أمام المشهد العالمي الراهن، الموسوم باللجوء الى العنف في كل المستويات، والالتفاف حول القوميات الضيقة والاحتماء داخل الانتساب الاثني، وتأجج التعصب، تكون العودة الى مساءلة الثقافة وتبين دورها داخل المجتمعات عنصرين ضروريين لتفهم هذا الوضع السديمي الذي نرتاده وسط الخوف والقلق. ويكفي ان نتذكر آخر مشهد يتحدى العالم ودوله "الكبرى" في ساراييفو حيث يذبح الابرياء وتقبر الحياة، لنستحضر ما قاله الروائي الفرنسي فيركوس تعليقاً على تفاقم النازية في اوروبا من جديد: "لقد خسر هتلر الحرب في الميدان، لكنه ربحها داخل الاوردة والافئدة". بالفعل، كان صعود النازية والفاشية وسط اوروبا "العقلانية" ذات الثقافة "الانسانية"، "الكونية"، صدمة كبيرة جعلتا بعض الفلاسفة يعلنون موت العقل في القرن العشرين، واهتزاز المنطق التاريخي، وتعرض الثقافة نفسها للتلاشي وفقدان المصداقية... لكن هذه التجربة الاليمة مقترنة بمآسي الحرب العالمية الثانية، ولدت مفهوماً آخر للثقافة واسعفت على اعادة صوغ الاشكالية من منظور مغاير، يرتكز على إعادة النظر في المسلّمات، وعلى اعتبار الثقافة اداة للانتقاد الجذري وتفكيك الفكر المحنط. من هذه الزاوية، يمكن ان نعتبر الثقافة، الى جانب تعريفاتها الاخرى، مجالاً لمقاومة الوحشية والغرائز البربرية، وصيغة لابتداع الحياة والدفاع عنها، ومرصداً لبلورة قيم جماعية قومية وانسانية، ترسم افقاً للهوية ضمن الصيرورة والتحول. لا يكون معنى المقاومة هنا، مقتصراً على درء الخطر المداهم للمجتمع والانسان في ظرف معين، بل نقصد به المقاومة كوظيفة استراتيجية تضطلع بها الثقافة على المدى البعيد بوعي وشمولية لتشييد نموذج حضاري متكامل. واظن ان في الامكان ان نضرب مثلاً لثقافة المقاومة في القديم، بنموذج الثقافة اليونانية التي اهتمت ب "المدينة" اهتماماً شمولياً بدءاً بطرائق الحكم وتنظيم العلائق الاجتماعية، وتشييد ديموقراطية "السادة"، ووصولاً الى التنظير للتربية والمسرح والشعر والرياضة والموسيقى والمعمار... انوجدت الثقافة اليونانية عندما استطاعت ان ترسم معالم متخيل اجتماعي يتعرف فيه المواطن على معنى لوجوده في حاضره ومستقبله، فيدافع عنه ويستوحيه، ويرتضي ان يموت دفاعاً عنه. وبالنسبة للثقافة العربية، يمكن ان نلتقط لحظة مميزة جعلت الثقافة العربية - الاسلامية تدشيناً للثقافة بوصفها مقاومة في بدايات الاسلام لانها كانت بمثابة قطيعة مع مجموعة من القيم والممارسات والمعتقدات. هكذا غدت الثقافة العربية - الاسلامية، الى جانب الرسالة الروحية، صيغة لبلورة طرائق اخرى في العيش والمعاملات، وترقية العلم والعقل اعتماداً على متخيل اجتماعي مغاير لما سبقه. وبذلك استطاعت الثقافة العربية - الاسلامية ان تستوعب التغير التاريخي والحضاري بذهنية متفتحة، ودينامية مخصبة. ولعل تجربة المثاقفة التي عاشتها الثقافة العربية في العصر العباسي هي من افضل الامثلة على تحقق الثقافة بوصفها مقاومة للانغلاق والتعصب، وبوصفها رحماً لتجديد المتخيل الاجتماعي وجعله ملائماً لمنطق التاريخ وحوار الثقافات. *** أقصد مما تقدم ان التاريخ لا تصنعه الاحداث والمآثر والمعارك فقط، بل هو اساساً تاريخ اسئلة ثقافية