اسمها باختصار "مس ليبرتي" أي الآنسة حرية، لكن اسمها الحقيقي والأصلي هو "الحرية تضيء العالم". وهذه الآنسة عملاقة، الى درجة ان الفرنسي فردينان دي ليسبس اعتبرها يوم ازيحت الستارة عنها "اعجوبة العالم الثامنة". وهي تقف اليوم منتصبة في جزيرة مواجهة لمانهاتن في نيويورك، توحي للناس أجمعين بأنها تضمن لهم تلك الحرية التي يوعدون عادة بالعثور عليها في العالم الجديد. ولكن لئن كان مخرجنا العربي يوسف شاهين صورها تغمز بكل قبح ولؤم لبطل فيلمه "اسكندرية ليه؟" حين يصل الى حلمه الأميركي، فإن شارلي شابلن في فيلمه "المهاجر" صورها ليقول من خلالها حدود الحرية وزيف الحلم الأميركي. ثم، قد يتساءل أميركي انعزالي: "من قال أن هذه الآنسة أميركية؟". وهو على حق في تساؤله، ذلك أن السيدة التي "تحرس نيويورك" فرنسية وليست أميركية. والتمثال كله، وهو أشهر تمثال في العالم اليوم على الإطلاق تمثال فرنسي، صنعه نحات فرنسي، بأموال فرنسية وقدّم هدية الى الشعب الأميركي لمناسبة مئوية استقلال أميركا. غير أن الأميركيين، كعادتهم، ردوا على الكرم الفرنسي بكرم على طريقتهم الخاصة: إذا كان "تمثال الحرية" بلغ ارتفاعه 48 متراً، فإنهم قدموا - من أموالهم الخاصة - نسخة مصغرة منه، لا يزيد ارتفاعها عن خمسة أمتار منصوبة اليوم عند وسط جسر غرينيل في باريس، تدير ظهرها الى المدينة على أية حال. المهم أن هذا التمثال الضخم، والذي يطالع المرء ما إن يصل، بحراً، الى نيويورك صنع في فرنسا، وحققه نحات فرنسي، وهو أمر قد لا يعرفه كثر في هذا العالم. ناهيك بأن "الموديل" الذي تحت وجه التمثال وجسده انطلاقاً منه، هو في الأصل آنسة فرنسية اعارت النحات تقاطيع جسدها، فيما أعارته أمها ملامح وجهها الرومانية. أما فكرة صنع هذا التمثال واهدائه الى نيويورك فولدت في العام 1865، خلال سهرة جمعت أستاذاً فرنسياً للتشريع المقارن مع النحات أوغوست بارتولدي، إذ قال الأستاذ الجامعي: "ان مئوية الاستقلال الأميركي سيحتفل بها يوم 4 تموز يوليو 1876، وأعتقد أن على فرنسا ان تعبر عن صداقتها للأميركيين بنصب ما تهديه اليهم". وما إن تلقف بارتولدي الفكرة، حتى استعاد في ذهنه صورة كانت مرت أمامه قبل عقد ونصف العقد: قرب متاريس الثائرين ضد الأمير لويس - بونابرت. شاهد يومها فتاة حسناء ترفع بيدها اليمنى شعلة مضيئة وتصرخ بالثوار: "الى الأمام يا رفاق". وهكذا، خلال فترة يسيرة صارت الصورة مكتملة في ذهن بارتولدي: سيهدي الفرنسيون الأميركيين نصباً ضخماً يشاد في نيويورك ويعبر عن صورة الحرية التي كان من المفروض ان يمثلها العالم الجديد. وما إن اختمرت الفكرة حتى توجه بارتولدي بالسفينة الى الولاياتالمتحدة لاختيار مكان اقامة التمثال. وفيما كانت السفينة تقترب من نيويورك، هتف بارتولدي: "وجدتها". وكان ما وجده جزيرة بدلاو، التي تشكل مانهاتن خلفيتها: فأي مكان في هذا البلد سيكون أفضل من هذا المكان يشاد فيه تمثال يستقبل القادمين واعداً اياهم بالحرية والأمان! وبالنسبة الى فساحة المكان، رأى بارتولدي أن النصب يجب أن يكون مرتفعاً نحو 100 متر مع قاعده شرط ألا يبدو عملاقاً ضخماً، لأن هذا قد يفقد الحرية معناها، إذ ستبدو عدوانية مهيمنة. وحين عاد الى باريس، بدأ يحقق العمل انطلاقاً من حسناء كان مغرماً بها، اسمها - كما تقول الحكاية - جان - اميلي باهو دي بوسيو، واجداً في أمها كما أسلفنا تلك الملامح التي يريد. وفي الوقت الذي شرع بارتولدي بالعمل، بدأت لجنة