الأخضر يكمل تحضيراته لمواجهة البحرين    القطاع الخاص مطالب بالتصدي لتدهور الأراضي في "كوب 16" بالرياض    البنتاجون يؤمن إسرائيل بثاد    ترمب يختبر حدود استخدام الجيش    الشحن الجوي يواصل نموه بنسبة مئوية متصاعدة للشهر التاسع على التوالي    الفتح يجهز «باتنا» للخلود    بقاء مانشيني يعني خروجنا من التصفيات    منتدى الأفلام يختتم فعالياته متوسعًا على العالم    تكريم الراحل «الشدي» في أمسية وفاء لمسيرته الإعلامية والثقافية.. اليوم    زوجة المسيار لها حق الميراث    تركي بن هذلول يستعرض تقارير التعليم في نجران    أمير الشرقية يعزي أسرة الدوسري    وزير الخارجية يستقبل نظيره البوروندي    القبض على مواطن لنقله 13 مخالفاً لنظام الحدود في عسير    معرض لرفع مستوى الوعي بمخاطر الكوارث في الشرقية    وصول أولى طلائع الجسر الجوي السعودي لمساندة الشعب اللبناني    الأمين العام للجامعة العربية يدين العملية الإسرائيلية في غزة ومصادرة مقر الأونروا بالقدس    اختتام معرض الصقور والصيد السعودي الدولي بحضور يتجاوز 640 ألف زائر    أمير الرياض يستقبل السفير الفلسطيني ومدير مكافحة المخدرات    لقاءات تعريفية لفصول موهبة    طيور مهاجرة    تشغيل الطوارئ بمستشفى الرس    ميقاتي يدين موقف نتنياهو والاعتداء على «اليونيفيل»    بونو يقلق الهلاليين    الأهلي والأساطير باعتزال الأنيق    نوف الغامدي: 263 مسرحاً في السعودية.. والقطاع يحتاج إلى «حوكمة»    مقتل قيادي في «حماس».. ومطالب إسرائيلية بإجلاء سكان شمال غزة    رئيس الوزراء العراقي يدعو إلى حظر توريد السلاح إلى إسرائيل    المركز السعودي للفنون التشكيلية بجدة، يسهم في نجاح معارض الفن التشكيلي    جمعية الصم وضعاف السمع تحتفي باليوم الدولي للغات الإشارة    اختتام مسابقة أقرأ في إثراء ومغربية تحصد لقب قارئ العام للعالم العربي    خيرية المواساة بالقارة تعقد جمعية عمومية وعرض إنجازات الجمعية    "أدير العقارية" تطرح أرض "رسيل الرياض" للبيع في المزاد العلني    "الصحة" و "الأمر بالمعروف" تناقشان توعية المرضى من السحرة والدجالين    "محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية" تختتم مشاركتها في معرض الصقور والصيد السعودي 2024    نجاح عملية قلب مفتوح بتقنية الشق الصغير في مركز الأمير سلطان بالقصيم    من أعلام جازان.. الشيخ خالد بن أحمد بشير معافا    "التعاون الإسلامي" تُدين قرار الاحتلال الإسرائيلي مصادرة مقر وكالة الأونروا بالقدس المحتلة    "الظافري" يستقبل مفوّض الإفتاء في جازان    المربع الجديد يوقع عقد رعاية لموسم الرياض 2024    أمطار رعدية مصحوبة بزخات من البرد ورياح مثيرة للأتربة في 4 مناطق    اختتام فعاليات النسخة الثانية من منتدى الأفلام السعودي    «PIF» يحدد متطلبات الإنفاق على المشاريع الخضراء ب 73 مليار ريال    النفط يواصل صعوده للأسبوع الثاني    «الدفاع» تعزز التعاون في مجالات الإعلام بين القطاعات العسكرية والأمنية    القهوة والكافيين يحسنان صحة الشرايين    الألعاب السعودية .. "الغيث" يحصل على الذهب في التزلج اللوحي    