"موضة وحرية" كان عنوان المعرض الضخم الذي افتتح في باريس برعاية الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران وسفير الولاياتالمتحدة الاميركية في فرنسا والتر كورلي، ودعا اليه وزير الثقافة جاك لانغ ووزير الشؤون الخارجية رولان دوما، ورئيس اتحاد الفنون التزيينية انطوان ريبو، ورئيس الاتحاد الفرنسي لفنون الثوب بيار بيرجيه. حشد ضخم من مختلف الاوساط السياسية والاجتماعية والثقافية التقى في رحاب متحف فنون الموضة والنسيج الذي يحتل القسم الاول من متحف اللوفر المطل على حديقة التويلري الشهيرة. وتوزع هذا الحشد حول نماذج سبعة وثلاثين مصمماً من كبار دور الازياء الفرنسية، تبارى كل واحد منهم في تصميم لباس لتمثال الحرية الاميركية. وقد حققت قوالب التمثال بحجم الانسان، اي بطول 175 سنتمتراً، وعلى كل قالب من قوالب تمثال الحرية هذا استلقى ثوب مبتكر يحمل الكثير من الخيال ومن رموز التحرر. المناسبة كانت المناسبة هي الاحتفال بمرور خمسمائة عام على اكتشاف العالم الجديد. وتمحور المعرض ككل حول موضوعين اساسيين، الاول يدور حول تحليل تاريخي للحرية في الموضة، والثاني يرتكز حول نظرة جديدة كلياً لمفهوم الحرية. وبرزت هذه النظرة في تصاميم المبتكرين الكبار من كريستيان ديور الى ايف سان لوران الى تييري موغلر وشانيل وكلود مونتانا وشانتال توماس وكريستيان لاكروا وكنزو ونينا ريتشي وتيدلا بيدوس وتار لا زي وباكو رابان وانغارو وشيرر وبيرسبوك وتورنت هناي موري وفيليب فينة، كما اشترك مصمم لبناني من عائلة زيني. برز في الجزء الاول من المعرض وجهان اساسيان عن الحرية في الموضة. وهما تحرر القامة وتحرر العادات والطبائع. وقد عرضت موديلات في هذا الجزء عن الموضة عبر التاريخ. القامة المحصنة بالتفتا والحرير ما بين 1720 و1750. القامة المغلفة بالثوب "السلة" ما بين 1750 و1770، وكانت هذه السلة تصنع من المعدن والجلد على نوعين، كبير ومتوسط. القامة المضغوطة بالمشد ما بين 1827 و1835. مشد العروس في العام 1890. الى جانب الاثواب المصممة ما بين العام 1830 وأوائل القرن العشرين من الاقمشة القطنية والموسلين و "الكريب جورجيت". وتعكس هذه الاثواب الحقبة الرومانسية من تاريخ فرنسا. في مجال تحرر الطبائع والعادات المتبعة، فقد بدأ هذا التحرر في نهاية القرن الثامن عشر، حسب ما ظهر في المعرض. ففي تلك الحقبة ظهر الميل نحو ما هو طبيعي وصار الذوق يتجه نحو البساطة والتخلص من عبء التقاليد السائدة في العلاقات الاجتماعية. وقد تبلور هذا الامر مع كوكو شانيل في السنوات الاولى من القرن العشرين. في ذاك الحين، كانت كوكو تشتري كمية من القبعات من كاليري لافاييت وتقوم بتزيينها على ذوقها، وتفرضها على اذواق سيدات مكبلات بالضغوط الاجتماعية. وحين فتحت كوكو شانيل اول مخزن لها، في مدينة دوفيل على شاطئ الاطلنطي، في اثناء الحرب العالمية الاولى، اشترت جميع القماش الكاسد في معامل رودية، وهو من نوع الجرسية الذي كان يستخدم في صنع الثياب الداخلية للرجال، وصنعت منه أزياء تهبط على القامة براحة. وقد اعتبرت موديلاتها ثورة في ذلك الحين، لأنها قلبت جميع المقاييس الاجتماعية المتعارف عليها في اناقة المرأة. يومئذ وقف الرجال ضد هذا النوع من الازياء. غير ان النساء تحملت مسؤولية ارتداء الاثواب الفضفاضة الجديدة والتخلص من