يواصل روبرت مكفرلين مستشار الرئيس السابق ريغان لشؤون الأمن القومي، في هذه الحلقة العاشرة من ذكرياته التي خص بها "الوسط"، الحديث عن رحلته السرية الشهيرة الى طهران في أيار مايو 1986 ومحادثاته مع عدد من المسؤولين الايرانيين وعلى رأسهم مستشار رجل ايران القوي آنذاك حجة الاسلام هاشمي رفسنجاني. ويكشف مكفرلين في هذه الحلقة مجموعة امور مهمة لم تنشر من قبل عن رحلته السرية هذه، منها ان رفسنجاني طلب توقيع اتفاق خطي وسري مع الولاياتالمتحدة. وتكمن اهمية شهادة مكفرلين انه هو الذي اوفده ريغان الى طهران في ذلك الحين على رأس وفد ضم: اوليفر نورث وجورج كاف وهو ضابط في المخابرات الاميركية عمل في ايران خلال عهد الشاه وهوارد تايشر عضو مجلس الامن القومي واميرام نير وهو مسؤول عن مكافحة الارهاب في الحكومة الاسرائيلية وقد رافق الوفد وهو يحمل جواز سفر اميركياً باسم ميلر. وقد وافق مكفرلين، بطل قضية "ايران غيت"، على ان يخرج عن صمته ويتكلم للمرة الاولى منذ انكشاف امر الاتصالات السرية الاميركية - الايرانية وزيارته السرية الى طهران عام 1986. واتفقت "الوسط" مع مكفرلين على ان يروي لها ذكرياته ويفتح ملفاته السرية ويقول ما لم يقله من قبل، سواء حين كان في الادارة الاميركية او بعد استقالته منها. وتم الاتفاق على عدم نشر اية كلمة من ذكريات مكفرلين هذه في اية مطبوعة اخرى في العالم، عربية كانت او اجنبية، غير "الوسط"، لكن مكفرلين يحتفظ لنفسه بحق نشر مذكراته هذه لاحقاً بعد صدورها في مجلتنا. وفي ما يأتي الحلقة العاشرة من ذكريات مكفرلين: أخذت افكر بما قاله لي هادي نجف ابادي مستشار رئيس البرلمان ورجل ايران "القوي" حجة الاسلام هاشمي رفسنجاني. ففي اجتماعنا الاول يوم الثلثاء 27 ايار مايو 1986 في جناحي في الفندق الذي كان يعرف قبل الثورة باسم "طهران - هيلتون"، عرض مستشار رفسنجاني وجهة نظر الحكومة الايرانية تجاه مختلف القضايا العربية والاسلامية والدولية، وتوقفت خصوصاً عند امرين: 1 - الاول قول هادي لي: "إننا نعرف انكم قلقون من احتمال الانتصار الايراني في الحرب لأنكم تعتقدون انه سيؤدي الى انتشار الاصولية الاسلامية. ولكننا نرجوكم ان تعيدوا درس المسألة وأن تدركوا انه ليست لدينا اية مطامح في العراق او في اي مكان آخر. اذ اننا نريد علاقات مستقرة معكم، ولكن لا بد من ان يذوب جبل الجليد قبل ذلك. فهذه مسألة حساسة ويجب ان تكونوا البادئين لأنكم انتم الذين قطعتم العلاقات. ولكن الخطوات المبكرة لم تكن تبشر بالخير. وها نحن نبدأ المفاوضات في نهاية الامر". 2 - الثاني موافقته على الاقتراح الذي قدمته والداعي الى عقد اجتماعات اميركية - ايرانية للمتابعة، وقوله لي: "نحن مستعدون للسير خطوة خطوة على صعيد تحسين العلاقات الاميركية - الايرانية، ونحن نأمل في اطلاق سراح الرهائن الاميركيين والغربيين المحتجزين في لبنان". بدا لي ان ما قاله هادي يكتسب بعض الاهمية السياسية. والواضح ان هادي رجل ذكي ولديه الخبرة السياسية، وهو متدين لكنه ليس متعصباً. وهو من "الصفوة"، يحاول ممارسة نفوذ متعقل على النهج المضطرب بل والعنيف احياناً للسياسة الايرانية. ومع انه رافق آية الله الخميني في منفاه في العراق اولاً ثم في باريس، وهو من أقارب آية الله منتظري الذي كان