أفراح الدامر والرشيد    القبيلة وتسديد المخالفات المرورية    البحرين أهم من اليابان    الذكاء العاطفي في البيئة التعليمية    تفضيل الأطعمة الحارة يكشف لغز الألم والمتعة    لون البول مؤشر للإفراط في السوائل    محمية الملك سلمان الملكية تحتضن 290 نوعاً من الطيور بينها 26 مهدّداً بالانقراض    الشيخ البدير: التواضع من الأخلاق العليّة والشمائل السُنيّة    مدير عام الشؤون الإسلامية في جازان يلتقي بالمراقبين عبر التلجرام    خطاك السوء يا فخر الأوطان «سلمان»    الذكرى العاشرة لبيعة والدنا «سلمان»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خاص بپ"الوسط" . مستعربة روسية تكتب عن نجيب محفوظ : لغز الآباء في أدب "أمير الرواية العربية"
نشر في الحياة يوم 20 - 07 - 1992

المستعربة الروسية ف. كيربيشنكو خصت "الوسط" بدراسة عن بعض أوجه شخصية الأب في روايات نجيب محفوظ كنافذة جديدة على عالم هذه الروايات. وكيربيشنكو تعكف حالياً في موسكو على إعداد كتاب ضخم بالروسية عنوانه "نجيب محفوظ أمير الرواية العربية". هذه الدراسة هي أول اطلالة نقدية للمستعربة الروسية في الصحافة العربية، هي التي نقلت الى الروسية روايات وقصصاً قصيرة عربية فضلاً عن دراسة نقدية حول وجوه من الادب العربي الحديث.
وكان المستعربة كيربيشنكو عاشت فترة من حياتها في مصر هي زوجة مسؤول المخابرات السوفياتية في الشرق الاوسط فاديم كيربيشنكو الذي خصّ "الوسط" بمذكراته التي نشرت في اعداد سابقة
في هذه الدراسة لا تقتصر كيربيشنكو على بطل "الثلاثية" أحمد عبدالجواد كأب محفوظي مشهور، بل تتناول ايضاً مختلف "الآباء" في الروايات المحفوظية، فتحلل شخصياتهم وما تؤدي اليه من دلالات اجتماعية وحضارية تشهد عليها روايات نجيب محفوظ التي استحق عليها الروائي المصري الكبير جائزة نوبل للآداب.
ليس من قبيل القليل النادر ان تنشأ وتدور بين قراء ودارسي ابداع نجيب محفوظ خلافات ومناقشات بصدد تأويل هذه او تلك من رواياته او مغزى بعض نماذجه وشخصياته، فأمثال هذه المجادلات طبيعية حين يتناول الكلام كاتباً كبيراً، ولا سيما اذا كان فلسفيّ النظرة يحاول طيلة عمره الطويل في الأدب مواصلة البحث وإيجاد الجواب عن الاسئلة الرئيسية بخصوص العالم القائم والوجود الكوني ورسالة الانسان فيه.
وتسجل روايات نجيب محفوظ تاريخ الحياة الاجتماعية في مصر والبحوث الروحية للفئة المثقفة المصرية في القرن العشرين. الا ان الواقع السياسي في العديد من رواياته - وهو ايضا مصدر الكثير من النقاشات والخلافات - والصور المرسومة فيها للحياة العائلية والاجتماعية ليست سوى الصفحة السطحية المقروءة والمفهومة بيسر من السرد، والتي تنطوي في أعماقها على افكار اخرى مرتبطة بمفهوم نجيب محفوظ للتاريخ.
والجملة المستقرة المتكونة منذ اعوام التلمذة الجامعية من التصورات والآراء تسبغ على العالم الروائي لنجيب محفوظ طابع الوحدة والكلية. ومع ذلك يتغير فهم هذا الكاتب للعالم المحيط بتأثير خبرة الحياة والتأمل وإمعان النظر في الاحداث التاريخية على مرأى منه ومشهد، وهو ما ينعكس على التركيب التعبيري لرواياته.