كل ما يعيق الجسم عن حركته الطبيعية. وشيئاً فشيئاً صارت التنورة تقصر وصارت الزينة اخف ثقلاً والقبعات اكثر بساطة. أثواب الحرية في القسم المخصص لتصاميم تمثال الحرية الاميركي، اصطفت نماذج هذا التمثال حول مجسم حقيقي له. وقد حمل كل نموذج موديلاً خيالياً من تصميم احد كبار المشاهير في عالم الموضة الفرنسية الانيقة. وبرهن كل مصمم عبر نموذجه عن نظرته لمفهوم الحرية. البعض وجدها في الثوب الطويل بطبقات مجنحة وبألوان العلم الفرنسي الازرق والابيض والاحمر برسبورك. والبعض فرضها من خلال ثوب طويل احمر فضفاض ديور. وقد وجدت آن ماري بيريتا مفهوم الحرية في اللون الغامق، وفي مشلح واسع يسقط على ثوب مخصور. وتفنن كريستيان لاكروا في نموذجه الذي صمم له اكسسواراً يرتاح حول عنق يستند اليه رأس مهرج. وجاء المصمم زيني بثوب غامق مخصور وقصير، بينما لعب تيد لابيدوس لعبة الالوان الهندسية المطروحة على ثوب مشدود على الصدر والخصر وفضفاض في التنورة. لم يكن هناك قياس جامع للتصاميم بما ان المبدأ هو التعبير عن الحرية بالموضة. غير ان فهم العمق الحقيقي لهذا الموضوع ومدى اهتمام فرنسا به يجبران على العودة الى تاريخ التمثال ذاته الذي هو من صنع نحات فرنسي. وكان قد عرض في فرنسا بالذات قبل نقله قطعاً الى الولاياتالمتحدة الاميركية، في احتفال مهيب لا تزال تفاصيله تتردد في الوقت المناسب. وكان آخر الاحتفالات بذكرى اقامة تمثال الحرية على مدخل مدينة نيويورك هو ما جرى في 4 تموز يوليو 1986. وذلك بمناسبة مرور مئة عام على وضعه. وقد صادفت المناسبة الاحتفال ايضاً بتجديده الذي استغرق مدة خمس سنوات، والذي اشرف عليه حرفيون فرنسيون بالتعاون مع حرفيين اميركيين. تماماً كما حدث في المعرض الحالي عن "الموضة والحرية"، فقد عمل سبعة نحاتين فرنسيين على تحقيق سبعة وثلاثين نموذجاً لتمثال الحرية بقياس انساني، ودام عملهم ثلاثة اشهر متواصلة. وقد صفت هذه النماذج حول رأس تمثال الحرية الحقيقي كالذي صممه بارتولدي، اي بطول سبعة امتار، ومجهز ببرج داخلي من المعدن وزنه خمسة اطنان لتأمين توازنه. واحتاج تركيز الرأس في مكان العرض الى 12 رجلاً عملوا مدة سبع ساعات متواصلة في جمع اجزائه. حكاية تمثال الحرية كانت فكرة تحقيق تمثال الحرية الاميركي قد ظهرت في عهد الامبراطورية الفرنسية الثانية. في ذلك الوقت قام ادوارد دو لابولاي الاستاذ في الكوليج دو فرانس في باريس والاختصاصي بتاريخ اميركا، بالدعوة الى اكتتاب وطني من اجل جمع مبلغ من المال يكفي لتقديم هوية تتسم بالديمومة الى ابناء الولاياتالمتحدة الاميركية. وذلك بمناسبة ذكرى العيد المئوي لاستقلال وطنهم التي تصادف 4 تموز يوليو 1876. واستغرق جمع المال زمناً طويلاً، الا ان التمثال النحاسي حقق بطول 46 متراً، وبلغ وزنه مئة طن. قام الفنان الالزاسي اوغست بارتولدي 1834 - 1904 بصنع التمثال الذي يحمل مشعل الحرية. وقد وقع الاختيار عليه نظراً لشهرته في عصره بصنع التماثيل الضخمة. وهو الذي كان قد صمم الفنار الذي انشئ على مدخل قناة السويس في 1856. وكان اول ما فعله الفنان بارتولدي هو نحت اليد التي تحمل مشعل الحرية. ثم اختار وجه امه كي يكون نموذجاً لوجه التمثال، وقامة حبيبته كي يشكل هيكله الفارع. المثير في ذلك الحين هو ان بارتولدي ارسل بيد التمثال المتشبثة بمشعل الحرية