التغيير الوزاري الذي أحلّ اسحق رابين محل اسحق شامير على رأس الحكومة الاسرائيلية هو حدث بحاجة الى نظرة متمعنة، ذلك انه يعيد طرح قضية اسلوب التفاوض الاسرائيلي، ربما بشكل جذري. ومع المحادثات التي دشنها مؤتمر مدريد، لا تملك الاطراف العربية عدم ايلاء هذا التغيير ما يستحقه من اهتمام. أبرز ما ميز النزاع العربي - الاسرائيلي في اعقاب انهيار النظام العالمي الثنائي القطبية، هو ان الاطراف الاساسية في هذا النزاع، بدلاً من ان تكون اربعة اصبحت ثلاثة. كان هناك من قبل طرفان على المستوى الاقليمي، هما بالطبع العرب من جانب، والاسرائيليون من الجانب الآخر، وعلى المستوى الكوني الولاياتالمتحدة من جانب والاتحاد السوفياتي من الجانب الآخر. اما الآن فلقد اصبح هناك على المستوى الدولي طرف واحد فقط هو الولاياتالمتحدة. واختفاء الاتحاد السوفياتي انما غيّر من قواعد اللعبة تغييراً جوهرياً، فلقد اصبح الطرفان المحليان، العرب واسرائيل، كل منهما يحاول كسب ود الطرف الدولي، بدلاً من اللعبة السابقة حيث كان العرب يعتمدون، في المقام الاول، على الاتحاد السوفياتي فيما تعتمد اسرائيل على اميركا. والحقيقة ان ازمة الخليج كان لها دور بارز في احداث هذا التغيير، ذلك ان احداث الخليج هي التي كشفت عن زوال اي دور مستقل للاتحاد السوفياتي. لقد اصبح الاتحاد السوفياتي في هذه الازمة طرفاً تخلى بشكل واضح عن موقفه المتميز السابق، وبدلاً من الوقوف بجانب العراق ضد اميركا - على اساس تحالفه القديم مع بغداد - وقف بجانب اميركا ضد العراق، تطبيقاً لمبدأ تحويل "المواجهة" بين الدولتين العظميين الى "تعاون" في مواجهة جميع النزاعات الدولية الساخنة. اقول ذلك بغض النظر عما كان عليه سلوك العراق، فليس من شك في ان اجتياح العراق للكويت لم يكن بالامر الذي كان يسهل الدفاع عنه، ولكن ثمة مواقف سابقة للاتحاد السوفياتي ساند فيها اطرافاً كالنظام الماركسي في افغانستان على سبيل المثال في ملابسات لم تكن تختلف كثيراً عن تلك التي حكمت سلوك العراق حيال الكويت. ولكن لم يعد ذلك هدفه في ظل لعبة "البيرسترويكا" و"النظام الدولي الجديد"، وهكذا اصبحت ازمة الخليج المناسبة التي كشفت عن احتجاب الاتحاد السوفياتي كطرف مستقل على المسرح الدولي. بهذا المعنى اوجدت ازمة الخليج حقيقتين جديدتين على المستوى الدولي لا الاقليمي فقط: الحقيقة الاولى هي انها اشهرت نهاية النظام الدولي الثنائي القطبية وحلول نظام عالمي آحادي القطبية محله، وهذا امر له دلالته الكونية فوق دلالته الاقليمية. والحقيقة الثانية هي ان اختفاء الاتحاد السوفياتي كقطب مستقل انما كان يعني التقليل من شأن اهمية اسرائيل بوصفها الدولة الوحيدة في المنطقة التي تأتمنها الولاياتالمتحدة في حالة نشوب حرب مع الاتحاد السوفياتي، ان اختفاء الاتحاد السوفياتي كقطب مستقل انما كان يعني اختفاء احتمال نشوب حرب بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي، وبالتالي لم يعد لاسرائيل دورها الاستراتيجي السابق في الاستراتيجية الكونية الاميركية. وقد صاحبت هذه الحقيقة حقيقة اخرى هي ان ازمة الخليج اوضحت ان منطقة النفط عرضة لمفاجآت لم تكن في الحسبان، وان دولة من دوله تعرضت او يمكن ان تتعرض لعملية اجتياح من قبل دولة او دول عربية اخرى. ورأى الرئيس بوش بتدخله العسكري المباشر لرد عدوان صدام حسين على الكويت، انه بذلك يحمي هذه المنطقة مع دول التحالف الاخرى. وهكذا اصبح عنصر حاسم في تقرير الاستراتيجية الكونية هو عنصر له مرتكزه الرئيسي في منطقة الشرق الاوسط، لا في اسرائيل بل في بلدان عربية هي المنتجة للنفط. واصبحت الارض العربية - وليست اسرائيل - ابرز موقع في المنطقة يهم اميركا استراتيجياً، بغض النظر عن روابط اخرى تربط بين اسرائيل واميركا، وبالذات التعاطف التقليدي بين دولتين قامت كل واحدة منهما على مشروع