عائلة الروايات
ولقد لاحظ الكثيرون ان شخوص مؤلفات نجيب محفوظ، بغض النظر عن أصلها وانتمائها الى هذا الوسط الاجتماعي او ذلك، تمتلك شيئاً من الترابط الوراثي القائم على "التشابه العائلي"، وكأنما ينمو من جذر موحّد. والوجه الفردي للبطل وسجيته وأسلوب تصرفه وسماته الموروثة من والديه تتحول كلها لدى محفوظ في خاتمة المطاف الى مجرد لوازم لجوهر الانسان المزدوج، والذي تتضافر فيه على نحو عجيب، وتنصهر في سبيكة موحدة بلا انفصام، أسسه الفكرية والروحية والمادية.
وتعدّد المعاني والدلالات بالذات في شخوص نجيب محفوظ، وكذلك وجود الفكرتين الواقعية والغيبية معاً فيها، يتيحان امكان القراءة المتنوعة والتفسير المختلف لرواياته.
شخصية الأب
وتحمل شخصية الأب دلالة معنوية، خاصة في العديد من رواياته. وهي من دون ما ريب احدى الشخصيات الاساسية في عالم محفوظ الروائي. ويكفي التذكير بشخصيات متماسكة صلدة من حيث العمق والاهمية مثل السيد احمد عبدالجواد في "الثلاثية" التي تعود الى الابداع الفني الرفيع لا لنجيب محفوظ وحده وانما ايضا للادب العربي الحديث برمته. وقد سبق تأليفها بحث ابداعي طويل بدأ منذ روايات "السلسلة القاهرية".
الروايات القاهرية
ومن الملحوظ ان نجيب محفوظ في الروايات "القاهرية" الخمس كلها يكرر بثبات مدهش نقطة الانطلاق نفسها لتطوير الحوادث الروائية والدراما الحياتية للبطل المركزي.
وتبدأ مصيبة محجوب عبدالدائم في رواية "القاهرة الجديدة" باصابة والده بداء عضال مما سلبه وهو طالب جامعي عونه المالي والمصدر الوحيد للرزق والعيش. واضطر احمد عاكف في "خان الخليلي" الى ترك الدراسة الجامعية والنهوض بتكاليف وأعباء إعالة الاسرة بسبب إحالة والده على المعاش التقاعدي بسبب المرض.
اما حميدة في "زقاق المدق" فانها تجهل اصلاً اسم وشخصية ابيها، ولا يعيش والد كامل ربعة في رواية "السراب" مع زوجته وابنه، وهو، فضلاً عن هذا مجرم اعتدى على حياة ابيه ولهذا السبب طرد من بيته. وتغدو وفاة الأب المفاجئة في "بداية ونهاية" مصدراً لفاجعة الاسرة المفضية الى مصرع اثنين من الأبناء الأربعة.
وللحالة المتكررة لفقدان الأب او عجزه او غيابه بالنسبة للشخوص عاقبة لا تقتصر على صور الحرمان المادي وإحداث الثغرات في التربية الاخلاقية، وإنما - وهو الامر الرئيسي - شملت انقطاع الصلات الروحية البالغة الاهمية بالماضي وانسحاب التربة القوية من تحت الارجل والاقدام وضرورة التحسس والعمل بأساس من المغامرة الشخصية والمجازفة على شق وتعبيد درب الحياة للنفس والذات.
والمهم هنا ليس شخصية الأب نفسها وهي موجودة في الروايات "القاهرية" كلها تبقى في المقام الخلفي ولا تمثل الا في ذكريات الشخوص او لا يبدو لها من اثر البتة، وانما المهم هو واقع انعدام اسهامها في مصائر الابناء. وتختلف اسباب ودواعي وظروف هذا الغياب وعدم المشاركة، الا ان هذا له دوماً شرحه الموضوعي وتوضيحه الحياتي. وعلى أية حال فانها ليست بحصيلة الارادة الواعية لذلك الأب ولا تعكس قراراً معنوياً او خلقياً منه.
ويدل هذا الداعي الذي يرسمه محفوظ باصرار على ان شخصية الأب في الروايات "القاهرية" تحمل في طواياها على ما هو بمثابة المعنى الرمزي الذي لا يزال كامناً لم يكشف عنه بعد الى النهاية، وكأنه يتجمع قطرة فقطرة من رواية الى اخرى، ولكنه جوهري جداً للفهم العام للعالم الذي يصوره المؤلف.