اختير خلفاً للخميني، فانه ظهر لي رجلا مسالماً ووديعاً. اذ ان مجازر الحرب مع العراق اثرت فيه كثيراً. ومع انه كان يشعر بالاهانة من التركيبة الاجتماعية التي رسمها الشاه ويعتقد انه يجب إرساء الشريعة الاسلامية كبوصلة اخلاقية للحكم داخل ايران، فانه كان يدرك ان هذا لا يعطي الاطار الكامل للتعامل مع الشؤون الدولية للدولة. ولم يكن يؤيد حملة الخميني النظرية او اوهامه الامبراطورية، كما كان يعتقد ان المساعي المبذولة لتشجيع الانتفاضات الاصولية في الدول الاخرى كانت هدراً للطاقات والموارد التي يجب تكريسها لتعزيز الثورة في الداخل. وبالنسبة الى الأمور الدولية كان واقعياً انضم الى اكثر الاجنحة واقعية ألا وهو جناح رفسنجاني. يكرهون أميركا ويطلبون أسلحة منها ولم يمنع الازدراء الذي تنظر به القوى المهيمنة على السياسة الايرانية الى الولاياتالمتحدة ولا مشاعر الكراهية حيال واشنطن، المسؤولين الايرانيين من مطالبتنا بإرسال الاسلحة اليهم لتدعيم قدراتهم في الحرب مع العراق. الا ان اي مسؤول ايراني له ضلع في عملية التحاور مع واشنطن لا سيما من كان يحاول العمل على انتهاج خط اكثر واقعية تجاه الولاياتالمتحدة، كان عليه ان يسير على طريق حرجة جداً وفي منتهى الخطورة. فمن ناحية، عليه ان يلتزم بخط الدولة الرسمي ولذا كان هناك مترجم في الاجتماع، ومن ناحية ثانية عليه ان يرعى هذه القناة من الاتصالات ويحافظ على استمرارها. اما آخر مسؤول ايراني تعامل مع الشيطان الاكبر، رئيس الوزراء السابق مهدي بازركان الذي اجتمع الى مستشار كارتر بريجنسكي في الجزائر فقد اضطر الى الاستقالة. وحين استرجع ما حدث، يبدو لي ان هادي تخيل زيارتنا لطهران قبل وصولنا على النحو التالي: "لسبب ما وافق الاميركيون على تزويد ايران بالسلاح، لكنه فهم بوضوح اننا لا يمكن ان نعطي اسلحة بالكمية الكافية لتحقيق ايران النصر في الحرب، لأن هذا سيكون ضد مصلحتنا وهكذا قال لنفسه: "حسناً، ان الاسلحة ستثلج صدر الخميني والقوى المتشددة في ايران. وربما استطعنا نحن - اي مجموعة رفسنجاني - اذا كنا اذكياء بما فيه الكفاية استخدام هذه الاسلحة لتعزيز قاعدتنا وتأييدنا داخل الجيش النظامي. ومع مرور الزمن سيصبح ذلك عاملاً مساعداً على جعل الشعب الايراني اكثر قبولاً للمصالحة مع الاميركيين". اما المنطق الذي دفعني انا الى الاستعداد للموافقة على وجود بعد اسرائيلي في مبادرة نقل الاسلحة الى ايران فهو تحديد الجناح الواقعي الأقل عداوة لنا الذي سيطيح بالخميني او يخلفه - الى ان التقيت مانوشير غوربانيفار الوسيط الايراني في كانون الأول ديسمبر عام 1985. وكانت المغامرة تحمل مجازفة خطيرة جداً لأنها تعتمد كلياً تقريباً على العثور على ايرانيين في مكانة تؤهلهم للتصرف، وأن يكونوا على استعداد للتصرف بأمانة وصدق، ومن الواضح ان غوربانيفار لم يكن من هذا النوع من الرجال. ومنذ أول لقاء بيننا شعرت بقوة انه ما كان ينبغي لنا ان نتعامل معه منذ البداية. ومع هذا فان مفهوم العثور على جناح سياسي يبشر بالوصول الى السلطة وتحديد هذا الجناح وتقديم الدعم له - حتى ولو كان ذلك يشمل الاسلحة وقطع الغيار - ليس جديداً. اذ على النقيض من ذلك نجد ان التغييرات في الحكومات الرديئة والجيدة في الشرق الاوسط نجمت تاريخياً عن