومن التقاليد الكردية ان تقص المرأة بعد سن معينة خصلتين قصيرتين من الشعر او سالفين. "كل هذا من سردام" قالت عجوز، و"سردام" هو صدام حسين. فالنقمة موجهة ضد رجل واحد هو الرئيس العراقي. وامتدحت العجوز الشبان البارزانيين، فهم وحدهم ينقلونها ورزمتها بسياراتهم المكشوفة. واعتدت على سماع مرافقتي تردد: "هنا كانت الاشجار تغطي هذه التلال، لكن لم يبق منها الكثير بسبب التحطيب. وهناك مخاوف من كارثة بيئية بسبب تقلص المساحات المشجرة". اما بالنسبة الى وقود السيارات، فيتم نقله سراً من الموصل او من كركوك الى سائر مدن كردستان. محطات الوقود توقفت نهائياً عن العمل في اقليم كردستان. ويبدو ان الاحزاب الكردية تحصل على كمية معينة من الوقود، فتحتفظ بقسم كبير منه لحاجاتها وتوزع القليل منه على جماعاتها، فيقوم هؤلاء ببيعه. وعندما تخرج في الصباح الباكر الى شوارع اربيل ترى على الارصفة شباناً واولاداً يقفون بجانب غالون وقود يبيعونه بأسعار تفوق اسعار بغداد بعشر مرات ان لم يكن اكثر. وأزمة الوقود سبب رئيسي في صعوبة الانتقال بين مدينة واخرى في كردستان العراق. فالمسافات بين المدن تضاعفت عدة مرات بسبب عدم امكان استخدام الطرق الرئيسية التي تمر بالموصل او بكركوك. فالمسافة بين دهوك واربيل لا تستغرق اكثر من ساعتين عبر طريق الموصل. لكن هذه الطريق هي تحت سيطرة حكومة بغداد. لذلك، تحول السير الى طريق جبلية غير معبدة في معظمها، وهي في الاساس طريق عسكري. وباتت المسافة بين دهوك واربيل تستغرق سبع ساعات. وعلى طول الطريق ترى القلاع العسكرية المحصنة على رؤوس الجبال، والتي وقعت في ايدي البيشمركة اثر الانتفاضة ربيع عام 1991. اما الجسور، فقد فجر معظمها نهر الزاب الكبير الذي يفصل بين منطقتي بهدنيان وسوران، ويفصل ايضاً بين اللهجتين الكرديتين، اللهجة السورانية او الكرمانجية الشمالية المحكية في شقلاوة واربيل والسليمانية، واللهجة البهدينانية، او كرمانجية جنوبية، وهي محكية في دهوك وزاخو وتركيا. ويجب قطع نهر الزاب على عبارات تتسع لسيارتين فقط. وتصل الحبال العبّارات بقاطرات تجرها من ضفاف النهر. اما على الطريق بين شقلاوة وإربيل، فقد انهار الجسر العسكري الجديد، وصارت السيارات تعبر من جديد على الجسر القديم المتين الذي بناه المستعمرون البريطانيون. عادوا للعيش في المعتقل الى جانب ازمة الوقود، هناك ازمة مياه. المياه تنقطع باستمرار في المدن، كما ان المياه المنزلية لا وجود لها في معظم القرى غالباً بسبب الدمار وتفجير البيوت. وليس غريباً ان ترى النساء يغسلن الصحون والثياب في السواقي او الاقنية في محاذاة الطريق، وليس غريباً ايضاً ان ترى الاطفال يستحمون في هذه الاقنية. في كردستان مياه كثيرة لكن هناك ضرورة لبناء السدود كي يستفيد منها السكان. ووفقاً لما قاله لي احد المطلعين، فقد قبلت سويسرا والامم المتحدة الافراج عن 20 مليون دولار من الاموال العراقية المجمدة لتنفيذ مشروع مائي كبير في المنطقة الكردية. لكن الحكومة العراقية رفضت ذلك. الكارثة الحقيقية في اقليم كردستان هي على الصعيد الانساني فهؤلاء الناس مستعدون لتحمل اي شيء، ما عدا التجربة الرهيبة التي عاشوها مع نظام صدام حسين. حيثما ذهبت في هذا الاقليم تصطدم بمخيمات للمهجرين، مهجرين من كركوك او مهجرين من مناطق اخرى. هناك