ويشمل الزمن الروائي للسلسلة "القاهرية" مرحلة عقد من السنين بين اواسط الثلاثينات وأواسط الأربعينات. وقد شخصت امام انظار الجيل الفتيّ من الفئة المثقفة المصرية وبالاخص الجامعية علماً بأن جميع شخوص الفئة المثقفة لهذه الروايات تقريباً مرتبطة على هذا النحو او ذاك بالجامعة كما كان مرتبطاً بها نجيب محفوظ نفسه بصورة مؤلمة وبشكل حاد، القضية حول الموقف حيال القيم الروحية التقليدية والجديدة والمعارف العلمية الوافدة من اوروبا وعن المواقف الجديدة إزاء فهم وادراك المواضيع الاساسية الرئيسية للحياة مثل الآلة والانسان والمجتمع.
وقد استنفدت نفسها وجهة النظر السابقة التنويرية حول منجزات الحضارة الاوروبية وامكان نقلها الى التربة الشرقية، وقد انعكس في الكتب التي الفها خلال تلك الاعوام العائدون من اوروبا بعد مكوثهم فيها سنين عدة مثل "أديب" لطه حسين و"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم و"قنديل ام هاشم" ليحيى حقي، انعكس الازدواج المؤلم في الوعي الذاتي الداخلي المعجب بانجازات التقدم الاوروبي ولكنه يشك بمضمونه الانساني ويدرك تخلف بلاده المطبق وجهالة شعبها في حين يشعر بالتلاحم مع الجسم القومي بلا انفصام او انفصال، كما يبدو الشعور بالتأزم والارتياب حاضراً في الموقف سواء حيال الغرب او الشرق والعلم العصري. ولكن مهما كان من امر فان العلم الغربي الذي استوعبه الجيل الفتي يقلب كل تصوراته السابقة عن قواعد الاخلاق وأصول السلوك وينتزع الفرد من رغد العالم القديم القائم على اساس من النمط الابوي.
وتشكل معاني مرض الاب وهرمه واختفائه نموذج الزمن وهو زمن وداع الماضي. ويجري هذا الوداع لدى ابطال الروايات "القاهرية" على نحو مختلف فبعضهم يرفض الماضي بشكل قاطع وباتّ، من دون أسف، والبعض الآخر بشعور من الألم الممضّ في النفس والاحشاء، فيما يريد غيرهم تمديد فترة الماضي، ولكن الوداع مصحوب بالنسبة للجميع بتجربة الخلق والارادة والطبع والسجية بالازمة النفسية والروحية، وكثيراً ما يكون ذلك بمأساة وفاجعة.
والوعي الفردي عند تحرره من أسر العلاقة الابوية سرعان ما يصطدم مواجهاً عقدة مستعصية الحلّ من المتناقضات الاخلاقية، ويتوجب عليه ان يضع لنفسه من جديد قاعدة خلقية وما يتناسب معها من اشكال التصرف والسلوك وحل مشكلة المسؤولية، الامر الذي يستتبع اشتداد الاساس التراجيدي.
بطل الثلاثية
وقد جمعت شخصية السيد احمد عبدالجواد في "الثلاثية" في نفسها بعض السمات من شخوص الروايات "القاهرية"، وهكذا هي: القامة الفارعة ومتانة البدن وحسن المظهر وحب النظافة والاناقة في اللبس والموهبة الموسيقية وعادة الازدراء والاهمال في معاملة الزوجة. وكذلك موقف الضعف والوهن في التصرف حيال الابن البكر الفاسد خلقياً ورثه عبدالجواد من كامل علي في "بداية ونهاية"، اما الشغف بالحياة والقدرات الرجالية والحب العارم للنساء فموروثة من المعلم نونو الخطاط في "خان الخليلي".