الى فيلادلفيا، أولاً. واظهر الناس الاعجاب والحماس، وراحوا ينتظرون بفارغ الصبر مجيء بقية الهيكل الى ديارهم للاحتفال به على طريقتهم "الكاوبوية" المتمردة. في السنة التالية لانجاز اليد، ترك بارتولدي منطقة الالزاس وجاء يقيم في محترف صديق له يقع في شارع غوتنبرغ في مدينة بولونية بيانكور في ضواحي باريس. في هذا المحترف باشر بنحت الرأس. وحين انتهى منه عرضه في معرض باريس العالمي في 1878. وقيل ان تقاطيع وجه التمثال الرصينة، التي هي تقاطيع وجه ام بارتولدي، ادهشت الزائرين. فوقفوا طويلاً يجرون النظر فيها ويتأملون معانيها العميقة. بقي بارتولدي في محترف صديقه حتى انتهى من بناء تفاصيل الهيكل. ثم غادر المحترف وسكن في شارع شازيل بباريس. وهناك انضم غوستاف إيفل، الذي بنى برج إيفل الحديدي الضخم اليه. وعمل في صنع الحديد المشبّك للتمثال الذي لم يصنع مثيل لضخامته منذ عصر المصريين القدماء. وكان الاجمل في التمثال هو ثوبه. وقد صممه بارتولدي من الاوراق الذهبية المتداخلة ببعضها. وبشكل يسمح بخلع الثوب عن التمثال والباسه اياه من جديد حسب الظروف والمناسبات، على حد تعبيره في ذاك الحين. عرض بارتولدي التمثال بعد وضع اللمسات الاخيرة عليه، في شارع شازيل بالذات في العام 1879. وفي 4 تموز يوليو 1884 عرضه امام الاميركيين في باريس. ثم قام بتقسيمه الى اجزاء وضعت في 210 صناديق، نقلت في قطار خاص الى مدينة روان. وفي 19 حزيران يونيو من العام 1885 ارسلت الصناديق الى نيويورك بطريق البحر. وحيث دخلت الباخرة الى المرفأ هرع الناس الى استقبال اجزاء التمثال بحماس عظيم لم يعادله إلا حماس الاستقلال بالذات. حكاية مثيرة كان الاميركيون باشروا منذ وصول اليد الى فيلادلفيا، ببناء القاعدة التي سيرتكز التمثال عليها. وكان وراء بناء القاعدة التي بلغ ارتفاعها خمسين متراً وأشرف عليها المهندس ريشارد هنت حكاية مثيرة، خلاصتها ان الفرنسيين ذاتهم كانوا في اساس انقاذ تنفيذ البناء من الازمة المالية التي كادت تقضي على اقامة القاعدة. كانت هناك لجنة فرنسية - اميركية تشرف على العمل. لكن الصعوبات المالية واجهتها بشدة. فما كان من الفرنسيين الا ان اصدروا ثلاث مئة ألف ورقة يانصيب بسعر فرنك للورقة الواحدة. وهكذا استطاع جوزيف بوليتزر مدير صحيفة ذي وورلد من جمع مبلغ 100 ألف دولار. ما ساعد على جمع اجزاء التمثال بشكله النهائي. وفي 28 تشرين الاول اكتوبر من العام 1886 دشن تمثال الحرية الاميركي وراح يطل على القادمين الى نيويورك بمجرد ان تبرز الباخرة التي تقلهم من الافق البعيد على المرفأ الكبير. تمثال الحرية الفرنسي جلب التمثال ملايين الزوار اليه فوراً. ويتكون الدرج من 167 درجة تقود الى قدمه و171 اخرى تؤدي الى الشعلة. لكن صاحب فكرة تحقيق التمثال ادوارد دو لابولاي اراد بعد عودته من اميركا، اثر انتهاء حفلة تدشين تمثال الحرية، ان ينفذ صنع تمثال حرية لفرنسا يكون نسخة مطابقة عن التمثال الاميركي. والفرق بين الاثنين يكمن فقط في الطول وفي المادة التي سيصنع منها. وقرر دو لابولاي ان يكون طول التمثال الفرنسي تسعة امتار وان يصنع من البرونز. وتم تنفيذ المشروع ورفع التمثال البرونزي الجديد في العام 1889 فوق جزيرة الأوز الواقعة في نهر السين تحت جسر البوغرونيل. وكان هذا التمثال بالذات احتل ساحة الولاياتالمتحدة