لماذا تراهن الولاياتالمتحدة الآن على اسحق رابين زعيم حزب العمل وتأمل في انتصاره في الانتخابات النيابية الاسرائيلية الشهر المقبل وتعتبر ان من شأن ذلك تحريك مفاوضات السلام العربية - الاسرائيلية واحراز تقدم فيها؟ هذا السؤال يشغل الكثيرين سواء في الساحة الاميركية او في الشرق الاوسط. الواقع ان رهان ادارة بوش على اسحق رابين يشكل ابتعاداً عن الخط الذي انتهجته ادارة الرئيس السابق ريغان وهو خط تميز بدعم تكتل الليكود وتوجهاته في اسرائيل. وكانت ادارة بوش بينت منذ الايام الاولى لتوليها الحكم عدم رضاها عن حكومة الليكود الاسرائيلية، وعن اسحق شامير شخصياً. ودعا جيمس بيكر وزير الخارجية الاميركي شامير، في واحد من اول التصريحات التي ادلى بها عن الشرق الاوسط الى التخلي عن "حلم اسرائيل الكبرى". واشترك بوش وبيكر في محاولة غير ناجحة لدفع شامير الى ان يأخذ مأخذ الجد العرض الذي تقدم به هو نفسه في 1989 لاجراء انتخابات في الضفة الغربية وغزة، ولكن شامير عاد الى رفض هذه الفكرة قائلاً انها لا تحتوي على اي شيء جديد. وأدى انكار شامير العرض الذي تقدم به هو نفسه لاجراء انتخابات في الاراضي المحتلة الى تعكير العلاقات مع واشنطن، والى شعور كل من الرئيس الاميركي ووزير خارجيته بالمرارة. وفي حزيران يونيو 1989 اصدر بيكر تصريحاً علنياً غير مألوف دعا فيه اسرائيل الى الاتصال هاتفياً بالبيت الابيض عندما تصبح على استعداد للتباحث بشأن السلام. ثم وقعت حرب الخليج وانتصر الحلفاء على العراق وارغموا قواته على الانسحاب من الكويت كما سددوا ضربة كبيرة الى قدراته العسكرية. وخرجت اسرائيل من حرب الخليج في صورة الدولة المنتصرة من الناحية الاستراتيجية. ووصف رابين نفسه هذه الحرب بأنها "شبه معجزة". ولكن اسرائيل اصبحت اليوم، بزعامة شامير، اقل استعداداً لتقديم تنازلات للجانب العربي او الى وليّة نعمتها واشنطن التي تشعر بالاحباط. ويتضح مدى الخروج الاسرائيلي على الخط الاميركي من التناقض الحاد بين المفهومين الاسرائيلي والاميركي للوضع في المنطقة. ويقول معلق اسرائيلي: "يعكس التهديد النووي من جانب ايران في الغرب، وليبيا في الشرق، الاخطار التي تواجهها اسرائيل من وجهة نظر القيادات السياسية الاسرائيلية. ومن الصعب على هذه القيادات قبول التأكيد الاميركي بأن الخطر على امن اسرائيل انقضى". ويعتقد المسؤولون الاميركيون ان شامير - خلافاً لرابين - لا يبدي اهتماماً كافياً بمسألة مهمة وتتعلق بمدى اعتماد اسرائيل على اميركا. ولم يتمكن ديفيد ليفي وزير الخارجية الاسرائيلي من تغيير موقف شامير ولهذا السبب وصف ليفي موقف الليكود المتشدد تجاه واشنطن بأنه "خطأ أساسي". وفي الآونة الاخيرة قال موشي آراد السفير الاسرائيلي السابق في واشنطن: "ان اي شخص لا يقيم وزناً للولايات المتحدة يمكن ان يهدد على المدى الطويل المساعدات العسكرية والامنية التي تقدمها الولاياتالمتحدة الى اسرائيل. وليست هناك دولة اخرى في العالم تستطيع احتلال مكان الولاياتالمتحدة في تلبية الاحتياجات الامنية الاسرائيلية وليس لدى دولة اسرائيل اي بديل على الاطلاق في هذا المجال". وشهدت العلاقات بين الولاياتالمتحدة واسرائيل توتراً وبروداً لم يسبق لهما مثيل نتيجة لما اعتبرته واشنطن رفض شامير استغلال فرصة نادرة للمصالحة مع العرب والفلسطينيين بشروط مناسبة لاسرائيل. ويدل فشل اسرائيل في الحصول على ضمانات للقروض بقيمة 10 بلايين دولار، على ان شعور الالتزام العاطفي القديم، وتأييد عدد كبير من اعضاء الكونغرس، لم يعودا كافيين لضمان المساعدات بالكميات الضخمة التي تعودت عليها اسرائيل في الماضي. وتعتبر واشنطن ان التحدي الذي تواجهه الولاياتالمتحدة واسرائيل