وفي رواية "بين القصرين"، وهي الكتاب الاول من "الثلاثية"، يجسد التاجر القاهري عبدالجواد في نفسه نمط الحياة الأبوي، بينما ظهر ان دعائمه لا تزال مكينة وقيمه الروحية والخلقية لم تتعرض بعد للشك والارتياب. وهو كرجل وزوج وأب ورأس أسرة ورب بيت يمثل الدعامة ويشكل العمود الفقري للعالم الأبوي. ويعيش السيد احمد في توافق تام مع نفسه واثقا بأنه لا يمكن العيش ولا يجب ان يكون الا على هذا النحو. ويفوح منه الانسجام الفطري المكسو بثراء من طبيعة الشخصية وهو ما يوحي به اسمه نفسه "عبدالجواد".
والتناقض ما بين الفكرة والكلمة في مشهد التحبب والتودد الى "زبيدة" وبين التصرف داخل الاسرة وخارجها لا يدخل الاضطراب الى روح السيد أحمد، وهو يفعل كل شيء "وفق العادة" ويبقى دوماً وفي كل مكان هو نفسه.
انه سيد البيت الصارم في منزله والبائع الرقيق واللطيف في حانوته والرجل المترفق والمتلطف بالنساء والخبير الضليع المحنك بطبائعهن وأخيراً الممازح الذي لا يكل ومحب النكتة والدعابة والمرح في جلسات الاصدقاء والاحباب.
وليس عبثاً ان السيد احمد يحظى بتوقير واحترام الجميع ومحبتهم. انه محبوب من زوجته وأطفاله واصدقائه ومعارفه. وحتى حماته العجوز العارفة بان احمد يسيء الى ابنتها أمينة ويسومها اصناف العذاب تحس بشعور الاعجاب بصهرها معتبرة ان السيد احمد "رجل ولا كل الرجال".
والسيد احمد وأمينة وهما الزوج والزوجة، السيد وجاريته المحبة والمطيعة السامعة، قطبان للعالم الابوي التقليدي يشكلان الاساس له، وهما بمثابة الانسجام المطلق لكليته الكاملة، ذلك لأن امينة مهما تحملت من جام غضب زوجها وما يصب على رأسها من المصائب فانها جزء من النظام الابوي نفسه، ولا شيء يدعوها الى اتخاذ موقف المعارضة والقضاء ولا داعي الى التمرد والعصيان.
بيد ان التعمق اللاحق في درس محفوظ لنفسية احمد وأمينة يظهر فيهما ما لم يتشكل بعد ولم يتبلور من التناقضات الداخلية التي لم يشعرا بها شخصياً، وهي التناقضات التي تلعب في بناء الرواية وحبكتها دور "التمهيد" للاحداث وهي تلك الحبة التي ستنمو منها في المستقبل بذور النزاعات النفسانية والتي سوف تزعزع اركان ذلك العالم الفكري الكامل والمتكامل. وما "يتكسر" ويتهشم في نفسي الوالدين يغدو في اطفالهما وأبنائهما مصدراً لاعادة التقييم المؤلمة في تقدير القيم.
طبيعة احمد عبدالجواد "العنترية" تتهدم وتتهشم في ابنائه، وابنه البكر ياسين الذي ورث من ابيه الوسامة وحسن القوام وقيافة الهندام والميل الى المغامرات يظهر فظاً غليظ القلب وصورة مهزوزة وهزيلة من مثاله، فهو انسان عاجز عن الوقوف بوجه مشاعره الدافعة والسيطرة على اندفاعات احاسيسه.
وتغدو ازدواجية العقل والشعور ورهبة التردد التي تحول دون اتخاذ القرارات الحازمة وانجاز الافعال اللازمة من نصيب ابنه الاصغر كمال.
وأخيراً يجري الانغلاق التام للنواة المحددة الى تناقضات مستقطبة منتقلاً في نفوس افراد الجيل الثالث. فحفيدا السيد احمد عبدالجواد احمد وعبدالمنعم يعتنقان وجهتي نظر مختلفتين، فالاول ماركسي، وينتمي الثاني الى منظمة الاخوان المسلمين، وكلاهما يشعر بالكمال على هواه وطريقته، الا ان كمالهما واكتمالهما اكثر ضيقاً ولهما دلالة احادية قاطعة محرومة من ذلك التمام الحياتي الحيوي الذي كان متوفراً في شخصية جدهما. وكل واحد منهما يخضع حياته ويكرسها للنضال العملي من اجل تحقيق المثل الاعلى الذي يدعو الىه ويبشر به للحق والعدل. ولكن اخلاصهما العملي والمحدد لمثلهما العليا بالذات لا يرضي البطل الاوتوبيوغرافي "للثلاثية" كمال. اما المطلق وغير المبلوغ، في المثل الاعلى الذي تحنّ اليه نفس كمال وتتوق، فانهما يسلبان في رأيه مغزى اي نشاط عملي في سبيل تحقيقه وانجازه.
