حتى شهر آب اغسطس من العام 1990، كانت المشكلة الاهم التي تواجه القطاع المصرفي الخليجي تتمثل، بالدرجة الاولى، في تجاوز قضية المديونيات الصعبة التي تورط بها بعض المصارف الخليجية اواخر السبعينات، وفي النصف الاول من الثمانينات، في ظل فورة العائدات النفطية والتوسعات التي واكبتها في قطاعات اقتصادية مختلفة، والتنافس المحموم الذي قاده بعض المصارف لتوظيف فائض السيولة لديه من دون ضمانات كافية في احيان كثيرة، بما يتجاوز الى حد واسع الاصول المصرفية التي يجب اعتمادها. وباستثناء المصارف الكويتية التي كانت لا تزال تعيش في ظل الصدمة التي احدثها انهيار سوق المناخ في الكويت، فإن كثيراً من المصارف الخليجية فضلت الاندفاع في الاسواق المالية الدولية لاستثمار سيولتها المتزايدة في ظل رقابة حكومية غير فعالة، ومن دون مراعاة الحد الادنى من الضمانات الواجب توافرها. وباستثناء اصوات محدودة جداً حاولت استشراف المستقبل، فإن هاجس القطاع المصرفي الخليجي كان الوصول الى استيعاب ازمة المديونيات، وعدم ترك "النار تحت الرماد". وفي آب اغسطس 1990، ومع الغزو العراقي للكويت، كان على القطاع المصرفي الخليجي ان يواجه اخطر مشكلة عرفها في تاريخه، وتمثلت بأجواء الهلع التي اصابت الخليج ودفعت بالكثيرين الى تحريك اموالهم نحو عملات ودول يعتبرونها اكثر اماناً. وبالفعل، فقد واجهت المصارف، وفي خلال اقل من اسبوعين على غزو الكويت، انتقال ما يزيد على 15 مليار دولار، تمثل حوالي 20 في المئة من الحسابات القابلة للسحب والتحويل، الى الخارج. وكان يمكن لهذه الكتلة ان تصبح كتلة ثلج تتضخم مع الوقت، ويصبح من المستحيل مواجهتها، لولا الاجراءات التي سارعت اليها المصارف الخليجية، بدعم من المصارف المركزية في بلدانها، وساعدت على التقليل من اجواء تقلص الثقة بمستقبل الوضع. فحصلت المصارف على تغطية كافية من المصارف المركزية التي تدخلت علناً وضخت مزيداً من السيولة لاستيعاب التوسع في الطلب على التحويل الى الخارج. ونجحت هذه السياسات المنسقة في استيعاب الصدمة الاولى، وفي توفير حد كاف من الثقة بمستقبل الوضع في المنطقة، وخففت من وتيرة التهافت على التحويل الى الخارج، الا ان السؤال الذي طرحته هذه الازمة هو: هل يستطيع القطاع المصرفي في الخليج الصمود في وجه الانهيار. وما هي درجة الانهيار الذي سيحصل؟ ولقد عززت النتائج الضعيفة، لا بل السلبية التي حققها الكثير من المصارف، هذا التساؤل. وبلغت الخسائر في بعض المؤسسات المصرفية مستويات لم تبلغها من قبل، وحقق "بنك الخليج الدولي" مثلاً في العام 1990 خسارة بلغت 430 مليون دولار. لكن هذه المرحلة لم تدم كثيراً. وعلى خلاف ما ذهب اليه الخبراء المصرفيون الذين توقعوا حصول انهيار ما، فإن المصارف الخليجية ما لبثت ان استعادت صورتها السابقة، وبدأت تغطية الخسائر، حتى ان معظمها بدأ تحقيق الارباح. واظهرت نتائج العام الماضي، والنصف الاول من العام الجاري، ان مؤسسات مصرفية كثيرة نجحت في تجاوز عقدة حرب الخليج، ونجح "بنك الخليج الدولي" الذي كان حقق خسائر وصلت الى 420 مليون دولار، في تغطية خسائره، وفي تحقيق ارباح بلغت في العام الماضي 46.5 مليون دولار، ويقدر ان تتجاوز هذا الرقم بكثير في نهاية العام الحالي، استناداً الى ادارة البنك. كذلك، تتوقع المؤسسة المصرفية العربية ان تحقق