تفرزها الديانات والفلسفات وممارسات المجتمع خلال رحلة الانسان من المجهول الى المعلوم، ومن المعلوم الى المجهول. وهكذا فان مقولات كبرى مثل التوحيد، العدالة، العلم، العلمانية، التعددية، الديموقراطية، العقلانية... تكتنز في تاريخها سلسلة من الاسئلة والصراعات الملموسة التي اتاحت لها ان تتخلق وتحتل مكانتها في الفكر الانساني وقيمه الكونية. مثل هذه المقولات - القيم في التاريخ البشري، تُشكل مقاومة الثقافة لغرائز التدمير والابادة ولنزعات التسلط والظلامية. انها ايضاً نتاج ثقافة مقاومة من حيث مواكبتها لتبدلات الحياة وابتداعها لقيم جديدة تضبط علائق الناس وتستوعب دينامية التحول والاتساع. من هذا المنظور يمكن ان نطالع مسار الثقافة العربية الحديثة انطلاقاً من سؤال مركزي: هل استطاعت ثقافتنا ان تجعلنا نعيش التغير من خلال تغيير وعينا وعلائقنا بالاشياء، بالآخرين وبالعالم؟ في بدايات "النهضة" والى عشرينات هذا القرن، تمحورت ثقافتنا حول ثلاثة اتجاهات اساسية: سلفية، ليبرالية، ماركسية، على رغم ما تحتاجه هذه التصنيفات من اعادة نظر وتحديد. لكنها كانت جميعها، وهي تواجه الاستعمار و"تفوقه"، تأخذ بالاعتبار عنصر التاريخ وثقله وتظل تستحضر "الآخر" بوصفه "مركزاً" يُستوحى وفي غالب الاحيان يُتخذ نموذجاً وبعد الاستقلالات، ظل التوجه العام للانظمة العربية "ليبراليا" حتى عند من اعلن "اشتراكيته، لأن اساس الثقافة الليبرالية ظل مفتقداً في واقع الممارسة وان كانت ملامحه قد وجدت عند بعض المفكرين والكتاب. بكلام آخر، وكما هو معروف، فان الاتجاهات السياسية عندنا تعاملت مع الاتجاهات السياسية العالمية باعتبارها "وصفات" يمكن ان تعالج كل الاجساد، بغض النظر عن تاريخ هذه الاخيرة واسهامها في فرز الدواء الملائم. نسينا ان الليبرالية ليست مجرد صيغة للحكم، بل هي اساساً فكر وثقافة وعلم واستثمار ايديولوجي لتلك الثقافة، ومن ثم فهي لا يمكن ان تُجزأ او تخضع للانتقاء... وأظن اننا، هنا، نضع الاصبع على مسألة مهمة، وهي انفصال السياسي عن الثقافي واستئثار الاول بالتخطيط والقرار، ما ادى الى بروز السلطوية والحكم الفردي. وستبقى لحظة ما بعد هزيمة 1967 ذات دلالة كبيرة لانها تدشن نزوع "الثقافي" الى الاستقلال عن ركاب "السياسي" المفلس. بعيداً عن المسلمات واليقينيات والايديولوجيات الجاهزة المقتبسة من الماضي او من حاضر "الآخر"، ارتفع بعض الاصوات ينادي بضرورة العودة الى الثقافة بوصفها مقاومة: تنجز النقد الذاتي، تعيد تحديد العلائق مع الماضي والحاضر، ترسم افقاً للمستقبل على ضوء اعادة صوغ الاسئلة الجوهرية داخل مجتمعاتنا المتحولة وداخل العالم الاكثر تحولاً. غير ان هذا النفس الثقافي لم يعرف طريقه الى التأثير الواسع والى تقليب التربة عمقياً، بما في ذلك عقلية "السياسي" وبنيته. بعبارة اخرى لم يتحقق زواج جديد بين السياسي والثقافي على اساس الاسئلة "الحقيقية" التي تخرجنا من شرنقة التجمّد والتبعية وخرافة "المستبد العادل". *** ليس غريباً، اذن، ان يؤول المشهد الثقافي والسياسي العربي الى لوحة عجائبية لا يخرج المتأمل فيها الا بالمرارة والشعور بالعجز. فبقدر ما نجد انتاجات فنية وكتابات فكرية