وهكذا فانه بتهدم النمط الابوي القديم وقيمه تبدأ حقبة جديدة من التاريخ ومرحلة جديدة لبحث الانسان عن رسالته في العالم وغاياته ومبررات وجوده وحياته.
مجتمع ما بين الحربين
ان المذهب في تاريخ البشرية باعتباره تطوراً وترقياً الفكر البشري وفناء وزوال القديم ومولد الجديد من وجهات النظر والعقائد والمثل العليا قد نشأ وتكون لدى نجيب محفوظ منذ اعوام دراسته في كلية الفلسفة في جامعة القاهرة. وقد جسد في "الثلاثية" هذا المذهب على هيئة ملحمة عائلية غدت ايضاً ملحمة لحياة مصر القومية خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين.
وقد ألقى نجيب محفوظ في رواية اخرى نظرة عامة على تاريخ البشرية بأسره وانتقى شكل السرد الشعبي القصصي المسمى بالسيرة الشعبية والذي كان "الشعراء" حتى امد غير بعيد يروون نماذج منه على اسماع الجلاّس في المقاهي والاسواق.
من الأب الى الجد
ويفضل الكثيرون ممن كتبوا عن نجيب محفوظ ودرسوا ابداعه "الثلاثية"، وبعضهم يفضل روايات الستينات وخاصة "ثرثرة فوق النيل". ولكن، في رواية لمحفوظ ترتفع شخصية الأب الى مستوى الجد الاعلى الذي ينتمي اليه جميع القاطنين. كأنما تزدوج هذه الشخصية، وفي المأثورات والاساطير والحكايات التي يتناقلها السكان أبا عن جد وجيلاً عن جيل يبدو صاحب البيت الكبير اشبه ما يكون "بالفتوة" الجبار الرهيب الذي فرض بالقوة سيطرته على كل الاماكن المحيطة بالحارة والتي تكتنفها وتحتويها، ولكنه في الوقت نفسه شفيق رحيم وعطوف على كل ضعيف ومستضعف، وهو قريب الشبه بالتاجر القاهري احمد عبدالجواد الذي يتحكم بمصائر افراد اسرته، ويتمتع مثله بالقامة الفارعة والقوام الرائع والوجه الوسيم بقسماته الحسان والصوت الرخيم الرنان وصاحب النظرة النفاذة الثاقبة التي تخترق النفس وتغوص في حناياها. انه شبيه حتى من حيث المظهر الخارجي بالسيد احمد، ومثله شغوف بالنساء بلا كلل ولا ملل فلديه عدة زوجات والعديد من الجواري والاماء. وهو يطرد من بيته الكبير نجله البكر جزاء اظهار عدم الطاعة والامتناع عن الانصياع لأوامره، وكذلك يطرد الابن الاصغر اللطيف، وعندما يطعن في السن ويبلغ الكبر ينزوي في البيت الكبير منعزلاً وممتنعاً عن اي تدخل في شؤون ابنائه وذريته الذين اوصى لهم من بعده بممتلكاته ارثاً حلالاً.