المجمعات الحكومية العراقية التي نقلت اليها الحكومة العراقية الناس قسراً. اقتلعتهم من بيوتهم في قراهم، ودمرت القرى بأكملها وسجنت من سجنت وأخفت الكثيرين ونقلت من تبقى الى مجمعات بنيت خصيصاً لهذا الغرض وطوقت بالاسلاك الشائكة. ووفقاً لاحصاءات لجنة حقوق الانسان في اقليم كردستان، هناك أكثر من اربعة آلاف قرية أخلتها السلطات العراقية من سكانها وقامت بتدميرها. كما ان هناك اكثر من 182 الف شخص راحوا ضحية عمليات اخلاء القرى والاجلاء القسري للسكان اذ كان الجنود العراقيون يدخلون قرية، فيحشرون سكانها في باصات ويدمرون البيوت ويأخذون الناس الى السجن، يفصلون النساء والاطفال عن الرجال. وكل ولد بلغ الثانية عشرة يلحق بالرجال. ثم يقوم الجنود بالافراج عن النساء وقد يلحق بهن الرجال والاولاد، أو لا. احياناً، كانت عائلات بأكملها تختفي. وهناك لوائح بالمفقودين، معظمهم من الاطفال والرضع والشيوخ. وفي احسن الاحوال كان الجنود يأخذونهم الى مجمعات قسرية مسيجة بالاسلاك الشائكة. هناك ايضاً القرى التي تعرضت للقصف الكيميائي، و"حلبجة" ليست الحالة الوحيدة، وان كانت استقطبت انظار الاعلام العالمي. الكثيرون في قرى اخرى ماتوا من القصف الكيميائي. وقيل لي في مقر لجنة حقوق الانسان في اربيل ان الذين بقوا احياء بعد القصف اعتقلتهم القوات العراقية بعدما منعت الاطباء من معالجتهم. وهم اليوم في عداد المفقودين المجهولي المصير. كما ان اللجنة تملك وثائق عن معتقلين ماتوا خلال التحقيق، ودفنوا في مقابر جماعية. ويصر الاكراد على ان يزور كل وافد من الخارج مدينة "قلعة دزا" القريبة من الحدود الايرانية. مدينة بأكملها اخلاها الجنود العراقيون بين ليلة وضحاها من السكان وفجروا جميع الابنية فيها بالديناميت. الآن عاد البعض الى مدينة قلعة دزا. فمن استطاع تنظيف موقع بيته القديم من الانقاض، بنى مكانه، ومن لم يستطع لجأ الى استخدام الحديد وحجارة الانقاض لاقامة بيته في مكان ابعد. فحتى مواد البناء غير متوفرة، وان توفرت، فهي باهظة الثمن. وهناك معمل اسمنت واحد يعمل للمنطقة كلها قرب السليمانية. وهناك حالات غريبة في كردستان. ففي قلعة الامن او قلعة "نيزاركه" في مدينة دهوك مثلاً، حيث سجنت السلطات العراقية في كل زنزانة عائلات بأكملها، ترى اليوم المعتقلين السابقين انفسهم يعيشون فيها. فبعد الانتفاضة التي حررت المعتقلين، عادوا الى قراهم ليروها مهدمة، وهم غير قادرين على بنائها من جديد. وهكذا عادوا ثانية الى السجن وهم اليوم يعيشون فيه في انتظار الفرج، او ان تقوم منظمة خيرية عالمية بمساعدتهم على اعادة بناء القرية. وفي هذه القلعة التي يجتاحها الخراب يلعب الاولاد في الصحن الداخلي، في الباحة نفسها التي رأى فيها بعضهم أقارب او اصدقاء يعدمون او تحطم رؤوسهم بالحجارة. أشباح الماضي كل مكان تزوره في اقليم كردستان يؤلمك، لا سيما مجمعات "جم جمال" قرب السليمانية وعلى الحدود تقريباً مع المواقع الحكومية العراقية. في هذه المجمعات حيث يعيش فلاحون تم تهجيرهم من قراهم، حي بأكمله تمكث فيه نساء مع اطفالهن. ليس فيه اي رجل. فالرجال جميعهم في عداد المفقودين. هنا، تروي النساء كيف تم اعتقال العائلات، وفصل النساء عن الرجال. تروي كيف ادخلن الى زنزانات وجدن فيها هياكل عظمية. يحكين عن ايام العذاب هذه حيث