في نهاية العام 1992، ارباحاً تصل الى 100 مليون دولار، بعدما حققت ارباحاً في العام الماضي بلغت 45 مليوناً، لتقفل ملف خسائر العام 1990. وفي السعودية، اظهرت النتائج للاشهر الاولى من العام الجاري ان معظم المصارف الوطنية استعادت حيويتها السابقة، لا بل ان بعضها حقق ارقاماً قياسية، بسبب عودة "الطفرة" الى المنطقة، وتوافر مستويات عالية جداً من السيولة، وان كانت المصارف الاجنبية او المشتركة الاكثر افادة من اجواء عودة الثقة. وهكذا، تجاوزت مصارف الخليج ازمة غزو الكويت وما رافقها من افرازات اقتصادية وسياسية ومعنوية في فترة زمنية قياسية. الا ان التخوف الذي يجمع عليه معظم المراقبين المصرفيين في الخليج هو ان هذه المصارف التي تجاوزت ازمتها، ستعود الى "النوم على مشاكلها الاساسية" مع ما يعني ذلك من اقفال ملف الاصلاح المصرفي الذي فتح على مصراعيه قبل الازمة وخلالها. وما يدعم هذا الاعتقاد هو ان معظم المصارف التي حققت ارباحاً عبرت عن اكتفائها بهذه الارباح، من دون ان تبادر الى طرح موضوع اعادة هيكلية القطاع المصرفي، في ظل حاجة اوسع الى تفعيل دور المصارف المركزية واجهزة الرقابة وجعل عمليات تدقيق الحسابات اكثر جدية. لقد اعتبرت الهزة التي رافقت حرب الخليج، وطالت المصارف، حافزاً لاحياء مشاريع الاصلاح المصرفي، ورفع الملاءة المالية لها، وتحقيق مشاريع الدمج، لانشاء مؤسسات قوية تستطيع التعامل مع الاسواق المصرفية والمالية العالمية. وعقد محافظو البنوك المركزية في خلال الاشهر الماضية اجتماعات متتالية لتنسيق سياساتهم النقدية والمالية والمصرفية، الا ان هذه الاجتماعات لم تحرز النتائج التي كان بعض المتفائلين يتوقعها، ربما بسبب حاجة مسألة الاصلاح وتحديث البنى المالية والمصرفىة الى المزيد من النضوج، على غرار ما حصل في اطار السوق الاوروبية المشتركة التي احتاجت الى اكثر من 25 سنة للوصول الى الغاء الحدود المالية والمصرفية في ما بينها، وتحتاج الى 7 سنوات جديدة، حسب اكثر المراقبين تفاؤلاً، لتوحيد عملتها. وعلى رغم حاجة القطاع المصرفي الخليجي الى الاصلاح، الا ان الاوضاع، ومعها الحاجة، تتفاوت بين دولة واخرى. فالمصارف الكويتية تشعر حالياً بالرضى بسبب اقرار الحكومة لخطة شراء المديونيات الصعبة التي يعود قسم منها في اصوله الى ما قبل الغزو العراقي للبلاد، وتحديداً الى انهيار "سوق المناخ" في العام 1982. واذا كانت الخطة الحكومية اثارت غباراً كثيراً واعتبرها كثيرون ستاراً من الدخان لشطب ديون فئة نافذة في البلاد، الا انها جاءت بالنسبة الى المصارف "فرصة لاستعادة العافية والانتعاش وتجاوز المصاعب المستمرة منذ سنوات". لكن "الرياح لا تجري كما تشتهي" المصارف الكويتية على ما يبدو. اذ تستمر اشارات سلبية بالظهور، وتتمثل في استمرار خروج الرساميل من الكويت الى الخارج، على رغم التطمينات التي حاول البنك المركزي توفيرها. وبحسب محافظ البنك المركزي الكويتي الشيخ سالم عبدالعزيز الصباح، فإن "التدفق الى الخارج ليس طبيعياً والرساميل الوطنية تتحرك بشكل غير مرض". اما العملية الجراحية التي يبدو انها ستكون "آخر الدواء"، فربما كانت سياسة الدمج لانشاء مصارف وطنية قوية. لكن هذه السياسة لن تكون قابلة للتنفيذ قبل العام المقبل. ويجب ان تسبقها اجراءات ممهدة مثل انجاز المصارف لموازناتها السنوية