وادبية وادمغة علمية معظمها يهاجر خارج البلاد العربية للاسف، بقدر ما نجد استمراراً للعقلية التي قادت الى الهزائم، وتشبثاً بالسلطة المطلقة، وتضييقاً للخناق على المجتمع المدني. وفي مثل هذا المناخ، يكون طبيعياً ان يعود الفكر المتطرف الرافض لمنطق التاريخ وللتحليل العقلاني. في مثل هذا المناخ، يسهل استغلال التراث وتأويله بطريقة لاتاريخية لجعله افقاً طوبوياً يجتذب المهمشين والمحبطين واليائسين من ليبرالية عرجاء، وهم الاغلبية الآن في المجتمعات العربية. نتحدث عن حركات التطرف وكأنها مفاجأة، بينما هي في الواقع نتيجة طبيعية لذلك الانفصام بين السياسي والثقافي، وللنهج الاستبدادي الذي عاق الحوار الصريح حول القضايا الاساسية الكامنة وراء تجديد المتخيل الاجتماعي. هكذا حُجب الحوار، باسم التراث او المقتضيات السياسية، جملة اسئلة حضارية ابرزها الاستبداد "العادل" والديموقراطية، حول الوحدة العربية والتعدد الاثني والثقافي... كانت الانظمة وامتداداتها الثقافية الرسمية حريصة على "قبر" هذا الحوار الصريح الذي يفرض نفسه على الاقل منذ 1967. وقد كانت تظن ان ذلك سيكون في صالح جمع الشمل وبناء "الدولة القوية" وتحقيق التحديث. لكن الواقع اظهر عكس ذلك. زادت قوة اسرائيل، أقدمت حكومة بغداد اللامسؤولة على غزو الكويت، اصبح العراق مهدداً بالتقسيم، اشتعلت الخلافات والمعارك بين الاشقاء في اكثر من بلد عربي. في مثل هذه الوضعية، هل ما يزال الخطاب السياسي والثقافي العربي، يحظى بمصداقية لدى المواطن؟ الغائب الكبير في هذا الخطاب هو صورة الانسان العربي المغايرة لما عاشه من قمع وبؤس واستلاب: ما هو الافق الذي يمكن ان يحفزه ويخرجه من يأسه ولامبالاته؟ بعبارة ثانية، ما هو المتخيل الاجتماعي القادر على تحريك ارادة المواطن العربي وارجاع ثقته في الفعل والانتماء الى المجتمع والتاريخ؟ *** لا اريد ان يفهم القارئ من كلامي ان هذه الاسئلة الصعبة التي عجز الخطاب السياسي والثقافي العربي عن تقديم اجوبة عنها، قد وجدت حلولاً في محاولات ثقافة المقاومة التي اشرت اليها. لكن ما احرص على ابرازه هو ان تلك الثقافة تمتلك الجرأة وادوات التحليل، وان فاعليتها لن تتجسد الا ضمن الحوار والصراع الصحيين داخل المجتمع. من دون هذا الحوار، "تعتصم" كل فئة داخل "حقيقتها" وتنقاد الى العنف وسيلة للبرهنة على صحة وجهة نظرها. بينما الحوار غير المغشوش يقود جميع الفئات الى اكتشاف تعدد الحقيقة، وتعدد المصالح والى تعديل المواقف ضمن دائرة التراضي العام. الثقافة بوصفها مقاومة وانتقاداً جذرياً، هي المدخل الطبيعي للبحث عن متخيل اجتماعي يسعف على الخروج من التعثر والتلفيق وتجرع الهزائم. ولكي تؤدي هذه الثقافة وظيفتها يتحتم ان تحمي نفسها من الابتلاع ومن الذيلية، اي ان موقعها الطبيعي هو داخل المجتمع المدني، لأن عبره يمكن استرجاع العلاقة الجدلية بين السياسي والثقافي، وردم الهوة القائمة بينهما الآن. ليس من المجدي في شيء، الدعوة - كما فعل بعض مفكرينا - الى ضرورة اضطلاع المثقفين ب "تجسير الفجوة بين السلطة والمجتمع" لأن الذين سيمدون الجسور سيتعرضون لاغراءات السلطة واموال القائمين عليها، وبذلك لن تكون لهم الحماية