الآن يتمثل في اعادة تشكيل مبررات ومقدمات "التحالف الاستراتيجي"، خصوصاً بعد زوال خصومات الحرب الباردة وعدم حاجة الولاياتالمتحدة الى المساعدة الاسرائيلية لحماية المصالح الاميركية في المنطقة. وتعتبر واشنطن ان شامير فشل في فهم الواقع الجديد ولم يحسن التعامل معها ابتداء من رفضه الموافقة على ايقاف بناء المستوطنات للحصول على ضمانات القروض بقيمة 10 بلايين دولار، وانتهاء بالخلافات العلنية التي لم يسبق لها مثيل عن تحويل اسرائيل التقنية العسكرية الاميركية الى دول اخرى. وبذلك اصبحت الجهود الرامية الى اعادة تشكيل العلاقات الاميركية الاسرائيلية في عصر ما بعد الحرب الباردة متردية في هوة من مشاعر الاحباط والاتهامات المتبادلة. وفي خضم مناقشات ساخنة مع قادة الطائفة اليهودية في اميركا، قال آرون ميلر، وهو واحد من المستشارين المقربين الى وزير الخارجية الاميركي جيمس بيكر: "يجب على اسرائيل والطائفة اليهودية في اميركا ادراك الحقائق الجديدة. ان العالم تغير واصبح يثير المزيد والمزيد من الشكوك بشأن الدعاوى القديمة التي تذكر لتبرير السياسات الاسرائيلية مثل دعاوى ابادة اليهود إبان الحرب العالمية الثانية، او دعاوى "التحالف الاستراتيجي" مع واشنطن. ان الخلافات في وجهات النظر بين اسرائيل والولاياتالمتحدة تعمقت منذ العام 1977 عندما تولى حزب الليكود الحكم في اسرائيل". ولم يخطئ الساسة الاسرائيليون ايضاً في فهم هذه الاشارات الواضحة الصادرة عن واشنطن، اذ يقول الياهو بن اليسار الشخصية البارزة في حزب الليكود: "ان من يعتقد ان ادارة بوش لا تفضل حكومة ممثلة لحزب العمل على حكومة ممثلة لليكود لا بد ان يكون احمق". رابين أجّل الحوار والتفاهم وبعد ان يئست ادارة بوش من شامير، اصبحت تعلق آمالها الآن على احتمال فوز حزب العمل في الانتخابات العامة للمرة الاولى منذ 1977. ويأمل المسؤولون الاميركيون في ان ترى اسرائيل بزعامة رابين العالم بالصورة التي تراها واشنطن، وان تدرك مدى اهمية تحسين العلاقات بين الدولتين واعادتها الى ما وصفه معلق في صحيفة "النيويورك تايمز" بأنه "الشعور القديم بالحب والهدف المشترك". وكان رابين قام في آذار مارس الماضي بزيارة الى واشنطن ألقى خلالها خطاباً اعترف فيه بأن "الولاياتالمتحدة واحدة من اكبر دعامات مستقبل اسرائيل، وامن اسرائيل، والتنمية الاقتصادية في اسرائيل. ويجب علينا ان نبذل اقصى ما في وسعنا لتغيير اتجاه تطور الاحداث بين الدولتين". وعندما شغل رابين منصب السفير الاسرائيلي لدى واشنطن، ثم منصب رئيس الوزراء، أدى دوراً حيوياً في اقامة الروابط الوثيقة مع واشنطن وهي روابط تتعرض الآن لهذا القدر الكبير من التوتر. وكان رابين وحزب العمل الذي يتزعمه اكثر قدرة من الليكود باستمرار في معالجة الخلافات السياسية مع الولاياتالمتحدة بقفاز من المخمل، وليس عن طريق التلويح بالقبضات بالشكل الذي استخدمه الليكود كثيراً. ويوفر رابين لواشنطن فرصة التفاهم والتعاون، وليس التصادم. وقد اشار رابين الى اسلوب التعاون مع اميركا هذا في الخطاب الذي القاه في واشنطن، اذ قال انه كان رئيساً لوزراء اسرائيل في فترة الازمة التي نشأت في العلاقات الاميركية - الاسرائيلية في اعقاب رفض اسرائيل مقترحات كيسينجر بشأن اتفاق ثان مع مصر للفصل بين القوات. وخلال تلك الفترة التي امتدت من آذار مارس الى ايلول سبتمبر 1975، والتي وصفها رابين بأنها كانت فترة "عذاب اعادة تقييم العلاقات الاميركية - الاسرائيلية"، حظرت الولاياتالمتحدة تصدير بعض انواع الاسلحة الى اسرائيل، ومنعت تقديم بعض المعونات الاقتصادية اليها. ويصف رابين تلك الفترة بأنها كانت تمثل "وقتاً حرجاً، ولكن الطرفين سعيا الى حل