بعد اقرار قانون المديونية الهالكة، اذ من غير الممكن عملياً "الزواج" بين مصرفين او اكثر من دون ان يعرف احد من "الازواج" ما له، وما عليه تجاه الآخرين. وتناقش الحكومة الكويتية في الوقت الحاضر، وفي اطار زيادة عوامل الثقة بالقطاع المصرفي الوطني مشروعين، يرمي الاول الى السماح للمصارف الاجنبية والخليجية بفتح فروع لها في الكويت، او باقامة مؤسسات مصرفية مشتركة تساهم فيها مصارف خليجية الى جانب المصارف الكويتية، فيما يرمي المشروع الثاني الى اقامة نظام الودائع، على غرار ما هو معمول به في معظم الدول ذات الانظمة المصرفية المتطورة، ويستعرض الكويتيون مجموعة من الصيغ لضمان حقوق المودعين قد تكون الصيغة الاميركية اكثرها جاذبية. الا ان هذا المشروع مرشح للانتظار، اقله سنتين والى ما بعد تنفيذ مشاريع الدمج المنتظرة. ولا تنسحب الصورة المصرفية الكويتية على القطاع المصرفي الخليجي بكامله، وان كانت هناك حاجة مشتركة لاعادة الهيكلية. وتنحصر "الهموم المصرفية" في دولة الامارات العربية وسلطنة عمان مثلاً بمسألتين: الاولى انهاء قضية المديونيات الصعبة التي تحملها مصارف محدودة منذ الثمانينات في حين ان الثانية هي ايجاد الحوافز الكافية لزيادة ملاءة المصارف الوطنية، اما بزيادة رساميلها الى المستوى المطلوب دولياً، او تحقيق الدمج، وهي الطريقة التي يبدو انها اكثر واقعية نظراً للطبيعة العائلية وحجم الكثير من المؤسسات المصرفية في هاتين الدولتين. وتكاد المشكلة المطروحة حالياً على المصارف السعودية تتمثل في استيعاب تدفق السيولة عليها، وايجاد الاسواق الكافية لتوظيفها. فلقد استعادت هذه المصارف المليارات التي خرجت منها اثناء حرب الخليج الثانية 3 - 4 مليارات دولار. وادى ضمان مؤسسة النقد السعودية وكذلك البنك المركزي الكويتي للديون المتوجبة على المصارف السعودية في العام 1991 الى تحقيق ارباح بلغ متوسطها 20 في المئة بالمقارنة مع الارباح التي تحققت في العام 1990، في حين بلغت ارباح المصارف المشتركة العاملة في السعودية معدلات قياسية بلغت 483 مليون دولار، بزيادة نسبتها 42 في المئة عما حققته في العام 1990. وفي نهاية العام الحالي، بلغ حجم الكتلة النقدية في المصارف السعودية حوالي 300 مليار ريال 81 مليار دولار، ومن بينها 300 مليار ريال في صورة اموال بين المصارف واستثمارات قصيرة الاجل داخل البلاد وخارجها. ولعل اهم ما تحتاجه هذه المصارف هو البحث عن منافذ واسواق للاستثمار. وهذا ما وجدته في خطط التوسع الحكومية لتغطية احتياجات مشروع التوسع في بعض القطاعات والتركيز على القطاع المصرفي الوطني لتمويل جزء واسع من مشاريع التوسع. وتقوم شركات مملوكة من قبل الحكومة السعودية مثل "سابك" و"ارامكو" والشركات التابعة لها بالاتكال على السوق السعودية لتغطية التمويل الذي تحتاجه عمليات تطوير قدراتها الانتاجية. ويقدر حجم حاجة هذه الشركات بحوالي 18 مليار دولار في اقل من 4 سنوات. لقد أدت عودة الثقة الى الاسواق السعودية بعد حرب الخليج الى انتعاش اقتصادي تجاوز جميع التوقعات، واللافت ان المستثمر السعودي بدأ يتحول اكثر فأكثر الى التوظيفات التي توفر له مردوداً افضل واكثر استقراراً. وهكذا يظهر الميل المتزايد الى التعامل مع صناديق الاستثمار والى الايداعات التي توفر، اضافة الى الفائدة، ضماناً للمستقبل.