نجيب محفوظ "المولود في الحادى عشر من كانون الاول ديسمبر سنة 1911" واحد من الكتاب الاستثنائيين الذين يقفون بحضورهم الإبداعي علامة حاسمة في تاريخ الكتابة الإبداعية، شأنه في ذلك شأن عظماء الكتَّاب الذين كتبوا بأقلامهم ما ترك آثاره العميقة غائرة في الوعي الإنساني على امتداد عصوره وأماكنه، فحضوره الإبداعي حدث استثنائي فريد في تاريخ الكتابة، يشبه الهرم الأكبر في شموخه ودلالاته واتجاه أضلاعه إلى أركان المعمورة كلها، فهو كاتب مصري عربي إنساني، يجمع بكتابته ما يصل الإنسان بالإنسان على امتداد الزمان والمكان، وعلى اختلاف اللغات والديانات والأعراق والقوميات. وأول أسباب ذلك أن كتابة نجيب محفوظ تجسّد، إبداعياً، رؤية متقدمة، شاملة في إنسانيتها، نافذة في خصوصيتها، عميقة في محليتها، ضاربة بجذورها في ماضيها، واعية بحضورها في تاريخها، حتى في تطلعها إلى ملامح مستقبلها القادم من وراء المغيب. وهي رؤية بطلها الإنسان الباحث عن العدل الاجتماعي في صراعه مع أقرانه، والباحث عن اليقين في صراعه مع الزمن الذي يصرعه، والذي يتركه وحيدا في تحدّيه معضلات الوجود، وعدم يأسه من معاودة طرح الأسئلة الاجتماعية والوجودية بمختلف تجلياتها في مختلف سياقاتها. وهي رؤية تسعى إلى الجمع بين المتناقضات ومحاولة الخروج من تضاد العناصر بمركب يشملها جميعا، حتى لو تصارعت هذه العناصر أو تضاربت داخل المركب الشامل، أو اصطدمت بالجدار الصلد للمستحيل الذي تحاول اختراقه، ففي ذلك ما يمنح المركّب حيويته وثراءه وتوقد تلهبه أو توتره. ويتمثل البعد الإنساني لهذه الرؤية في جذرية إيمانها بالإنسان الذي لا يكف عن العراك مع واقعه احتجاجا على حاضره، ولا يكفّ عن إيمانه بالعلم سبيلا للمواجهة ودليلا إلى المستقبل الواعد. ولذلك فهي رؤية تنحاز إلى أولاد حارتنا الباحثين عن العدل، المؤرّقين بظلم نظار الوقف وعسف الفتوات، المتطلعين إلى تجسيد قيم الحرية والديموقراطية، والحالمين بتثوير العقائد بما ينزل الجبلاوي من عليائه، ويؤكد انحيازه إلى المعذبين في الأرض، وإلى المصالحة بينه وبين ووريثه عرفه الذي يحمل رسالته إلى آفاق أكثر وعداً. ولذلك يغدو الوجود الإنساني صراعاً مستمراً ضد الزمن، وضد الشر، وضد الظلم، واحتكار المعرفة، وسعياً دائما إلى التحرر، والتجريب، والمغامرة، وصنع المستقبل، حتى لو أسفر البحث عن سيد سيد الرحيمي إلى ما أسفر عنه البحث عن زعبلاوي، فالمهم هو المسعى الإنساني الذي يعطي لوجود الإنسان معناه ومغزاه، ومن ثم يجعل الإنسان يؤمن بالحياة وبالناس ويرى نفسه ملزما باتباع مثلهم العليا مادام يعتقد أنها الحق، كما يرى نفسه ملزما بالثورة على مثلهم ما اعتقد أنها باطل، إذ النكوص عن ذلك خيانة. "وهذا هو معنى الثورة الأدبية". هذه الرؤية مرتبطة بواقعها الذي تولَّدت منه كي تكون نقيضا له، ساعية إلى الانتقال بالإنسان من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، ومن الظلم إلى العدل، ومن الخرافة إلى العلم. وارتباطها بالواقع الذي تنقضه يجعلها رؤية لا تختار لتقنياتها إلا ما يتناسب مع أهدافها الخاصة، ويتجاوب مع أسئلتها المتعينة. ولذلك لم تغترب هذه الرؤية عن واقعها، ولم تندفع وراء موضات عابرة في الكتابة، أو تقاليع عالمية شغلت هذه العواصم أو تلك، فظلت رؤية محافظة على ملامحها المرنة في إطار الواقعية النقدية ما ظل هذا الإطار قادرا على التجاوب مع المشكلات الاجتماعية النوعية لواقعها، ولم تفارق شكل الرواية التاريخية إلى الرواية