جهد ناجح بذله رجل قوي او جناح قوي استطاع تجنيد المؤيدين العسكريين، وبالقدر الكافي، للتغلب على مقاومة السلطة وإقامة حكومة جديدة والدفاع عنها في وجه اي هجوم مضاد. اما العملة التي تدفع مقابل تشكيل هذه الاجنحة فغالباً ما تكون الاسلحة. لكننا هنا في الولاياتالمتحدة معتادون على حدوث التغييرات في قياداتنا من خلال العمليات الديموقراطية المشكوفة والعلنية التي يشترك فيها الجميع في انتخابات تعبر عن ارادة الغالبية. ونحن نميل إلى نسيان حقيقة وهي ان ثلثي العالم لا يعرف هذه الخبرة. وفي معظم انحاء العالم غالباً ما تكون التغييرات، من نظام استبدادي الى آخر، نتاجاً لتآمر سري بين جماعات متنافسة. كذلك نميل الى نسيان ان الكثير من تلك الأماكن التي لم يسبق لها ان اختبرت الديموقراطية اطلاقاً، ولربما لن تختبرها ابداً، على غاية الاهمية بالنسبة الىنا والى اصدقائنا وأعدائنا ايضاً. ومن الواضح ان ايران هي احد تلك الاماكن. كذلك ننسى ان الاتحاد السوفياتي السابق كان ناجحاً جداً ولسنوات طويلة في ترويج مصالحه في هذا الجو، من خلال تحديد فئة او جناح راغب او متلهف في تبني النموذج اللينيني الديكتاتوري. وخير شاهد على ذلك سجله بين عامي 1970 و1985، من انغولا الى فيتنام فاثيوبيا ونيكاراغوا. وبمجرد تعزيز اقدام تلك الانظمة كان من المستحيل زحزحتها، حتى جاءت ادارة ريغان وإدارة بوش. رفسنجاني والاتفاق الخطي أما بالنسبة الى هادي فبغض النظر عما كان يفكر فيه في ما يتعلق بموضوع الاسلحة، فمن المرجح انه رأى من الافضل اشراك الاميركيين مع مرّ الأيام في مساعدة ايران ديبلوماسياً على ايجاد حل او مخرج من الحرب بشكل ينقذ ماء الوجه. وفي اثناء ذلك يمكن لبلدينا ان يقيما وسيلة للتعاون بالنسبة الى أفغانستان مما سيساعد على ردع الأطماع الروسية التي قد تظهر تجاه ايران. ولكن بمجرد وصول مجموعتنا الى طهران، سرعان ما اتضح له ان هناك قدراً خطيراً من سوء الثقة بيننا نتيجة ازدواجية غوربانيفار التي مضى عليها عدة اشهر. فمع ان هادي ربما انخدع بكلام غوربانيفار المعسول في الماضي فان ذهولنا وغضبنا لدى الوصول كشفا حقيقة ما حدث. دام اجتماع هذا الصباح ما يزيد قليلاً على ساعتين. وعندما نهض هادي استعداداً لمغادرتنا، اخذ يدي بين يديه وحدق بعينيه في عيني مرة اخرى وقال: "ان هذا الاجتماع كان في غاية الأهمية، وهو بداية لما يجب علينا ان نبقيه مستمراً". الا انه كانت هناك نغمة من الاستسلام في تصرفه، وهو إحساس بأن عدم الثقة النابع من كذب غوربانيفار لخدمة مصلحته الشخصية إضافة الى الخوف والانشقاق داخل الحكومة الايرانية، ستعمل جميعاً على إجهاض هذه المهمة. عاد هادي الى جناحي حوالي الساعة الخامسة. وفي الساعات التي مضت كان منهمكاً مع رفسنجاني في محاولة لتضييق الهوة بين ما قاله غوربانيفار لهم وبين الحقيقة. وكان يُعرف عن هادي انه كثيراً ما اصلح ذات البين بين رفسنجاني ومنتظري. كذلك عمل لفترة من الزمن مع وزير الداخلية محتشمي المعروف بتطرفه، ولكن هادي شعر بخيبة امل من محتشمي. وفي الوقت نفسه كانوا يحاولون تقرير المدى الذي يمكنهم الضغط فيه على الخاطفين من حزب الله في لبنان. وكان من الواضح ان ضغط دمه بدأ يرتفع. ولو كنت مكانه لحدث معي الشيء ذاته. اذ انه كان مراقباً ويشعر