كان لكل واحدة رغيف من الخبز كزاد يومي. ويروي الاطفال احلامهم ويرون فيها آباءهم عائدين اليهم، في الاحلام فقط. ومنهم من لا يرى أباه حتى في الحلم، ويتطلع الى ان يلتحق ذات يوم بالبشميركة كي ينتقم لابيه. لقد طرأ تغيير كبير في نمط الحياة في كردستان. ففي الماضي كان الرعاة ينتقلون مع قطعانهم الى الجبال في الصيف ويعودن في الشتاء، وقد صنعوا السجاد والبسط من صوف الغنم. كانوا يعيشون مما ينتجونه من ألبان ولحوم. لكن الحكومة العراقية منعت حياة الترحال والانتجاع هذه، اذ اقامت منطقة محظورة على طول الحدود مع ايرانوتركيا وسورية بمساحة تقارب الثلاثين الف كيلومتر مربع. وجاءت عمليات القصف والتدمير فانهت وجود قطعان الماشية. واللحم اليوم يأتي من ايرانوتركيا. هذا اذا استطاع السكان شراءه هناك اراض زراعية خصبة جداً، لكن الآلات الزراعية مفقودة وكذلك الفلاحون الذين فقدوا بيوتهم ظلوا في المدن، خاصة انهم لا يستطيعون زرع الاراضي من جديد. الناجون من اهوال السجن والمعتقلات وحملات القتل والقصف الكيميائي يتحملون فقدان المواد الغذائية والفقر والبرد والامراض. "اي شيء ما عدا صدام" كما يقولون. "اما ان ينقذونا منه والا فالموت افضل لنا". الجميع مرتاحون لوجود حكومة كردستانية. لكن هذه الحكومة لا وجود لها فعلياً على الارض، خارج اطار بعض الدوائر في المدن. فهي حتى الآن لا تساعد الفلاحين والمهجرين، كما يقولون، وليس لديها الامكانيات المادية للقيام بذلك. الاحزاب الكردستانية لا تزال حتى الآن هي المسيطرة على الارض وهناك تململ بين الناس بسبب بعض التصرفات الحزبية، او تصرفات بعض الافراد. لكن برغم ذلك كله يردد الناس: "لا بأس". فوجود هذه الحكومة في حد ذاته يدعو الى الامل بالمستقبل. الحكومة الكردستانية الحالية من جهتها تواجه مصاعب عدة تنعكس على حياة الناس. المصاعب الاولى مالية. فالاجور تتأخر بضعة اشهر قبل ان تدفع الى الموظفين. اما المدرسون فلم تصلهم رواتبهم منذ اشهر، وهم يعملون كعمال عاديين من اجل البقاء والرواتب احياناً تدفع نقداً بدنانير طبعت حديثاً في بغداد، ويعتقدون ان هذه الدنانير لا تغطية لها. فورقة الخمسة وعشرين ديناراً الجديدة التي يحصل عليها الموظف غير مقبولة في اقليم كردستان وهي تستبدل في السوق السوداء بقيمة 14 ديناراً من الدنانير القديمة المطبوعة قبل حرب الخليج. وفي اربيل، وتحديداً في سوق شيخ الله، زاوية خاصة بصرف العملات، وهي مكتظة بالبشر، وعملية الصرف معقدة اذ تبدل العملة العراقية المطبوعة حديثاً والتي تعتبر مزورة بعملة قديمة، كما تستبدل دنانير اتية من ايران بأخرى محلية او تركية. الناس خائفة في كردستان فأشباح الماضي لا تزال تسكن النفوس، والطائرات الحربية "مال بوش" التي تحلق يومياً فوق الاقليم لا تزيل هذا الخوف. ويذكر الاكراد انهم راحوا، مراراً، ضحية صفقات واتفاقات سياسية بين الدول. ويتم تقديم الدعم للاكراد او تشجيعهم على التحرك ضد بغداد، او يتم قمعهم والتخلي عنهم حسب ما تتطلبه المرحلة ووفقاً للتوازنات الاقليمية. وهم يخافون اليوم من ان يتخلى عنهم الغرب. * * * "شه ورى" اسم طفل يبلغ 3 سنوات من العم، قتل الجنود العراقيون والده وكان لا يزال جنيناً في بطن امه لذلك سمته "شه ورى" اي الانتظار. هذا لا يزال ينتظر والده. لكن اي مستقبل ينتظره.