الاجتماعية إلا بعد أن استعادت خبرة الماضي، وأعادت تأويله من منظور الحاضر الذي أسقطته عليه، ولم تفارق الواقعية النقدية إلا بعد أن أدركت حاجتها إلى شكل مغاير يقتنص رمزيا إشكاليات الوجود ومعضلات التاريخ الكوني، وذلك ابتداء من أليجوريات "أولاد حارتنا" 1959 مرورا برمزيات "الطريق" 1964 و"الشحاذ" 1965 وكنائيات "ثرثرة فوق النيل" 1966 و"ميرامار" 1967 وتمثيلات "المرايا" 1972 التي تحولت إلى تقنيات ملازمة، تعمل لمواجهة غياب العدل الاجتماعي السياسي أو غياب العدل الوجودي في الكون بأكثر من معنى. وظلت تحولات التقنية وتبدل العناصر الشكلية استجابة ضرورة وحتمية إلى اتساع مدى الرؤية، وتنوع منظورها، وتغير بؤر التركيز فيها، كما كانت نتيجة الحوار مع العالم، والتفاعل الخلاق مع منجزاته، من غير إغفال لميراث الماضي وأشكاله السردية. ولذلك كانت تقنية "أولاد حارتنا" 1959 موصولة بسرديات التراث التي سعت إلى إنطاق المسكوت عنه من الخطاب الاجتماعي الديني السياسي المقموع، والتعبير عن معضلاته تعبيرا تمثيليا يراوغ السلطات الرقابية المتمسحة بالدين أو السياسة. وفي الوقت نفسه، كانت تقنيات "ليالي الف ليلة" 1981 و"رحلة ابن فطومة" 1983 استلهاما للتراث السردي في "ألف ليلة وليلة" وأدب الرحلات الذي تبرز منه رحلات ابن بطوطة. وكان في ذلك - من زاوية مغايرة - ما يكشف عن درجة عالية من المرونة والقدرة على التغير، استجابة إلى متغيرات الواقع الذي تتولد منه الرؤية الإبداعية من ناحية، واستجابة إلى تحولات المجموعات القرائية المتتابعة من ناحية ثانية، واستجابة إلى تراكم منجزات الخبرات التقنية في الأفق المفتوح من الكتابة العالمية من ناحية أخيرة. ولا تزال هذه الأشكال من الاستجابة في حال من التناغم الذي يؤكد ثوابت الرؤية الممتدة في مقابل متغيراتها التي لم تنقض هذه الثوابت قط، وإنما أكدت وحدتها من خلال مبدأ التنوع الخلاق الذي لا ينغلق بالأنا المبدعة على نفسها في مدار مغلق. وفي ذلك سر آخر من أسرار حيوية الكتابة عند نجيب محفوظ، خصوصا بالقياس إلى من بدأوا معه الكتابة، ولكنهم تساقطوا في طريقها الطويل واحدا تلو الآخر، بينما ظلت كتاباته قادرة على اجتذاب العديد من الأجيال المتتابعة التي تتابعه منذ أن نشر رواياته الأولى إلى آخر ما ينشره في "نصف الدنيا". ويتصل بذلك درجة عالية من الجسارة التي تقترن بمراوغة براثن القمع المتربصة بالكتابة بواسطة، الرموز والتمثيلات والكنايات التي تقول بالمجازات ما لا يمكن أن يقال باللغة المباشرة، وتوصل المقموع اللغوي في الكتابة إلى المقموعين من القراء. وتتمتع كتابة نجيب محفوظ - في هذا المجال - برهافة السخرية، وبراعة صياغة المفارقات، والتلاعب بمجاورة الأضداد على نحو مفاجئ، أو إيقاع التوازي بين المختلفات، أو الانتقال المفاجئ بين الإخوة الأعداء بما يجبر الوعي القارئ على مفارقة خدره. ولا يقتصر الأمر في هذا المجال على تناول موضوعات داخلة في المحظورات الاجتماعية، في مثلث التابوهات الشهير عن الجنس والحكم والدين، وإنما يجاوز ذلك إلى محاولة التعبير عن لحظات الإشراق بلغة الرمز، خصوصا في الحالات التي تتسع فيها الرؤية فتضيق العبارة على من يعانون لحظات الكشف أو يقتربون منها في رحلة أمثال "زعبلاوي" من مجموعة "دنيا الله" 1963 الذي تتكاثر أشباهه في روايات نجيب محفوظ وقصصه. وما بين تحولات التقنية ومتغيرات الاستجابة الكتابية، في التجليات المتباينة لثوابت الرؤية، تتنوع الشخصيات التي لا حَدَّ لثرائها