البشرية والمعنوية لممارسة الرقابة الاخلاقية والفكرية على الماسكين بزمام السلطة المسؤولين الى حد كبير عن الوضعية المفجعة التي نعيش في ظلها. لقد اختار بعض المثقفين جانب الثقافة الرسمية، وهذا من حقهم، ولكن هذا الاختيار لا يعفيهم من مسؤولية المأزق الذي نوجد فيه. ومن ثم ضرورة الاقرار بتقبل الرأي الآخر والحوار مع الثقافة المضادة انطلاقاً من اسئلة الواقع ومن تطلعات المواطن العربي. اذا استمرت الثقافة العربية تلعب دور المبرر، بالنسبة لسياسة الدولة او لاختيارات الحزب، او دور التأويل المتطرف، المتعصب، فانها ستكون قد تخلت عن وظيفتها التصحيحية المقاومة للانحراف وتدجين المواطن، ذلك ان انهيار الامة، في نهاية التحليل، ليس هو انهيار الحكم، بل انحطاط الثقافة واستقالة المثقفين، وعجزهم عن بلورة متخيل اجتماعي جديد يحفز الارادات ويعطي معنى للصراع والوجود. *** هذه المسألة مشتركة بين كل الامم نجد لها تجسيداً في مجرى الاحداث الراهنة. فانهيار الاتحاد السوفياتي لا يمكن ارجاعه فقط الى اسباب سياسية او اقتصادية او قومية، بل هناك بالاساس تلك العطالة التي اصابت المتخيل الاجتماعي نتيجة تحويل الثقافة المقاومة الى ثقافة تبريرية تقتل الروح الانتقادية وتطمس تباعد الواقع عن الايديولوجيا الرسمية. ذلك انه مهما اختلفنا مع النظام السوفياتي السابق ومع ممارساته، فاننا لا نستطيع انكار الانجازات التي حققها مسنوداً بمتخيل اجتماعي لحم مختلف القوميات وحرك عزائم التشييد والبناء... ونفس الملاحظات يمكن ان نقولها عن يوغوسلافيا: بل عن الولاياتالمتحدة الاميركية نفسها خصوصاً بعد انفجارات لوس انجليس الدامية. فتجربة البدايات الرائعة، المثيرة، في الولاياتالمتحدة انما اعتمدت على متخيل اجتماعي منحدر من ثقافة ليبرالية تنفتح على كل الطاقات والاثنيات والثقافات... لكن عجز النظام التطبيقي عن استيعاب الزنوج على قدم المساواة مع البيض، وتفاقم الحيف الرأسمالي وما انتجه من تفقير، يضع ذلك المتخيل الاجتماعي موضع تساؤل وينذر بانفجارات اخرى غداً اذا لم تعرف ثقافة المقاومة كيف تفرض نفسها داخل اميركا. *** على هذا المستوى، تبدو الحاجة ماسة، اكثر من اي وقت مضى، الى الثقافة بوصفها مقاومة، ذلك ان جميع التجارب من دون استثناء توجد امام مأزق اعادة ابتداع متخيل اجتماعي يعيد الاعتبار للانسان، ويجنبه مذلة الاستغلال وجحيم الحروب الاهلية، وقهر الدكتاتوريين الحاكمين. ولعل النقطة المشتركة بين جميع الثقافات المقاومة الحريصة على تجديد المتخيل الاجتماعي، هي مواجهة سيادة وسائل التثقيف الجماهيرية La medioratie المرتكزة على استثمار الصناعة الثقافية لفائدة رؤوس الاموال العالمية، والتشجيع على الاستهلاك وتمرير ايديولوجيا حضارة الأزرار لالهاء الناس عن خراب العالم وخراب النفوس. لا تستطيع الثقافة العربية ان تفكر في نفسها وتجربتها من دون ان تستحضر تجربة الثقافة في العالم. لكن الملح والمستعجل هو وضع حد لفصل السياسي عن الثقافي لأن ذلك الفصل هو تحايل لاستمرار فرض وصاية السياسة على الثقافة. والثقافة لن تحافظ على استقلاليتها الا عندما تحتفظ بقدرتها على النقد والمقاومة. * ناقد وروائي واستاذ جامعي مغربي