بالغيظ لأن مجموعة من وزارة الخارجية وبينها شاب لا مبالٍ، تحصي عليه انفاسه. كذلك كان هناك مساعد لرئيس الوزراء وهو خياط سابق اشبه بأفضل دعاية لغيره من الخياطين. وكان يصل الى كل اجتماع لاهثاً وكأنه خرج راكضاً من الحمام. افتتح هادي الاجتماع الثاني معنا بأن قال انه نجح في إزالة جميع الشروط التي وضعها حزب الله لاطلاق سراح رهائننا، باستثناء شرط إطلاق سراح السجناء من انصار حزب الله في الكويت. وقال انه ورفسنجاني أبلغا حزب الله انهما سيحاولان الحصول على وعد منا باطلاق سراح السجناء قريباً. وإدراكاً منه بأن هذا الكلام لن يقنعني سارع الى تغيير الموضوع، وقال انهم يقبلون حقيقة حدوث سوء تفاهم، وان افضل طريقة هي تجنب الملامة والعتاب وبحث الامور الأهم. وبدأ بالقول: "اذا وصلت الطائرة التي تحمل بقية قطع الغيار الى طهران قبل صباح غد فانه سيفرج عن الرهائن بحلول الظهر. فنحن لا نريد ان نرى فشل اتفاقنا في هذه المرحلة النهائية". محادثات الاسرائيلي نير مع الايرانيين وفي ضوء ثلاثة التزامات مماثلة في الماضي، لم ينفذ اي منها، حولت المناقشة حين قلت: "هل يمكن ان نفصل القضية… كبادرة انسانية؟ بامكانكم ان تطلقوا سراح الرهائن، وبعدئذ سنسلمكم بقية الاسلحة؟" "حسناً" قال هادي. لكنه استطرد قائلاً ان رفسنجاني يريد الاتفاق على الشروط النهائية خطياً. وأعرب عن اعتقاده ان هذا قد يكون صعباً الليلة، ولهذا سألني اذا كان في الوسع ان ابقى او ان اترك مسؤولاً في طهران للتوصل الى الاتفاق. وبدا لي ان الجانب الايراني يواجه تشدداً للمرة الاولى. اذ ان غوربانيفار كان اخبره ان المسؤولين التابعين لي اكثر مرونة مني. ولهذا لم يكن من المستغرب انهم ارادوا استثنائي. وعندها قلت: "لو ان هذه الروح كانت موجودة في اول لقاء بيننا قبل عام لكان من الواضح اننا سنتوصل الى اتفاق. ولكن لسوء الحظ وصلنا الى هذه النقطة بعد عام وثلاث محاولات لم تفوا فيها بالتزاماتكم. وقد اثر هذا في رأي الرئيس ريغان ان في استطاعتنا الاعتماد على اي التزام. ومع ذلك وافق ريغان على مواصلة هذه الجهود انطلاقاً من اعتقاده ان هناك مشكلات اكبر يجب ان نتحول اليها. الا ان حالات الفشل العديدة اثرت في ثقته بامكانية قدرتنا على العمل معاً. ومع ذلك فانه على استعداد للمحاولة مرة اخرى. وقد بلغه في الاسبوع الماضي اننا توصلنا مرة اخرى الى اتفاق. لكن تعليماته، حين ارسلني الى هنا، هي انه اذا لم تتحقق نتائج هذه المرة فان من العقم مواصلة حوار لا جدوى منه. وتعليماتي حازمة وهي ان نتوقف عن المحادثات اذا لم نتوصل الى نتائج". وأوضحت انني سأغادر في اليوم التالي، سواء حصل اتفاق ام لا. دام الاجتماع حوالي ساعة من الزمن. وبعد ان غادر هادي جمعت فريقنا لتناول العشاء في جناحي. ولم نتحدث كثيراً لأننا افترضنا ان الآخرين سيسمعوننا. وبعد العشاء خرجنا الى الشرفة، هاوراد تايشر، أوليفر نورث، نير وكيف، وأعربوا جميعاً عن اعتقادهم ان الخط المتشدد الذي انتهجته بدأ يترك فعله وان الايرانيين سيسلمون الرهائن في النهاية. وأكدت للجميع انه ليس في وسعنا اطلاقاً ان نتراجع عن موقفنا. يجب تسليم الرهائن الأربعة الينا اضافة الى رفات وليام باكلي قبل تسليم اي شيء الى الايرانيين. وهز الجميع رؤوسهم بالموافقة، لكنني