وتعددها واختلافها في كتابة نجيب محفوظ. وننتقل من النموذج البشري أو النمط Type بالمعنى المستخدم في كتابات الناقد ور لوكاش إلى الرمز، وإلى التمثيل الكنائي، ليس على مستوى التعاقب الملازم لتتابع الكتابة فحسب، وإنما على مستوى التزامن في غير حالة، فنرى النموذج الواقعي الذي يجمع ما بين العام والخاص، أو يغوص في ملامح المتعين المشخص من الكائن لينفذ منه إلى المجرد المطلق في مجال الصفة التي ينتسب إليها أمثال أحمد عبدالجواد في الثلاثية، أو حميدة في "زقاق المدق" 1947، أو حسنين في "بداية ونهاية" 1951 وغيرهم. أما الرمز فنراه في الشخصية التي تجمع في حضورها - أو بحضورها - العديد من الدلالات، سواء في أحادية الدال الذي يفضي إلى تعدد المدلولات، أو يلازم تنوع الاحتمالات - الدلالية التي تجعل من كل "شخصية - رمز" حمالة أوجه، دالة على العديد من المعانى التي تصل الميتافيزيقي في بحث صابر عن سيد سيد الرحيمي في "الطريق" 1964، أو غوص جعفر الراوي في "قلب الليل" 1975 حيث قرارة القرار من ظلمة التوحد الكامل، جنبا إلى جنب الأفق الاجتماعي في بحث سعيد مهران عن العدل الغائب في "اللص والكلاب" 1961، أو تمزج بين الميتافيزيقي والاجتماعي في مسعى أشباه "ابن فطومة" 1983 أو "العائش في الحقيقة" 1985 قبل أن يدرك الجميع "صدى النسيان". وغير بعيد عن الرمز في هذا الأفق الكتابي التمثيل الكنائي الأليجوريا الذي يجعل من صياغة الشخصية معادلة لتكافؤ أحادية الدال وأحادية المدلول، فتتحدث الشخصية عن شئ وتعني غيره، ويكون المقصود بها غيرها، فرارا من براثن القمع الرقابي الذي لم ينج منه نجيب محفوظ بالتخفّي وراء أسماء أدهم أو جبل أو رفاعة أو قاسم. وإذا كانت الجسارة الإبداعية هي التي دفعت نجيب محفوظ إلى اقتحام المناطق الملغومة، من فضاءات الخطاب المنهي عن النطق به، فإن هذه الجسارة اقترنت بدرجة لافتة من موضوعية الروائي الذي يحاول أن ينصت إلى كل صوت مخالف، مانحا إياه حق الحضور والوجود. ولذلك استطاعت كتابة نجيب محفوظ تعرية فظائع السجون الناصرية في "الكرنك" 1974، كما استطاعت التحديق في دلالة "يوم قتل الزعيم" 1985، ووضع الزعماء لمحاكمتهم "أمام العرش" 1983. وكان ذلك في مسيرة كتابية طويلة، كشفت في بداياتها عن النقيضين المتقابلين يمينا ويسارا، تقابل علي طه ومأمون رضوان، أو أحمد شوكت وعبدالمنعم شوكت، أو المتقابلين فكريا تقابل أحمد عاكف وأحمد راشد، أو تقابل شخصيات "المرايا" التمثيلية، كما كشفت في الثلاثية، عن حضور نموذج المثقف القبطي مثل رياض قلدس في "قصر الشوق" 1957 الذي تجاهلته كتابة المسلمين من أقران نجيب محفوظ، ولم يجرؤ على تجسيده في خصوصيته المسيحية إلا إدوار الخراط فيما بعد. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تتتبع كتابة نجيب محفوظ ولادة شخصية "المتطرف الديني" في تجلياته الإسلامية ابتداء من حماسة المذهبية المقبولة عند أمثال مأمون رضوان أو عبدالمنعم شوكت، وانتهاء بالتعصب المتصلب الذي تحول إلى تطرف ينتهي بالإرهاب. وانطلقت كتابة محفوظ في ذلك من النقطة التي توقفت عندها في "المرايا" 1972 حينما جعلت "عبدالوهاب إسماعيل" تمثيلا كنائيا لواحد من أبرز قيادات الإخوان المسلمين، إن لم يكن الأبرز بعد حسن البنا، وهو سيد قطب الذي أعدم في زمن عبدالناصر سنة 1965، ومضت بعده إلى الكشف عن تولد التطرف في عقول الأبناء والأحفاد الذين ينتهي بهم الأمر إلى قذف الجميع بتهمة الكفر، على نحو ما نرى في أحد أبناء السيد س من