استيطاني، وبغض النظر عن وجود لوبي يهودي في الولاياتالمتحدة كفيل بحماية المصالح الاسرائيلية، بينما لا تملك الاطراف العربية شيئاً مماثلاً. بل ان هناك التباساً يحيط بقدرة العرب على التأثير على القرار الاميركي حتى في الظروف الجديدة، ذلك ان الذي يدفع صانع القرار الاميركي الى مراعاة وجهة النظر العربية، هو تجنب ان يكون الرفض العربي سبباً في تعريض المصالح الاميركية لاية هزة. بيد ان الانظمة العربية حريصة - مثل اميركا تماماً - على تجنيب نفسها هزات. وهكذا، فبينما لاسرائيل لوبي تستطيع به التأثير على صاحب القرار الاميركي مباشرة، فان الانظمة العربية ، في سبيل ان تؤثر على القرار الاميركي، لا بد ان تعتمد في ذلك على قوى الرفض العربية في المنطقة التي يمكن ان تهدد مصالحها هي لا المصالح الاميركية فقط. نقطة التحول وهكذا نرى ان ازمة الخليج انما عبرت عن نقطة تحول. فمنذ ازمة الخليج، اصبحت اللعبة ثلاثية: اميركا واسرائيل، والاطراف العربية، لم يعد للامم المتحدة، ولا لأطراف دولية اخرى، مثل اوروبا، اي دور، ولا بد لنا ان نلفت النظر الى ان شامير، بممارسته السياسة نفسها التي كان يمارسها حزبه الليكود طوال المرحلة التي ساد فيها "النظام العالمي الثنائي القطبية"، انما ألحق - من دون ان يدري - ضرراً كبيراً بمركز اسرائيل، وافاد نتيجة ذلك الكثير من الانظمة العربية. فلقد كان لشامير دور بارز في تعميق خلاف اميركي - اسرائيلي على نحو لم يسبق له مثيل، باتت اميركا، منذ ازمة الخليج، حريصة على التعجيل بعملية السلام لتجنيب منطقة النفط مزيداً من الهزات، بينما كان شامير حريصاً على تعطيل عملية السلام، وذلك لتجنب تقرير حدود نهائية لاسرائيل ما لم تكن استوعبت افواج المهاجرين اليهود النازحين من روسيا ومواقع اخرى. لقد انطلق من ان مصالح اسرائيل، في قضية السلام، انما تعارضت مع المصالح الاميركية، وفي المقابل، وجد الكثير من الاطراف العربية ان قبول مبدأ استئناف المفاوضات مع اسرائيل انما يكسبها ود الولاياتالمتحدة، ويعزز علاقاتها مع واشنطن بدلاً من موسكو التي لم يعد لها تأثير. ومن منطلق ان هذا التقارب مع الولاياتالمتحدة لن يحملها اعباء والتزامات ازاء اسرائيل، ذلك ان شامير هو الكفيل بعرقلة عملية التفاوض ويتحمل في نظر واشنطن مسؤولية تعثر مفاوضات السلام. هكذا تبدو الاطراف العربية وكأنها تواكب حركة اميركا واهدافها في المنطقة، بينما اخذ شامير يظهر بمظهر المعوق للعبة الدولية الجديدة، وهي لعبة بات للولايات المتحدة الدور الرئىسي فيها. ولكن يبدو ان الشعب الاسرائيلي في مجمله فطن الى ذلك واسقط شامير وأحل رابين محله واوجد بذلك لعبة جديدة تماماً. ان اول ما التفت اليه رابين، فور توليه السلطة، هو تنقية العلاقات الاميركية - الاسرائيلية وانهاء الواقع الذي اتاح للمفاوضين العرب اقامة علاقات مع واشنطن بدت ايسر حالاً من علاقات اسرائيل معها. لقد ازال رابين كل اوجه اللبس في العلاقات الاميركية - الاسرائيلية وادلى بتصريحات بشأن مفاوضات السلام استعاد بها صداقة الولاياتالمتحدة بالكامل، وأحيا من جديد الحلف الاميركي الاسرائيلي، بل اصبح الرئيس بوش هو الذي يسعى مع تدهور شعبيته في الداخل الى تحسين علاقات الادارة الاميركية مع الحكومة الاسرائيلية بأمل الاستفادة من الصوت اليهودي في معركة انتخابات الرئاسة وقد بلغت ذروتها! وقد ترتب على ذلك ان الاطراف العربية لم يعد متاحاً لها ان تحافظ على علاقاتها السابقة مع الولاياتالمتحدة من دون تقديم تنازلات لاسرائيل، في وقت ما زالت تحجم فيه حكومة رابين عن تقديم تنازلات مقابلة تلبي الحد الادنى من المطالب العربية. كان ذلك مصدر الازمات التي نشأت بعد تولي رابين السلطة، وسبب خيبة امل اطراف دولية كثيرة معنية بالنزاع، يهمها احراز تقدم في عملية السلام، وقد اعتقدت ان سقوط شامير افسح المجال