خاصة باكتتاب غايته جمع المال اللازم للمشروع. والحال أن الفرنسيين بدوا هنا، مندفعين اريحيين على غير عادتهم، وهكذا قدموا، فرادى وجماعات الجزء الأكبر من المال اللازم، فيما قدم الأميركيون جزءاً منه. لكن العمل، مع هذا، لن يستغرق أقل من 15 عاماً حتى يكتمل ويتخذ التمثال مكانه الذي لا يزال عليه حتى اليوم. بل ان أكثر من عامين مرا، بين تسليم الحكومة الفرنسية صناديق تحتوي على اجزاء التمثال الى المفوض السامي في باريس في صيف 1884، وافتتاح التمثال في حقل صاخب في نيويورك خريف العام 1886. وكان العمل يحتاج الى مثل هذا الوقت على أية حال... حتى وإن كانت الصور تبديه لنا اليوم معتدل القامة. بل حتى إذا كان المشهد العام، ميدانياً، لا يكشف ضخامة حجمه إلا حين يصل المرء اليه زائراً اياه في جزيرته التي صارت واسعة الشهرة منذ ذلك الحين. والتمثال الذي يمثل الصبية وهي تحمل بيمناها الشعلة المضيئة وبيسراها كتاباً نقش عليه تاريخ استقلال الولاياتالمتحدة، ويرتفع كما أشرنا 48 متراً، يمكن رأسه فقط أن تتسع لخمس وثلاثين زائراً. أما الأنف وحده فيبلغ طوله 1.12 متر، والسبابة 2.45 متر. ولئن كان بارتولدي صمم التمثال وحققه بأكمله، فإن البنية الداخلية له - وهي تشكل عالماً قائماً في ذاته - كانت من عمل غوستاف ايفيل باني برج ايفيل الباريسي. وهذه البنية في حد ذاتها تشكل معجزة عمرانية متميزة. وقد أرسل التمثال، أجزاء متفرقة، في 210 صناديق الى نيويورك على متن السفينة ايزير، التي أوصلته الى مكانه وبدئ بتركيبه يوم 12 تموز يوليو 1886. أما افتتاحه الرسمي - أي ازاحة الستار عنه - فكان يوم 18 تشرين الأول أكتوبر من العام نفسه، وجرى ذلك في احتفال صاخب كبير حضره، الى جانب كبار المسؤولين الأميركيين، النحات الفرنسي وزوجته - وتقول الحكاية انها هي نفسها التي صاغ التمثال انطلاقاً من تقاطع جسدها ثم أغرم بها وتزوجها -. والطريف ان ازاحة الستار عن التمثال النيويوركي تمت بعد عام من ازاحة الستار عن نسخته الفرنسية، التي تبلغ عشر ارتفاعه، في باريس. أما الحكاية الطريفة الأخيرة التي يمكن روايتها هنا فتتعلق بحفل الافتتاح النيويوركي نفسه: إذ حدث أن وقف سيناتور نيويورك ايفارتز، خطيباً ليعلن لحظة ازاحة الستارة. وهو ما إن بدأ كلامه شاكراً النحات بارتولدي محيياً اياه، وكان هذا موجوداً داخل رأس التمثال مهمته أن ينزل الستارة في ميكانيزم خاص، ما إن ينتهي كلام السيناتور ويصفق له الحضور، إذاً، ما إن بدأ السيناتور كلامه ذاكراً اسم بارتولدي حتى صفق الحضور، فاعتقد بارتولدي أن كلام السيناتور انتهى، وأنزل الستارة، وكانت تلك اشارة ساد معها الصخب واطلقت السفن مدافعها ودقت الأجراس، فصمت السيناتور حزيناً غير قادر على اكمال كلامه! ولد أوغوست بارتولدي العام 1834 في مدينة كولمار التي كانت فرنسية، فاحتلها الألمان لاحقاً، ما جعل النحات يقول انه إنما أراد في تمثال الحرية أن يعبر أيضاً عن توق منطقته الفرنسية الى التحرر من الألمان. وهو مات العام 1904 في باريس. وإذا كان "تمثال الحرية" أو "الحرية تضيء العالم" هو الأشهر بين الكثير من المنحوتات والتماثيل الوطنية والسياسية التي حققها خلال مساره المهني، فإن عمله الأفضل والأهم يظل تمثال "أسد بلفور" الموجود في منطقة بلفور الفرنسية، وهو تمثال استوحاه بارتولدي من الهزيمة التي احاقت بالفرنسيين خلال حربهم مع البروسيين الألمان، والتي تسببت في فقدان فرنسا منطقة الالزاس...