جلسات الصراحة مع ادونيس على ساحل اندلسي. كلام جديد عن مسائل معهودة: ماهية الشعر. كلام الشعراء وافعالهم. معنى العودة الى التراث. عرب الامس وعرب اليوم. الخلافات الشخصية في الوسط الادبي العربي. والشعر الكثير وما يبقى منه: شعر اللحظة العابرة وشعر التوهج الدائم. ادونيس فتح صدره ل "الوسط": طفولة كستنائية، كثيفة، تفيض من عينيه الصغيرتين المدورتين. ضئيل الجسد، نحيله، هذا العصفور الذي يحتل أورف اغصان شجرة الشعر العربي اليوم. في حركاته رعونة محببة، يحجبها تكتم عفوي وتواضع. رعونة الواثق من وقاره، وتواضع الهانئ في "ارستقراطية فردانيته". أبرز ما فيه، غياب هذه الطاووسية التي تلبس جل من يكتبون كلاماً على ورق يحكي بشغف، ومحبة، وجرأة. هو الذي منذ ايام كتب في آخر "مداراته": ايها الوجه العربي المغطى بما لا اجرؤ على البوح به، انت الطريق وحجابك هو الحق. الشعر، عنده، "مادة شفهية غير مكتملة وغير قابلة للاكتمال. وليس ثمة ما يصطلح على تسميته بالنص النهائي... فكل قصيدة هي مسودة لقصيدة اخرى لن نكتبها ابداً... لكن ثمة شعراء مبكارين يقولون باكراً ما عليهم ان يقولوا، وهناك شعراء مئخارون انا منهم". ضمتنا جلسات على ساحل اندلسي، كان هو دائماً مأخوذاً بأفقه الحزين الزرقة. أدهش سامعيه مراراً، وجلساؤه انتشوا بعذوبة الحديث وعسل الكلام. وكان معه هذا الحوار: * كان لوركا يردد "ان الشعر مسلك حياة"، فما الشعر بالنسبة اليك؟ - اجمل ما في الشعر، واعمق، انه لا يعرّف، بمعنى ان لكل شاعر تعريفه الخاص المستند الى تجربته وكتاباته، والذي قد ينطبق على شعره هو، ولا يصح على بقية التجارب. والدليل ان اجمل ما في الشعر، هو اننا نحب شعراء من اتجاهات مختلفة، وشعراء يعرّفون الشعر بطرق مختلفة، وقد تكون متناقضة. هذا الشيء العميق، لا يتوفر الا في الشعر. ومن هنا اهمية الشعر بالنسبة الي شخصياً. الشعر هو ما لا استطيع ان اعبر عنه... ما يفلت من التعبير. فأنت عندما تتساءل مثلاً: ما الحب؟ قد تستند لتعريفه على خبرة او على علاقة، لكن سيظل شيء هناك يفلت من تعريفك للحب. الشيء الذي تعيشه على مستوى الجسد، لا يمكن القبض عليه. والشعر بالنسبة لي هو ما يفلت من كل تحديد. اما اذا اردت مناقشة الشعر كمسلكية، فهذا موضوع آخر. كيف يمكن للشعر ان يكون مسلكية؟ انت كإنسان، بينك وبين نفسك، تشعر انك تتغير كل يوم، تتوالد وتتكون منك عدة اشخاص على مر السنوات. فأي من هؤلاء الاشخاص هو الاكثر صحة، والاكثر تعبيراً عن شخصيتك؟ هل تقدر ان تجيب؟ انا، لا اعرف. انا مجموعة هؤلاء الاشخاص الذين يتناقضون في ما بينهم داخل نفسي. لذلك، حين يقال ان الشعر مسلكية، انا لا افهم هذا. لا افهم ما القصد من هذا. * اعتقد ان المقصود بذلك، لا سيما بالنسبة للشعر الاجتماعي والسياسي، هو ان الشاعر يتناول قضايا ومشاكل، فيحللها ويتصور حلولاً لها، ويطرح أفكاراً معينة يتأثر القارئ بها، ثم تراه يسلك في حياته طريقاً مخالفاً لما يدعو اليه، او يكون سلوكه على غير مستوى تأثر الناس بشعره. - هذا ينطبق ايضاً على المفكر، والروائي، والفنان، وهو ليس خاصاً بالشاعر. والانسان في الواقع ليس غير هذا، اي انه يطرح افكاراً، لكنه لا يستطيع ان يعيشها لظروف ولأسباب شتى. هناك فرق من حيث الدرجة، ولكن ليس من حيث النوع. في المجتمع العربي الذي يعنيني شخصياً اكثر من اي شيء، من الصعب، لا بل يكاد يكون من المستحيل ان يعيش الانسان افكاره، الافكار في واد، في عالم، والحياة اليومية، حياتنا، في عالم آخر. ما أسباب ذلك؟ الاسباب كثيرة، وليس في قدرتي ان اتصدى لها، اذ تحتاج الى الخوض في دراسات تاريخية واجتماعية وانتروبولوجية كي نحددها ولا ارى مجالاً هنا لمثل هذا البحث. مسألة ربط الكلام بالواقع، اعتقد انه يجب اعادة النظر فيها. هل الكلام ترجمة للواقع؟ ام هل الكلام تكوين للواقع، او لواقع يأتي؟ هذه اسئلة ينبغي ان نطرحها على انفسنا... تقول انت انه طريق، واقول انه أفق. هل الشعر ترجمة للواقع؟ الشعر لا يقدم شيئاً ذا قيمة، لأنه مهما كان الشاعر بارعاً في نقل حركة ثورية كالانتفاضة او الاستشهاد، سيظل شعره دون مستوى الفعل الحي الحقيقي. لذلك، فإن قرن الكلام بالواقع، يترك الفن والشعر دائماً دون الواقع. هذا هو الموقف الذي يسيطر علينا نحن في المجتمع العربي، اي ان الشعر في الواقع هو ترجمان الامة. لكن كيف؟ لا يمكن. سيظل صدى... لكن هل الشعر صدى؟ واذا كان صدى، ماذا يجدي؟ ماذا يقدم غير نسخة مكررة عن واقع نعيشه؟ هل الشعر او الكلمة أفق لكي يتكون الواقع فيه؟ ليتغير في اتجاهه؟ اذا كنت سأخير بين الموقفين، فإني اختار الموقف الثاني... لكل موقف انصاره بطبيعة الحال، ويبقى الخلاف جميلاً بحيث ان لا يستأثر احد الموقفين بالقول انه الحقيقة وما عداه باطل. في المجتمع العربي عندنا يقينيات ننطلق دائماً منها، عندنا مسبقات نعتمد عليها في احكامنا وقراراتنا. اتصور ان الشرط الاول لكل تفكير حقيقي وحي، والشرط الاول لكل كتابة ايضاً حقيقية وحية، هو الانطلاق من خبرة حية، لا من فكرة مهيمنة على الانسان وتوجهه. فمثلاً لو حدّثك قومي، ينطلق دائماً من قوميات، وانت تكون مخطئاً ما دمت لا تؤمن بما يقوله، وستظل مخطئاً ما دمت لا تؤمن بما يقوله. كلنا مخطئون بالنسبة لبعضنا الآخر. تصور مجتمعاً مركباً من بشر من هذا النوع، بينما الموقف الحقيقي هو ان الحقيقة مشتركة، وبحث مشترك يشارك به الجميع. وهي امامنا وليست وراءنا. عندما تتضح لدينا مثل هذه الامور، نتغير في آرائنا، وفي كتاباتنا. لكن هذا ليس سهلاً. التغيير مستمر * ما الذي تغير فيك عندما اتضحت لك هذه الصورة؟ - انا دائم التغيير. فباعتباري متخذاً لهذا الموقف، اشعر باستمرار، انني اتغير باستمرار، وانني لم افعل شيئاً بعد. ما أود ان افعله، آمل ان افعله في ما يأتي من الوقت... القصيدة التي احب ان اكتبها، آمل ان اكتبها في يوم لاحق، في يوم قريب ما. كل ما فعلت هو نوع من المحاولات والاختبارات والرأسمال المعنوي والرمزي واللغوي والفكري، لكي اصل الى ما اود ان اصل اليه، او ما اطمح ان اصل اليه. * يبدو كلامك هذا خطاباً لمن هو مدرك فعلاً انه قد حقق الكثير، على الصعيدين الشعري والفكري. خطاب لمنتصر في الحياة، وربما عليها، بعد فواصل الانتظار. - هذا تفسر محب ومتفائل. لكن شعوري الحقيقي هو ان المعرفة أفق، كلما تقدمت فيه تدرك انك لا تعرف شيئاً. * هذا النزوح الى التراث الذي يبدو ملاذاً، ما هي دوافعه؟ هل هو استكمال؟ ام تعويض؟ ام مرده الى رداءة الانتاج الفكري المعاصر؟ - اهتمامي بالتراث يعود الى بداياتي. التراث بوصفه كتابة شعرية. اهتم بالشعر الجاهلي بشكل خاص، لكن اهتمامي هذا قديم، واعتقد ان هذا الاهتمام جزء من الكتابة.لا تستطيع ان تكتب الا اذا كنت منغمساً في جملة ما يكوّنك، اي في جملة ما يكوّنك كشخص وككاتب: لغتك وثقافتك الخاصة. اهتمامي هذا لا يعود الى احباط او يأس من الحاضر. اعتقد ان كل شاعر يجب، فيما يكتب، ان يكوّن لنفسه مساراً تاريخياً. اي ان يبني له بيتاً، ان يضع له جذوراً. ان عملي حول التراث العربي هو نوع من ايجاد جذوري في هذا التراث. لذلك فإن قراءتي للتراث هي قراءة جديدة، وهي نوع من الكتابة الجديدة. اي ان ما لم استطع الافصاح عنه بالشعر، حاولت ان افصح عنه بالنثر. انا لا اعد نفسي ناقداً، اي ان ما كتبته في ميدان النثر، هو كتابة شعرية اخرى، بطريقة اخرى... قراءة التراث جزء عضوي من كتابتي الشعرية. كل ممارسة فنية تحتاج الى ثقافة كبيرة وثقافة متواصلة. وتحتاج الى سيطرة على الادوات ومعرفة باللغة الشعرية العربية القديمة. لا نستطيع ان نبدع جمالاً جديداً بلغة لا نعرف تاريخها الجمالي. من هذه الناحية معرفة التراث ضرورية جداً لكل شاعر. واذا كان هناك من مأخذ على الاجيال الشابة، وعلينا جميعاً فإنها متصلة بما سبق وذكرت: قلة السيطرة، قلة الثقافة، قلة المتابعة. اللغة العربية قضية جمالية خاصة جداً. انها لغة مذهلة يجب اعادة قراءة تاريخها. التراث والحداثة ايضاً * الحديث عن التراث لا بد وان يكون مقروناً، في مرحلة ما، بالحديث عن الحداثة التي غالباً ما تبدو الجدالات حولها متقدمة على اي هاجس فكري آخر في الفضاء العربي. ما كانت، وما هي هذه الحداثة التي كنت من اوائل روادها اواخر الخمسينات؟ - عندما بدأنا في مجلة "شعر" لم يكن هدفنا محاربة القديم، بل ان نحيد عن الطرق التي ارساها شعراؤنا الكبار القدامى. فإذا كنت انا اليوم في القرن العشرين، سأكتب كما كتب امرؤ القيس او المتنبي، فماذا سيكون دوري؟ كان اصرارنا في المقام الاول على كتابة شيء مختلف عما ألفناه. هذا هو المعنى الاول الذي كان للحداثة. اما الثاني، فهو اننا ورثنا تعريفاً للشعر هو الكلام الموزون المقفّى. ونحن قلنا ان الشعر لا يعرّف هكذا. الشعر لا يمكن ان يحصر في هذا التعريف او في اي تعريف آخر. اذن لا بد من الخروج عن اطار هذا التحديد وان نكتب شعراً غير موزون وغير مقفى. وهكذا تبنينا "قصيدة النثر" كي نضيف شيئاً مختلفاً على الكتابة الشعرية العربية، اي الغاء تحديد الشعر تقليدياً. من ناحية اخرى، اعطى العرب في الماضي المثل على الاتصال بالآخر. كان الآخر عنصراً مكوناً للذات العربية في كل تاريخها. والفكر العربي، اللغة العربية والفكر الآتي من الآخر. من اليوناني، من الفارسي، الخ... موجود اذن في عمق الذات، ومن باب اولى ان ننفتح على الحضارة الغربية ممثلة بالغرب، مثلما انفتح الغرب علينا في الماضي. فالعرب، عندما حكموا الاندلس، كانوا وراء الثقافة الغربية كلها، ووراء الحضارة الغربية. فكيف يحق لهم هم ان ينفتحوا على الآخرين، وعلينا خصوصاً، ونحن ننبذهم ونرفضهم؟ المعنى الثالث للحداثة كان اذن، توكيد اهمية الآخر بالنسبة الى الذات. والمعنى الرابع هو انه طالما قد تغير معنى الشعر، يجب ان نخرج من القصيدة الى ما سميناه بالنص المركب. ان يكتب الشاعر نصاً موزوناً، ويسمى نصاً بصرف النظر عن تسميته شعراً او قصيدة. اذن الخروج من القصيدة كبنية، الى ما اسميناه النص. هذه هي الاسس الاربعة لكلامنا عن الحداثة في الماضي، وكل ما كتب عن الحداثة حتى اليوم، لم يتجاوز هذه النقاط الاربع جوهراً، بل كرر وشوّه وفسر تفسيرات مغايرة للحقيقة كما تقرأ في الصحافة، ووجهت الى الحداثة اتهامات شتى من استعمارية وغير ذلك. لن أدخل في هذا الجدل، لأنه ساقط من تلقاء نفسه، رغم انه قد خصصت له كتب ومجلات وجرائد. اما الآن، وبعد 35 سنة قدمت فيها مجلة "شعر" الخميرة الاولى للحداثة، وتلتها بعد ذلك مجلة "مواقف" دون ان ننسى اسهامات اخرى في مجلات مثل "الآداب" بشكل خاص، نلاحظ انه رغم تعرض هذه المجلات للنبذ والمحاصرة والمنع من الدخول الى جميع البلدان العربية، تشكل هي المرجع الاساسي لكل ما يقال عن الحداثة، حتى عند الذين رفضوها ونبذوها. هذا يذكرني بما حدث لشعرائنا القدامى مثل ابي تمام الذي كان يقول عنه النقد اجمالاً: اذا كان هذا شعراً فكلام العرب باطل! وكانت تقال عن ابي نواس اشياء كثيرة، وهو اليوم قمة من قمم الشعر العربي، لا بل العالمي. وايضاً عن ابي العلاء المعري الذي لم يعد شاعراً بالأساس. الصحافة والخصومات الشخصية والخلافات العقائدية ألقت حجاباً، بالاضافة الى الخصومات والمنافسات بين الشعراء انفسهم، على الحقائق، لكنه حجاب مؤقت. والمعاصرة ايضاً حجاب. فحين نعيش معاً، سواء كنا صديقين او عدوين، فلا احد منا يرى الآخر موضوعياً. حبي لك يحجب كثيراً من اخطائك عني. وعدائي لك يحجب كثيراً من الاشياء الجميلة فيك عني. بهذا المعنى المعاصرة حجاب، ولذلك نقول ان الزمن هو الذي سيكشف ويميز. وانا لا استغرب ان العرب لا يحبون الا الموتى. فالشاعر، او الكاتب، طالما هو حي ينبذونه، لكن، منذ ان يموت، تقام له التماثيل ويحتفى به. * ضرورة الانفتاح على الآخرين تستدعي ايضاً اصولاً وضوابط، ومن المسيء، بل ومن المشوه، احياناً، ان تتم بصورة عشوائية. - هذه الاصول والضوابط ضرورية، لكنها شخصية. انت وقدرتك. انت وذاتيتك. فإذا كان عندك ذاتية، لا خوف من طغيان الآخر عليك. باستطاعتك ان تعانق العالم كله، وتظل انت نفسك اذا كانت لك ذات اصلية. * والخلافات الشخصية في الوسط الشعري العربي، والفكري عامة، والتي غالباً ما دارت حول امور تافهة واستخدمت لها اساليب رخيصة، الى اي مدى أثرت سلباً على الانتاج الشعري؟ - كان لها اثر ليس على الانتاج الشعري العربي، بل على الاخلاق، اي ان الوسط الثقافي العربي وسط غير اخلاقي. ليست هناك قيم اخلاقية تحكم المعايير، وتحكم الوسط الثقافي. كل شيء يغلّب على الحقيقة. الخلاف الشخصي، والخلاف الايديولوجي، والخلاف الديني والسياسي. كل هذه العوامل تلعب الدور الاول في النظر الى الآخر العربي. * ما سبب ذلك في رأيك؟ - الجواب مسألة اخرى خارجة عن حدود الفن والشعر. المسألة تتعلق بالتربية وبثقافة المجتمع، والعلاقات الاجتماعية السائدة، وتكوين الشخص. كيف تسأل شخصاً من غير اخلاق: لماذا أنت بلا اخلاق؟ لا اعرف جواباً لذلك. من أبسط التهم في الوسط الثقافي العربي ان تقول: فلان عميل. كيف يقال مثل هذا الكلام القاتل بمثل هذا الاستخفاف؟ او تقول فلان خائن، او ضد القومية العربية، او فلان شعوبي. احكام مميتة وقاتلة من هذا المستوى تتكرر باستمرار في الصحافة العربية، وعلى ألسنة الشعراء والمثقفين. * استشف مرارة شخصية في هذا الكلام. الى اي مدى تأثرت بمثل هذه الاتهامات؟ - تأثرت بالمعنى الاخلاقي، حيث ان هذه الخلافات او مستوى هذه الخلافات، كشف لي عن هشاشة الوسط الثقافي العربي، وعن التدني الخلقي عند بعض الافراد، وزادني يأساً على المستوى الاخلاقي فقط، وليس على المستوى الشعري. لم أتأثر على المستوى الشعري، بل على العكس، ازددت يقيناً بما أفعله، وكنت اقول انه لو كان كل الناس يحبونني، لكان اول رد فعل لي هو ان اشكك في نفسي. * اي موقف للشاعر ازاء وسط تحكمه الوشاية والنميمة والرداءة؟ - ان يستمر، وان يكتب شعراً اجمل مما كتب. * ماذا يبقى من الشعر بعد ان يكتب؟! ماذا يبقى منه بعد ان يقرأ؟! - هناك نصوص تقرأها لأول مرة فتستنفدها، وهناك نصوص مكونة من طبقات متراكمة، كلما قرأت طبقة بانت طبقة اخرى، وهي نصوص لا تستنفد. وهذه هي صفة من صفات الفن العظيم اجمالاً. فبقدر ما يستجيب لأنواع القراءات يكون هذا دليلاً على عظمته. ومن اجل ذلك الخلاقون الكبار لا يستنفدون. نقرأ اليوم امرؤ القيس، وقد نستلذ به، وقد نعجب به، وقد نفهمه اكثر مما التذ به وفهمه معاصروه او الاجيال التي تلتهم قبلنا. الشعر الذي يقوم على الحكمة المباشرة، على القضايا المشتركة، العامة، على المنطق والعقلانية، هذا شعر تقرأه وتستنفده منذ القراءة الاولى. تقرأ مثلاً: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني شعر عظيم، لكنه يستنفد منذ القراءة الاولى. ثم تقرأ لنفس الشاعر: ضاقت علي نواحيها فما قدرت على الإناخة في ساحاتها القبل. هذا شعر يفتح لك افقاً هائلاً وكأنك تقرأه دائماً للمرة الاولى. النقاد ينقلون لك الافكار، لكن الافكار لا قيمة لها في حد ذاتها. المهم كيف تعبر عن هذه الافكار. لا احد يبتكر الحب. لا احد يبتكر البطولة، ولا الحزن، ولا موضوعات جديدة. الموضوعات مبتذلة كما قال الجاحظ. المهم كيف نتحدث، ونصف، في اطار وعلاقات لم تسبق ابداً. كأنما هناك ولادة جديدة. والشعر بعد ان يكتب؟! الشعر تجربة. الشاعر يتقدم لولبياً، لا يتقدم سهمياً. لا يوجد تطور في الشعر، كما هي الحال بالنسبة للعلم. العلم نظرية تلغي نظرية، وهكذا الى النهاية. العلم، اذا لم يلغ النظريات السابقة، لا يستطيع ان يتقدم، ولا تحصل ابتكارات. يقول امرؤ القيس: وما خلت تبريح الحياة كما أرى تضيق ذراعي ان اقوم فالبس فلو انها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط انفس هذا شعر عمره الفا سنة، ومَنْ باستطاعته ان يقول ان التطور قد اخذه وتجاوزه! لا تطور في الفن. الفن عمق عمودي، تتسع فوهته، ويتقدم لولبياً، لكنه مربوط بالجذر الاساسي.