للمشكلة، والى اسلوب لعدم الكشف عن كل شيء لوسائل الاعلام، والى طريقة لاقامة علاقة اوثق". ومن بين العناصر الاساسية في هذه "العلاقة الوثيقة"، خلال فترة تولي رابين منصب رئيس الوزراء، تجاهل واشنطن سياسات اسرائيل الاستيطانية في الاراضي المحتلة. وتتضمن حملة الدعاية الانتخابية لرابين صيغة جديدة من السياسات القديمة التي جعلت واشنطن تغمض عينيها عن موضوع المستوطنات خلال فترة حكم حزب العمل من 1967 الى 1977. وليس هناك شك في ان واشنطن ستؤيد التزام رابين بتحقيق الحكم الذاتي خلال عام واحد من انتخابه رئيساً لوزراء اسرائيل، وبمعارضة "المستوطنات السياسية" التي لم يحدد معناها، وبتخفيض الاعتمادات المالية المخصصة للمستوطنات. ويمكن ان تؤدي هذه التصريحات من جانب رابين، بصرف النظر عن التغيير الفعلي والواقعي، الى تغيير جو العلاقات الاميركية - الاسرائيلية بصورة تؤدي الى تأثير مباشر يتمثل في تخفيف جانب كبير من الضغوط الاميركية والدولية على اسرائيل، وفي توفير الاطار السياسي المناسب للموافقة على ضمانات القروض الى اسرائيل، وفي القضاء على المشاكل التي تعتور العلاقات بين الدولتين في الوقت الحالي. وكان رابين تحدث قبل اسابيع عدة امام جمهور من اليهود الاميركيين عن قصة غريبة قصد من ورائها ابراز مدى قدرته على كسب القبول الاميركي للمبادرات السياسية المثيرة للخلاف. وقال رابين في هذا الخطاب الذي القاه يوم 17 آذار مارس الماضي في واشنطن امام اعضاء "منظمة النداء اليهودي الموحد": "في العام 1976 كانت لدي سياسة تختلف عن سياسة الحكومة الاسرائيلية الحالية تجاه المستوطنات. ومع ذلك لم اقبل قط ان اسرائيل لا تستطيع، او لا يجب عليها، بناء المستوطنات خلف الخط الاخضر. لقد كنت رئيساً للوزراء عندما تقرر بناء مستوطنة معالي آدوميم خارج القدس الموحدة. وجاء الي مالكولم تون السفير الاميركي في ذلك الوقت برسالة من الرئيس فورد تدعونا الى ايقاف بناء اية مستوطنة سكنية خلف الخط الاخضر. وقلت للسفير الاميركي: انظر، ليس هناك من يعلم بأمر هذه الرسالة سوى انت والرئيس فورد وانا. وامامك خياران، اولهما ان تصر على ان اتسلم هذه الرسالة، وفي هذه الحالة سأعرضها على مجلس الوزراء يوم الاحد المقبل مع التوصية برفضها. اما الخيار الثاني، وهو الذي اقترحه عليك، فهو ان يسترد الرئيس فورد هذه الرسالة، لأنه ليس هناك من يعلم اي شيء عنها، كما انني لن اذكر اي شيء عنها لأي عضو من اعضاء مجلس الوزراء. ورد عليّ السفير بقوله: لم اسمع قط عن رئيس للولايات المتحدة سحب رسالة موجهة الى رئيس حكومة اخرى. فقلت له: حاول، حاول! وبعد 48 ساعة عاد الي السفير الاميركي قائلاً: ان ما كنت اعتقده مستحيلاً حدث. لقد قبل الرئيس سحب الرسالة. ولكن لماذا؟ لماذا تمكنا من حل المشكلة بهذه الطريقة؟ ان السبب يرجع الى انه لم يكن هناك اي شخص خارجي يعلم بما حدث، ولم يتم تسريب النبأ. انني لم أخطر اي عضو في مجلس الوزراء بشأن هذه الرسالة، لأن اعضاء اي حكومة في العالم يسربون الاسرار. وهكذا يجب ان تكون هناك مثل هذه العلاقة الحميمة والثقة بأن اياً من الطرفين لن يسرب اسرار العلاقة في احاديثه الخاصة. ويجب على كل من الطرفين معرفة حدود الطرف الآخر، والسعي الى السبل الكفيلة بالاتفاق او عدم الاتفاق على معظم المسائل، او على كثير من المسائل، والسبل الكفيلة بايصالنا الى النقاط التي يمكن ان نتفق عليها". وبالنسبة الى ادارة بوش التي تشعر بالتشكك والقلق ازاء تصلب شامير المستمر، سيكون من المنطقي ان ترحب بواقعية رابين وادراكه اهمية العلاقة الاميركية - الاسرائيلية ورغبته في استئناف "حوار الاحباء" مع واشنطن. * خبير اميركي في شؤون العلاقات الاميركية - الاسرائيلية.