لاحظت ان اميرام نير لم يكن متحمساً. وكنت اصطحبته على حدة، يوم امس وقلت له بكل صراحة ان اجتماعاته ومحادثاته المنفصلة مع الايرانيين في الممرات خلال الاستراحة من الاجتماعات، كانت تقوض مهمتي وطلبت اليه وقف تلك التصرفات فوراً. وأميرام نير مسؤول عن مكافحة الارهاب في الحكومة الاسرائيلية، وقد رافق الوفد الاميركي الى طهران وهو يحمل جوز سفر اميركياً باسم ميلر. ضغوط على مستشار رفسنجاني كان منتظراً ان يعود هادي الى جناحي في التاسعة والنصف تلك الليلة لكي يبذل جهداً جديداً من اجل وضع اتفاق خطي بيننا لاطلاق سراح جميع الرهائن والانتقال الى القضايا الاكبر. وأصدرت تعليماتي الى هاوارد تايشر وأوليفر نورث لمتابعة فكرتين تهدفان الى بناء الثقة لدى الجانبين، وكنت طرحتهما في لقائي مع هادي في الصباح. الأولى هي اقتراح اطلاق سراح رهائننا، ورهن بالتزام الايرانيين بانهاء الارهاب ضد الغرب فان كلا الطرفين سيلتزمان بتخفيف حدة الحملات الكلامية على بعضهما البعض خلال الأشهر المقبلة. فمثل هذه الخطوة ستبدأ بتغيير الجو السائد في كل من البلدين، وتسهل مع مرور الزمن قبول شعبيهما وجود علاقة عادية بينهما. وإدراكاً مني ان الاتحاد السوفياتي كان يراقب من دون شك اتصالات غوربانيفار الهاتفية من اوروبا الى الولاياتالمتحدة، ورغبة مني في التخلص منه كوسيط، اقترحت اقامة مركز اتصالات مأمون بين الاميركيين والايرانيين من رجلين في طهران من اجل ضمان المحافظة على تبادل المعلومات بطريقة مأمونة ومباشرة. وأخيراً وفي محاولة لاختتام الأمور اصدرت تعليماتي الى اوليفر لكي يؤكد وجوب حصولنا على جواب بحلول الساعة الرابعة من صباح غد، اي بعد حوالي ثماني ساعات. وتوجه الفريق لتنظيم الاجتماع، بينما تخلفت انا. وصل هادي في التاسعة والنصف وباشر العمل مع اعضاء الوفد الاميركي لمحاولة التوصل الى بنود الاتفاق الخطي بيننا. وفوراً شرع الايرانيون في التراجع عن التزامهم السابق باطلاق سراح الرهائن، وقالوا: "لا يزال هناك الكثير من العمل". اذ ارادوا ان يعرفوا ماذا نريد ان نقول عن السجناء المعتقلين في الكويت واعتقاداً من اوليفر انهم كانوا يبحثون عن مبادرة تنقذ ماء وجه الخاطفين اكثر مما يبحثون عن نتائج فعلية، اي اطلاق سراح السجناء في الكويت، فقد اقترح فكرة فحواها ان الولاياتالمتحدة ستعمل في اطار الهيئات الدولية ومع الأفراد وكان في ذهنه تيري وايت مبعوث الكنيسة الانكليكانية من اجل تحقيق معاملة عادلة للشيعة في كل مكان. قالوا انهم سيفكرون في ذلك. ولكن بحلول الساعة الحادية عشرة وصلت المحادثات الى طريق مسدود. فطلبت ان يحضر هادي الى جناحي. كنت اريد ان اعرف منه، من دون وجود المرافقين والمراقبين من المعسكرات السياسية الاخرى، المدى الذي استطاع الوصول اليه مع رؤسائه وما هي الفرص الحقيقية لاحراز تقدم فعلي. كان منهكاً لكن معنوياته عالية. قال انه يريد المزيد من الوقت. ولم اكن متأكداً آنذاك اذا كان التأجيل نتيجة عناد بحت من رؤسائه، او ان هناك مزيجاً من الخوف والبلبلة وعدم الكفاءة، مما يحتاج الى دراسة الامر. ولم يبد لي آنذاك ان في ذلك اي ضير. فاذا كان لعلاقتنا ان تتطور فعلاً فلا بد من وجود بعض الانضباط والقواعد الاساسية منذ البداية. لقد كان هذا أول اجتماع لنا مع