وعبثاً يتوجه سكان الحارة الى الجد مناشدين اياه اعطاء الرأي وإصدار الاوامر والحكم في خلافاتهم ودعاواهم وطالبين منه قطع عزلته والخروج من قوقعته لكي يفرض ارادته من جديد ويعيد النظام العادل وينصر الحق على الباطل: ومثل هذا التصور الساذج الشائع يتولد لدى معظم السكان فيولّد الموقف الاتكالي. ويتحقق بالتوازن مع هذا التصور الساذج تصور آخر يعبر عنه الابطال الذين يرتفعون بعقلهم وارادتهم وقوتهم الخلقية فوق "عامة الناس"، وكل واحد من هؤلاء الابطال الذين يتناولون ويتلقفون من ايدي بعضهم البعض عصا البريد التاريخية للترقي والتطور وإثراء الفكر البشري يخلق لنفسه نموذجه من شخصية الجد. وفي خاتمة المطاف تنكشف شخصية الجد في الرواية باعتبارها المثل الانساني الاعلى دون تقسيمه الى المحتويين والمضمونين الاخلاقي والاجتماعي والذي يثل السعي الى بلوغه مغزى الحركة التاريخية للبشرية.
ويكتسب امتناع الجد عن التدخل في شؤون ذريته ايضاحا مغايراً من الناحية المبدئية مختلفاً عن عدم مشاركة الآباء في شؤون الابناء في الروايات "القاهرية"، وهو غير مرتبط بأية ظروف معاشية، وقد أملاه ان الجد يريد لذريته ان يكونوا جديرين بعقولهم ويتولون بأنفسهم تنظيم حياتهم وترتيب شؤونهم وفق الاسس الحكيمة والعادلة. ويؤكد على العمل النافع اجتماعياً والانشطة الفعالة لخير المجتمع كأهم وسيلة لاثبات الذات من قبل الشخصية الفردية وتبرير الحياة البشرية.
وتدين الرواية روح الاستمرارية للوعي الابوي الذي يقيد المبادرة والنشاط الابداعي، وبالذات، لأن الانسان قد زود بالاساس الروحي الرفيع وشرارة العقل فإنه ملزم بالاعتماد على قواه والبحث عن الركيزة الروحية في نفسه وتحمل كامل المسؤولية عن تصرفاته.
لغز "الطريق"
ويحل نجيب محفوظ بصورة مماثلة المشكلة المتعلقة بالحتمية من جهة وروح المسؤولية من الجهة الاخرى، وذلك في رواية "الطريق" التي استدعى تأويلها خلافات كبيرة في النقد الادبي العربي، وتعود الاختلافات في فهم مغزى الرواية في الدرجة الاولى الى التعبير عن موقف المؤلف فيها بطريقة الانطلاق من اسلوب "النقيض" وعن طريق المحاكاة الساخرة لتلك الايضاحات عن اسباب الجريمة التي اقترفها بطل الرواية "صابر"، وهي الايضاحات التي لا يوافق عليها المؤلف ولا يرتضيها. ويكمن المغزى الاجتماعي العميق لرواية "الطريق" بمنظومة الاستعارات المجازية التي تشغل الموضع المركزي فيها شخصية والد صابر. ويحاجج نجيب محفوظ في رواية "الطريق" تلك النظرة الى الانسان "كيتيم" القت به الاقدار وفقا لاهواء المصادفة في عالم غريب عنه يصادمه بالكراهية والمقت ويجابهه بالعداء. ولكنه يجادل ايضا الرأي القائل ان الانسان ريشة في مهب الهواء. وهو يضع بطله الباحث عن "الحرية والكرامة والسلام" امام الخيار فإما الجهد الجهيد غير الواعد بالثروة الطائلة العاجلة ولكنه يتيح الامكان للحياة الشريفة واما الجريمة، وفي هذه الحالة الفقدان النهائي للحرية والكرامة والحياة نفسها.
ويعلق "صابر" آماله في المستقبل على البحث عن ابيه الذي لم تقع عليه عيناه، وهو الارستقراطي الثري "سيد سيد الرحيمي" وحين لم يعثر عليه، ولم يتوصل الى ايجاده يقدم على القتل لكي يمتلك المال. ويعرف "صابر" وهو نزيل السجن ان اباه على قيد الحياة ويصرف ملايينه متجولا حول العالم مستسلما لمباهج الدنيا. وقد خلف عدداً من الاطفال في كافة القارات. وكما نرى فإن "سيد سيد الرحيمي" يتسم بتلك الصفات نفسها التي كانت للجد في رواية سابقة، وهي امتلاك الثروة الطائلة والقوة الرجالية غير الناضبة المعين واللامبالاة بمصائر الابناء الكثيرين والمنتشرين او المبعثرين في كافة انحاء الارض.
