"ان موقعنا الجغرافي يفرض علينا، للأسف، جيراناً مثل العراق وأفغانستان. ولا نستطيع لذلك شيئاً". العبارة هذه لم يقلها الامبراطور "الزرادشتي" محمد رضا بهلوي، ولا قال مثلها الأديب "الفرعوني" توفيق الحكيم، او السياسي "الانعزالي" بيار الجميّل. وهي ليست من بنات الماضي وبدايات مراحل التأثّر بالغرب وانفتاح الأقليات على أوروبا. العبارة قالها، قبل ايام قليلة، وزير خارجية الجمهورية الاسلامية الايرانية، كمال خرازي. ولو أنه تحدث قبل اسبوعين لأضاف تركيا الى القائمة بسهولة. فتركيا المسلمة كانت تبدو يومها على أهبة حرب مع جمهورية خرازي "الاسلامية". وأن تكون ايران "آسفة" بسبب محيطها العراقي - الأفغاني، فهذا صرخة ضد الثورة التي يمثّل خرازي ديبلوماسيتها. فالثورة، بعد كل حساب، حاولت، بطريقتها، ان تصالح ايران مع هذا المحيط، بعدما "غرّبها" الشاهان عنه. والراديكاليات القومية والدينية تستعين دائماً بالطبيعة وتتحالف مع الجغرافيا، ضد ما تفعله صناعة البشر من تغيير و"تغريب". ألم يصف الرئيس حافظ الأسد علاقة سورية بلبنان بعمل الله وعمل الطبيعة مما لا يستطيع الانسان تغييره؟ لكن يبدو الآن، فيما النظام الخميني مقسوم على نفسه، ان جماعة خاتمي بدأت تقول كلاماً رمزياً ضد جماعة خامنئي. فهذه الاخيرة لا تزال صريحة في تمسّكها بمكافحة التغرّب، لا مكافحة ما يرد من المحيط. وفي وسع خاتمي وجماعته أن يلجأوا الى التاريخ، وهي عادة ايرانية قديمة، ليقولوا إنهم مختلفون عن المحيط. ويمكنهم ان يجدوا حججاً لاختلافهم ترقى الى الزمن الصفوي، والى الأخذ بمذهب في الاسلام غير مذهب الجوار والمحيط. وقد يظهر، في هذه الغضون، من يذكّر بالآرية والهندو - أوروبية. وثورة الخميني حملت، منذ بداياتها، جنينين، فجاء في دستورها الاول ان الدولة "الاسلامية" لها مذهب رسمي هو "الجعفري". وربما جاء تطرّف طهران، في وجه منه، مباهاةً ومزايدةً على "المعتدلين" في الجوار كأنها تقول: "ما لا تستطيعون ان تفعلوه انتم، اهل الاكثرية، نفعله نحن، اهل الاقلية". والفلسطينيون جاهزون دائماً لأن يكونوا موضوع هذه المزايدة عليهم من أطراف شتى تغايرهم مذهباً وتفوقهم فلسطينية! وهذا، بين امور اخرى، تغيّر مع خاتمي الذي دأب على تحسين العلاقة مع دول الخليج، ونجح الى حد معقول. لكن الخليج لا يقع في الجوار السيء الذي يقصده الوزير الخاتمي، وهو جوار هائج ومضطرب يشبه الشريك الثوري خامنئي في هياجه واضطرابه. فالثورات كما تأكل أبناءها، تفرز دعواتها الكثيرة الاولى، فيأخذ هذا الجناح بهذه الدعوة، ويستقل ذاك بتلك. ومثلما بدأ غورباتشوف محاولته الاصلاحية باعادة الاعتبار لبوخارين، ربما فكّر الخاتميون بشيء مشابه هو اعادة الاعتبار لأمثال بازركان: رئيس الحكومة الجمهورية الاولى الذي شاء الثورة امتداداً لما بدأه مصدّق في الخمسينات، لا قطيعة مع التاريخ المديد الذي يفصل عن الاسلام الاول. وعند بازركان كانت ايران اولاً، وكان الاسلام المقصود اسلامها هي، والمكوّنَ الأبرز في ثقافتها الوطنية. وكلامٌ كهذا يوسّع دائرة الخاتميين قبيل انتخابات مجلس الشورى، فيزيد في اغراء من هم امثال رفسنجاني الذي ضُبط مرةً برغبة الفرار من المحيط في اتجاه آسيا، ومرةً برغبة الفرار الى واشنطن على جناحي مكفرلين واوليفر نورث. وهو يخاطب الشاهنشاهيين ودعاة "التغريب" جميعاً. وفي الأحوال كافة يبقى الأسف حيال الجغرافيا اسماً حركياً للأسف حيال التاريخ. وهذه محطة خطيرة في فرز طروحات الثورة وانتصاف شرعيتها