لمفاوضات مثمرة لا بد ان تأتي بنتائج ملموسة في مستقبل منظور!. أوراق المفاوض العربي لقد ثبت ان موقف حكومة رابين من القضية الفلسطينية هو محاولة تحويل "الحكم الذاتي" من نظام انتقالي الى نظام دائم، على ان يتعلق بالسكان من دون الارض، بمعنى ان يحفظ لاسرائيل السيادة على الارض وفي شؤون الامن والدفاع والسياسة الخارجية. وليس مطروحاً، في رأي رابين، اجراء مفاوضات حول تجاوز هذا الحد ما لم يكن تحقق تعاون عربي - اسرائيلي شامل، لاسرائيل كلمة حاسمة فيه. هذا هو ما يعنيه رابين بقوله: انه لن ينظر الى مرحلة ما بعد "المرحلة الانتقالية" الا في ضوء تجربة "المرحلة الانتقالية" وليس قبل انقضاء اربع سنوات على وضعها موضع التطبيق، اي في ضوء انجازات عملية السلام، واختبار مدى ما سوف تسفر عنه من تطبيع وتآخ على مختلف الجبهات، وبالذات مع سورية والاردن. ثم هناك شواهد على ان رابين يحاول اغراء سورية باعلان استعداده للتفاوض حول الجولان، على ان يعلق مدى ما سيجري من انسحاب فعلي على نوعية التطبيع التي سوف يعتمدها الطرفان. ولا حديث قط حول القدس. ان رابين ينطلق من انه يستطيع تحويل "الاطراف الثلاثة" في عملية السلام الى طرفين، بمعنى ان بمقدور حكومته استعادة علاقات مع الادارة الاميركية تزيل اي تمييز بينهما، ويصبح الجانب العربي، لا الجانب الاسرائيلي، هو المعزول. والجدير بالملاحظة ان حكومة رابين يسعدها ان ترى انتصار المرشح الديموقراطي بيل كلينتون في انتخابات الرئاسة الاميركية، ذلك ان الحزب الديموقراطي كان على الدوام اقرب الى اسرائيل والى حزب العمل الاسرائيلي بالذات من الحزب الجمهوري، فضلاً عن ان كلينتون متحلل من الالتزامات التي انشأها بوش لنفسه خلال ادارته لازمة الخليج. بل ان كلينتون التزم امام الناخب الاميركي بنقد جوانب شتى من سياسة بوش الشرق اوسطية. ان التحسن المطرد المنتظر لمركز اسرائيل التفاوضي لا شك يواجه المفاوض العربي بمعضلات صعبة. ومع ذلك فليس من شك في ان للمفاوضين العرب أوراقاً بوسعهم ان يلعبوها، ان رابين لا يملك الارتداد بمواقف اسرائيل الى ما كانت عليه في ظل حكم شامير، ثم ان رابين لا يستطيع تحقيق التقارب الاميركي - الاسرائيلي الذي ينشده الا في ظل استمرار عملية التفاوض، وهذا يتعذر تحقيقه ما لم يلب حداً ادنى من المطالب العربية. كما ان رابين تخلى عن موقف شامير الرافض لأي تعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية وان كان لا زال يرفض التفاوض رأساً مع المنظمة. أليس بوسع الاطراف العربية الزام رابين بالسير بمنطق التعامل مع المنظمة الى نهاية المطاف؟ فاما ان يتفاوض رابين معها مباشرة وعلى اعلى مستوى، او ان يكشف عن حقيقة ان مواقفه لا تختلف نوعياً عن مواقف سلفه شامير. ثم ان من الاهمية بمكان ان تلزم الاطراف العربية رابين بالكشف عن اوراقه الآن، وبوش لا زال رئيساً للولايات المتحدة، ذلك ان مركز رابين سيتحسن اذا ما فاز كلينتون في الانتخابات، ولكن رابين لا يستطيع ان يضارب على نجاح كلينتون سلفاً. ثم ان اسرائيل، بحكم القواعد التي تقررت للعملية التفاوضية، انما تتعامل مع كل طرف عربي على حدة، وبالتالي اصبح بوسعها ان توظف لصالحها ما لدى الاطراف العربية من تناقضات في المصالح والمواقف والى اقصى حد، بينما تمتنع الاطراف العربية وبارادتها عن استثمار التناقضات داخل اسرائيل وبالذات، تحجم هذه الاطراف عمداً عن محاولة تنمية نفوذ ومكانة القطاع من المجتمع الاسرائيلي الذي يدرك اخطار استمرار تعثر التسوية، ويسلم بأن الحل لا مفر من ان ينطوي على حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم واقامة دولتهم المستقلة. ان هذا القطاع من الرأي العام الاسرائيلي ممثل في حكومة رابين الراهنة، ولا يملك رابين البقاء في الحكم لو تخلى هذا القطاع عنه... فماذا العرب فاعلون؟ * كاتب ومفكر سياسي مصري.