الاميركية في باريس لفترة، ولحق به تمثال من صنع بارتولي ذاته يبدو فيه المركيز لافاييت يشد على يد جورج واشنطن. وكان لافاييت قد ذهب الى الولاياتالمتحدة الاميركية على رأس جيش فرنسي ليساهم في معركة التحرير في عهد جورج واشنطن في العام 1876 وينادي بمبادئ حقوق الانسان وحريته. اصيب تمثال الحرية الفرنسي بشظية قنبلة اثناء الحرب العالمية الثانية كسرت جزءاً من الكتف والعنق بالرغم من صلابته البرونزية. وقد أعيد ترميمه واصلاحه خلال ثمانية اشهر من الزمن. فعاد اللمعان اليه ودشن من جديد في 1986 برعاية رئيس الوزراء جاك شيراك الى جانب السفير الاميركي م. رودجرز، تماماً كما حصل في نيويورك حين تم الاحتفال بمرور مئة عام على اقامة نصب تمثال الحرية تحت شعار "الحرية تضيء العالم"، بحضور الرئيس ميتران الى جانب الرئيس رونالد ريغان. وكان تجديد التمثال قد استغرق خمس سنوات. في الوقت ذاته، كان فندق ماريوت - برانس دو غال الباريسي يقيم في وسط قاعته الكبرى تمثالاً للحرية بطول 280 سنتمتراً. وكانت فكرة تصميم زي للتمثال قد نفذت في تلك السنة على يد مارك بوهان المصمم الرئيسي في دار كريستيان دور. فابتكر ثوباً لتمثال الحرية الذي ارتفع شاهقاً في الفندق المذكور. وجاءت فرقة عسكرية موسيقية اميركية تعزف الانغام الرائعة امام المحتشدين في الفندق، للاحتفال بذكرى مرور مئة عام على تدشين تمثال الحرية الاميركي. كان الفرنسيون قرروا في العام 1981 ترميم واصلاح تمثال الحرية الاميركي. ووافق الاميركيون على ذلك. وقد عهد الى فابريس وروبرت جوهارد الاخصائيين الفرنسيين في فن التذهيب بصنع خمسة آلاف ورقة من الذهب لاعادة اللمعان الى التمثال. وكلفت مصانع تعدين شامبنوا في مدينة رانس بصنع الشعلة الضخمة. فقامت بتقديمها. شارك الفرنسيون في 1986 بحفلات الذكرى المئوية لتمثال الحرية على طريقتهم، فذهبت الممثلة كورين توزيه الى الولاياتالمتحدة الاميركية وارتدت ثوباً من القماش البرونزي اللماع ووضعت على رأسها تاجاً وزنه كيلوغرام ونصف، ولونت وجهها بماء الذهب، وراحت تحاضر عن تمثال الحرية. وقامت بتأدية دور المرأة بارتولدي في برنامج عن تمثال الحرية لحساب التلفزيون الاميركي. وفي فرنسا حققت مصانع "فالرهونا" للشوكولا تمثالاً للحرية الاميركي طوله 450 سنتمتراً ووزنه 2500 كيلوغرام، وتم نقله الى مطار رواسي - شارل ديغول بحماية رجال اطفائية باريس، وحملته طائرة من شركة اير فرانس الى فندق ميريديان في نيويورك حيث تم عرضه ومن ثم تقسيمه وبيعه بالمزاد العلني. كان المكان الذي اقيم فيه تمثال الحرية الاميركي معبراً الى الحرية الموعودة في اميركا. ففيه كان المهاجرون ينتظرون صفاً طويلاً امام مكتب الهجرة في ايليس ايسلند. وفي مرفأ نيويورك هذا كانت القلوب المهاجرة مليئة بالآمال الموعودة باسم الحرية. وتجدد عهد التحرر والحرية في العام 1986 في اميركا وفي فرنسا بالذات، من خلال ذكرى مرور مئة عام على اقامة نصب تمثال الحرية. وتجدد الذكرى هذه بعد ست سنوات من ذاك التاريخ، وهذه المرة بمناسبة مرور خمسمئة عام على اكتشاف اميركا، وعلى يد مصممي الازياء الكبار الذين رأوا مفهوماً جديداً للحرية من خلال الموضة. فجاء العرض يقارن بين الماضي والحاضر ويشد الى مشاهدته جمهوراً ضخماً تتقدمه شخصيات من أعلى المستويات، حباً بالحرية ودفاعاً عنها.