أما "صابر" الشاب الوسيم والبدين فإنه كما يبدو غير جدير بأبيه. وهو يتخلى عن الجزء الافضل والاكثر عقلا وابداعاً في "ذاته". وتعلو في نفسه وتغلب روح الانانية وعدم الشعور بتقدير المسؤولية والسعي للعيش على حساب الآخرين ونفقة الغير، اي تلك السمات التي لا يقبلها محفوظ لا في الانسان وحده وانما ايضا في المجتمع. ولهذا لا ينظر الى بطله خلافاً لرأي بعض نقاد الرواية ودارسيها باعتباره ضحية الظروف الاجتماعية، ويضع على عاتقه كامل المسؤولية عن افعاله وعن الدرب الذي انتقاه لنفسه.
ويمكن أن يفهم موقف نجيب محفوظ ايضا لكونه مستفزاً للوضع الاجتماعي الذي كتبت فيه الرواية اوائل الستينات وباعتباره نداء واعياً للاعتماد على قوى الذات في البلاد بأسرها وتأكيداً لضرورة البحث عن الدرب الخاص في بناء الحياة الافضل وشكل التطور الاجتماعي المتوافق مع التقاليد القومية. وقد مال الى مثل هذا الموقف من تلك الاعوام كتاب عديدون من ضمنهم يوسف ادريس في روايته "البيضاء" ومسرحيته الشهيرة "الفرافير".
وهكذا فإن شخصية الاب المرتسمة فقط في روايات محفوظ الواقعية الاولى والمتحولة في "الثلاثية" الى تجسيد ورمز للمجتمع الابوي التقليدي تمتلئ مع مرور الزمن بالجديد من الدلالات والمعاني.
ومع جميع التحولات لمعاني الشخصية تبقى صفتها الثابتة والمهمة القوة العارمة والاساس الابداعي الخلاق. كما تبرز الاهمية الايجابية لهذه الصفة من كون عقم الشخصية وعدم تناسلها يعنيان في روايات نجيب محفوظ، في العادة، الفقدان والخسران والعجز عن العمل الابداعي. ويرتفق النشاط المثمر في اي مجال كان ويترابط مع "ولادة الاطفال".
ونلاحظ في هذا الصدد ان موضوع العجز في ابداع كتاب الروايات المصريين الشبان خلال الستينات - السبعينات والذي بلغ اوجه في رواية جمال الغيطاني "وقائع حارة الزعفراني" اصبح واحداً من تعابير الاستعارة المجازية عن الازمة المعنوية الاخلاقية والفكرية الايديولوجية التي يعيشها ويعانيها ابطال رواياتهم وشخوصها.
وقد ظهر في روايتين كتبهما نجيب محفوظ في السبعينات وهما "حكايات حارتنا" و"ملحمة الحرافيش" عجوز يلفعه ضباب الغموض والابهام كأنه خارج لتوه من عالم الحكايات الاسطورية الخيالية فهو "طاعن في الكبر، مديد في الطول، وجهه بحيرة من نور مشع. عباءته خضراء وعمامته الطويلة بيضاء وفخامته فوق كل تصور وخيال".
وتتجلى الصلة الوظيفية المعنوية الداخلية بين هذا العجوز الكبير والجد في الرواية السابقة، بيد ان شخصية العجوز لا تعود الى ذلك الجد والاب الاعلى كما يشخص في وعي "عامة الناس"، بل انها ترجع الى الجد المتغير دائما".
ويبقى ثابتا وغير متغير في جميع روايات نجيب محفوظ فقط يقين الكاتب بان الانسان ينبغي له الا ينتظر ولا يتوقع في درب حياته المشحون بالعديد من الصعاب عونا ومساعدة من البشر وانما يجب عليه ان يعتمد ويعوّل على ما في نفسه من قوى وارادة وحكمة تفكير عقلية.
* د.ف. كيربيشنكو - استاذة في معهد الاستشراق لاكاديمية العلوم الروسية - مستعربة سبق ان نقلت الى الروسية اعمالا عربية في الرواية والقصة القصيرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.