مجموعة "التنظيم السري" 1984 أو نرى اغتيال السادات الذي كان اغتياله إعلانا بعودة مؤكدة للإرهاب كما يقول فواز محتشمي في "يوم قتل الزعيم" 1985. وكانت كتابة نجيب محفوظ ترفض التطرف بكل أشكاله في الفكر والتقنية، في مدى الرؤية الاجتماعية أو الدينية، فهي لم تنقض الدين نقضا جذريا، ولم تسع إلى تقويضه واستبدال العلم به، وإنما ظلت كتابة تنطوي على إحساس ديني عميق، وعلى إيمان غير تقليدي لا يخلو من توتر، خصوصا في محاولة التوفيق بين حضور الجبلاوي وحضور عرفة الذي يبدأ من حيث انتهى قاسم. ويتكرر الأمر نفسه على المستوى الاجتماعي حيث تتحول الكتابة إلى محاولة للتوسط بين الإخوة الأعداء، لا على طريقة الأب ياناروس في رواية كازنتازاكس الشهيرة، وإنما على طريقة حسين "بداية ونهاية" الذي وجد مراحه النفسي في اشتراكية لا تناقض الدين، ويتصالح فيها الفيزيقي والميتافيزيقي، ويتجاور الالتزام الاجتماعي والحرية الفردية. ولذلك تبدو الشخصيات الحدية، اجتماعيا أو فكريا، في كتابة نجيب محفوظ أمثال علي طه ومأمون رضوان وعبدالمنعم شوكت وأحمد شوكت.. أقرب إلى الأنماط المجردة المطروحة للتأمل، والموضوعة موضع المساءلة، مقابل الشخصيات التي تسعى إلى مجاوزة التناقض بين حدية الأضداد المتصارعة. وهي الشخصيات التي تظل حيويتها قرينة ثرائها، وتوترها قرين عمقها، في حالات أمثال كمال عبدالجواد الذي هو أشبه شخصيات نجيب محفوظ بأفكار نجيب محفوظ. وكما دفع النفور من الحدية كتابة نجيب محفوظ إلى عدم التقمص الوجداني لأمثال أحمد راشد زقاق المدق أو أحمد شوكت السكرية فإنها بالقدر نفسه لم تجاوز حدود مساءلة التأمل في تناولها شخصيات مأمون رضوان وعبدالمنعم شوكت. وظلت ساعية إلى الفهم، بعيدا عن الإدانة، حريصة على الكشف أكثر من الاتهام. وكان من الطبيعي أن تركز عدسة هذه الكتابة على أنماط التطرف الديني في تتابعها المتصاعد منذ أوائل السبعينات، حيث حاولت "المرايا" التي صدرت سنة 1972 اقتناص ملامح سيد قطب، وذلك قبل عامين فقط من حادثة الكلية الحربية، وظهور جماعات التطرف المسلحة، تلك الجماعات التي صارت موضوعا لروايات "التنظيم السري" 1984 و"يوم قتل الزعيم" 1985 و"صباح الورد" 1987 إلى "قشتمر" 1988 التي كانت آخر مرايا نجيب محفوظ في اجتلاء ملامح التطرف الديني للأبناء والأحفاد. ولم يكن من قبيل المصادفة، والأمر كذلك، أن يقوم شاب في عمر الشباب الموصوف في الروايات السابقة بمحاولة اغتيال نجيب محفوظ. وأيا كانت تبريرات "المكفراتية" لهذه المحاولة، فالمؤكد أن موقف الكاتب الذي ظل منطويا على رفض التطرف الديني، وكل تطرف مقابل، منذ أن كتب عن مأمون رضوان في "القاهرة الجديدة" سنة 1945 إلى أن كتب عن امتداده الطبيعي في "صباح الورد" سنة 1987، هو الموقف الذي أفضى إلى وضعه في صنف الخطرين من الكفار والملاحدة، في مجتمع الجاهلية المعاصرة، ومن ثم إصدار الحكم بإعدامه، وإيكال مهمة التنفيذ إلى واحد من أشباه الشباب الذين وصفهم. والصلة وثيقة بين شكري سامح في "صباح الورد" والشاب الذي امتدت يده إلى عنق نجيب محفوظ نفسه كي تستأصله بسكين صدئة، في الساعة الخامسة والربع تقريبا، من مساء يوم الجمعة الرابع عشر من أكتوبر سنة 1994، مرتكبة الجرم الذي كان بمثابة الدليل الملموس على مسعى المتطرف الديني، وتعمده القضاء على خصومه من "أولاد حارتنا" الذين حلموا بمشرق من النور والعجائب، كما كان - في الوقت نفسه - دليلا على الخوف من عظمة كاتب لا يتردد في تسليط الضوء على كل بقع الظلام.