المسؤولين الايرانيين، ولا بد من تحديد معايير معينة. فقبل كل شيء لا تدعو مبعوثاً على مستوى وزير، من منظورنا، الى بلادك استناداً الى ان بعض الاحداث ستقع، ثم لا تفعل شيئاً لمدة ثلاثة ايام. وتمسكت بموعد الرابعة صباحاً للحصول على ردهم. وغادر هادي. ثم اتصلت بجون بويندكستر مستشار ريغان لرفع تقرير عما وصلت اليه الامور. وكررت توصيتي السابقة وهي اننا يجب ان نتمسك بتفاهمنا الأول للاتفاق، وألا نتفاوض على شروط جديدة، وطلبت اليه ان يبلغني اذا كان الرئيس يختلف معنا. فرد علي جون قائلاً انه سلم الرئيس برقيتي السابقة وان الرئيس قال بعد ان فكر فيها: "ان روبرت هو الموجود هناك ولا احد يستطيع ان يحكم ما الذي سينجح. ان عليه ان يفعل ما يعتقد انه الأفضل". وكان في ذلك هداية جيدة لي. وعندها أويت الى الفراش. في حوالي الساعة الثانية صباحاً ايقظني اوليفر نورث وهاوارد تايشر ليقولا لي ان هادي عاد. ومن وجهه اتضح انه كان تحت ضغط هائل. ومع ذلك قال بنبرات ثابتة متزنة إنه على رغم ان حكومته تعمل بأقصى جهد ممكن فانها لا تستطيع الحصول على جواب لنا قبل الساعة السادسة صباحاً، اي بعد أربع ساعات. عندها قلت إنني طلبت الى اعضاء الوفد المرافق لي الاستعداد للرحيل، وأضفت القول انه اذا اعطاني وقتاً محدداً لاطلاق سراح الرهائن فانني استطيع ان اطلب اقلاع الطائرة قبل ذلك الوقت لكي اضمن وصولها بعد ساعتين من تسليم الرهائن الى السفير الاميركي في لبنان بارثولوميو. وكنت اهدف من وراء ذلك الى مواصلة الضغط عليه بعدم قبولي طلبه تأجيل الرحيل او عدم الرحيل مثلما طلب مني، مع التأكيد في الوقت نفسه على حسن نيتي نظراً الى جهوده الحثيثة لتلبية مطالبنا. وفكر ملياً في ما قلته ثم قال انه سيعود قبل السادسة صباحاً، وغادر في حوالي الساعة الثانية وعشر دقائق. قبل الساعة السادسة بقليل ايقظني اوليفر نورث. قال لي انه اتصل بالطائرة لكي تقلع من تل ابيب تحسباً لعودة هادي بنتائج فعلية في السادسة. ومعنى ذلك ان الطائرة يمكن ان تصل طهران حوالي العاشرة صباحاً، اي بعد أربع ساعات من الآن. ولما لم يحدث اي شيء فان اوليفر افترض انني كنت اريد اصدار تعليماتي الى الطائرة للعودة. وفعلاً قلت له: "نعم اطلب اليها ان ترجع". كان من الصعب جداً ان اشعر بالغضب من اوليفر. وفي هذه الحالة توقعت انه كان أبلغ غوربانيفار انه طلب الى الطائرة الاقلاع على أمل ان يحفز ذلك الايرانيين على اطلاق سراح الرهائن. لكنه لو سألني قبل ذلك لرفضت اقلاع الطائرة لأنني اعرف ان اقلاعها سيترك اثراً عكسياً، اي انه سيظهر تردداً لدينا. الا ان تصرف اوليفر كان نابعاً من إخلاصه. اذ كرس قدراً هائلاً من الطاقة لأشهر طويلة من اجل ارساء هذه القناة من الاتصالات. منذ اللحظة الاولى التي بدأت العمل فيها مع اوليفر نورث في شهر كانون الثاني يناير عام 1982، كنت اعرف انه رجل فعل لا رجل تحليل. فهو يتعامل مع تكتيكات انجاز المهمة. وكان دائماً يترك لي، وأعتقد ان لجون بويندكستر بعدي، مسألة تقرير اذا كانت المهمة جزءاً من استراتيجية اكبر وإذا كانت الاستراتيجية سليمة. وقد رأى في عمله تسلقاً للجبال ولذا بذل كل ما لديه لكل جزء منه. ولم يسبق لي ان عرفت منه إطلاقاً السير في اتجاه جديد او عمل جديد من دون الرجوع الي. وإذا ما فعل ذلك فانه سيكون يعرف انني اؤيد الهدف منه، ولكي يحميني ويحمي الرئيس من اية مجازفة سياسية او مخاطرة ينطوي عليها الأمر. ولكن هذا غير ممكن لسوء الحظ. اذ انني والرئيس ريغان مسؤولان عن تصرفات جميع اولئك الذين نتولى امرهم. وكان لديه ما بين الحين والآخر "فكرة جيدة" تحتاج الى ان "تنتزعها الحقيقة والواقع". فمثلا خرج اوليفر نورث في خريف عام 1984 بفكرة اقناع شخص عادي بالتبرع بطائرة عمودية للمتمردين في نيكاراغوا الكونترا. لكنني رفضت الفكرة لأنني ارتبت في شرعيتها. ولكن، وفي المرات القليلة التي حدث فيها ذلك، اعتقد انه كان يقبل الأوامر وينفذها حين تكون حازماً معه وتوضح له الحدود التي يجب ان يعمل ضمنها. وخلال السنوات الأربع التي عملنا فيها معاً، كنا على علاقة وثيقة جداً، وهو فعلاً اكثر شخص رأيته في حياتي يعمل بتلك المشقة. ولم يكن دافعه لذلك نيل حظوة عند رئيسه اطلاقاً إذ انني كنت اشعر دائماً ان السبب الذي دفعه الى بذل ذلك الجهد العظيم في المهمة يعود الى سخريته من السياسيين وتفانيه في انقاذ الحياة البشرية، وهما صفتان طورهما بقوة خلال حرب فيتنام. فالاميركيون لم يحصلوا ابدا على وجهة نظر دقيقة لحرب فيتنام من منظور الجندي. والافلام العديدة التي تصور الجنود في فيتنام بأنهم ساديون منحلّون عديمو الاخلاق وأوغاد، او أبرياء يثيرون الشفقة، فيها تعميم، بل هي غير صحيحة. فمجرد بدء الفهم لما حدث في فيتنام يحتاج قبل كل شيء الى قبول حقيقة ان كل من خدم في فيتنام كان يفكر كثيراً فيها. وهناك اكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون من الاميركيين الذين سألوا انفسهم اذا كانت المسألة تستحق خوض تلك الحرب في فيتنام. وقد فكروا ملياً في السؤال والاجابة، وانتهى معظمهم بتبرير الخدمة. وهذا قطاع لا يمكن اغفاله. فالناس لا يجازفون بحياتهم الا اذا رأوا سبباً وجيهاً لذلك. وهذا ما فعله اكثر من ثلاثة ملايين اميركي في فيتنام. لماذا إذن؟ اعتقد لأننا وجدنا في نشاط كل يوم ما هو جيد او نستطيع الدفاع عن جودته في عقولنا، وبالتالي وجدنا انه يجب ان يستمر. صحيح اننا جئنا الى فيتنام ايضاً بمشاعر وأحاسيس من الوطنية واستجابة الضمير لدعوة الرئيس الينا بأن الحرية تتعرض للخطر. ولكن الاستمرارية اليومية في فيتنام تحتاج الى اكثر من كل ذلك. فأنا اعتقد ان رؤية الفيتناميين ورد فعلهم الانساني على وجودنا هناك وعرفانهم بالجميل وقراءتك لما تقوله عيونهم عن الفرق بين الحرية وبين ما سيأتيهم من فيتنام الشمالية، كل هذا يجعلك تشعر ان هناك ما يستحق الدفاع عنه. وأخيراً كان هناك، بالنسبة الى معظمنا، الايمان الذي غرسه فينا رئيسنا الشاب بأنه يمكن، بل وينبغي تنظيم ثروتنا بنجاح لمحاولة تمكين الآخرين من التمتع بالحرية التي نتمتع بها نحن في وطننا. قد يكون في هذا سذاجة. ولكنه لا ينطلق ابداً من اي احساس بالسخرية او الفساد او انعدام الاخلاقيات او الانحلال. وإذا ما صمدت لعام او اكثر فان ما بدأ كعقيدة محفوفة بالشكوك والتردد سرعان ما يصبح عقيدة راسخة. وهكذا فقد غادرت فيتنام مع اوليفر ونحن نقول لأنفسنا: "ان ما فعلناه كان يستحق الجهد على مستوانا نحن - اي على المستوى الانساني". لكننا خسرنا والسبب الأساسي هو عجز قيادتنا السياسية عن اقناع الشعب الاميركي بأهمية ما كنا نقوم به وعجزها عن وضع الاستراتيجية اللازمة للانتصار وتطبيق تلك الاستراتيجية. وبسبب هذا العجز الرهيب فقد مئات الآلاف من الفيتناميين والاميركيين. ولا اظن ان هناك احدا ممن اشتركوا في القتال على ارض المعركة في فيتنام او في قراها يمكنه اطلاقاً ان يفكر في الخسارة الرهيبة في الأرواح نتيجة فشلنا من دون ان يشعر بالاشمئزاز. وبدأ معظمنا يستوعب تدريجياً حقيقة الخسارة والهزيمة، ويطور قبولاً لحقيقة مهمة، وهي انه على رغم الأسباب الاخلاقية لهدفنا الاصلي، اي محاولة ضمان حق تقرير المصير، فان من الخطأ ان نكرر ما فعلناه في اي مكان آخر، الا اذا كانت حكومتنا قادرة على انجاز المهمة. غير ان الرسالة التي خرج بها اوليفر كانت ذات طبيعة شخصية أيضاً وهي انه ينبغي عليك حين تضع شخصاً ما في مواجهة الخطر، ألا تهجره او تتخلى عنه ابداً، ومهما كان الثمن. مغادرة طهران وهكذا، وفي الساعة السادسة من صباح ذلك الأربعاء، وبعد ان اخذ يتضح لنا اخفاق محاولة ضمان اطلاق سراح أولئك الرجال تألمت لأوليفر نورث. وفي سياق آخر تألمت ايضاً لهادي. فمنذ زيارته السريعة قبل أربع ساعات ليطلب المزيد من المهلة لم انم الا بصورة متقطعة. فقد بقيت افكر في اليأس الذي ارتسم على محيّاه. اذ كان يأمل في الكثير الكثير. ومع انه كان يدرك ان الساعات الاثنتين والسبعين الاخيرة من حياته كانت خير دليل على الفوضى والانقسام داخل حكومته مما سدّ الطريق امام احراز اي تقدم في جدول اعماله، فان هذا لم يكن فيه اي عزاء له. وحين التقت اعيننا هنيهة ادركنا مع مزيد الأسى ان الوقت لم يحن بعد. فمع انه كان هناك الكثير من المعتقلين فانه كان هناك ايضاً عدد اكبر مما ينبغي من الضعفاء الذين يحولون دون اتخاذ القرارات الحاسمة. وطلبت من اوليفر ان يجهز السيارات لتنقلنا الى المطار. اذ اننا حزمنا حقائبنا في الليلة السابقة وتركناها على مرأى من نظرائنا الايرانيين لمحاولة اخفاء المصداقية على العهد الذي قطعناه بالرحيل. وقبل الثامنة بدقائق وصل "الخياط" ليبلغنا "انهم يعتقدون ان في الامكان اطلاق سراح اثنين، ولكن لا بد من "عمل مشترك" من اجل الاثنين الآخرين". وتجاهلته ثم اومأت الى فريقي بالتوجه الى السيارات للانطلاق نحو مطار مهرباد. ولم تمضِ دقائق حتى وصل هادي حاملاً العرض نفسه. قلت له: "انت تعرف موقفنا. عندما تلبون مطالبنا بامكاننا الحديث". ولم يرد عليّ. لقد فهم الوضع ولم يحاول مخالفة معاييره اومعاييرنا نحن. في المطار طلبت من مستشار رئيس الوزراء الايراني ان يبلغ رؤساءه ان هذه "هي المرة الرابعة التي لا يحترمون فيها الاتفاق بيننا. ولذا سيظل انعدام ثقتنا قائماً لفترة طويلة، ان فرصة ثمينة ضاعت". وبدا الرجل مذهولاً بحق. اذ انه كان يتوقع مني التفكير في العرض باطلاق سراح اثنين من الرهائن. ولم اعرف الا فيما بعد ان نير اقترح في محادثة اخرى مع الايرانيين اطلاق سراح اثنين اذا عجزوا عن اطلاق سراح الأربعة لأنني يمكن ان اقبل هذا الحل. لقد كان اقتراحاً شنيعاً. ولكن تلك المحادثة التي دامت عشرين ثانية فقط اثبتت بوضوح مدى الاختلاف بيننا وبين الاسرائيليين وأظهرت لماذا سيكتب الفشل المحتوم لمثل هذا التعاون بيننا. وهكذا غادرنا طهران. الاسبوع المقبل: الحلقة الحادية عشرة