سماء غائمة تتخللها سحب رعدية على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    القيادة تهنئ ملك المغرب بذكرى استقلال بلاده    قمة مجموعة العشرين تنطلق نحو تدشين تحالف عالمي لمكافحة الفقر والجوع    النسخة الصينية من موسوعة "سعوديبيديا" في بكين    45.1% من سكان المملكة يعانون من زيادة الوزن    المملكة تجدد إدانتها استهداف إسرائيل ل«الأونروا»    "سلمان للإغاثة" يوزع 1.600 سلة غذائية في إقليم شاري باقرمي بجمهورية تشاد    القصبي يفتتح مؤتمر الجودة في عصر التقنيات المتقدمة    1.7 مليون عقد لسيارات مسجلة بوزارة النقل    9% نموا بصفقات الاستحواذ والاندماج بالشرق الأوسط    محافظ جدة يستقبل قنصل كازاخستان    المملكة ونصرة فلسطين ولبنان    عدوان الاحتلال يواصل حصد الأرواح الفلسطينية    حسابات ال «ثريد»    صبي في ال 14 متهم بإحراق غابات نيوجيرسي    الاحتلال يعيد فصول النازية في غزة    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    الأخضر يكثف تحضيراته للقاء إندونيسيا في تصفيات المونديال    وزير الإعلام اختتم زيارته لبكين.. السعودية والصين.. شراكة راسخة وتعاون مثمر    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع سفير الصين    أمير الرياض يفتتح اليوم منتدى الرياض الاقتصادي    مع انطلاقة الفصل الثاني.. «التعليم» تشدّد على انضباط المدارس    إحباط 3 محاولات لتهريب 645 ألف حبة محظورة وكميات من «الشبو»    الإجازة ونهايتها بالنسبة للطلاب    قتل 4 من أسرته وهرب.. الأسباب مجهولة !    «حزم».. نظام سعودي جديد للتعامل مع التهديدات الجوية والسطحية    كل الحب    البوابة السحرية لتكنولوجيا المستقبل    استقبال 127 مشاركة من 41 دولة.. إغلاق التسجيل في ملتقى" الفيديو آرت" الدولي    كونان أوبراين.. يقدم حفل الأوسكار لأول مرة في 2025    يا ليتني لم أقل لها أفٍ أبداً    موافقة خادم الحرمين على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    «السلطنة» في يومها الوطني.. مسيرة بناء تؤطرها «رؤية 2040»    قلق في بريطانيا: إرهاق.. صداع.. وإسهال.. أعراض فايروس جديد    القاتل الصامت يعيش في مطابخكم.. احذروه    5 أعراض لفطريات الأظافر    تبدأ من 35 ريال .. النصر يطرح تذاكر مباراته أمام السد "آسيوياً"    أوربارينا يجهز «سكري القصيم» «محلياً وقارياً»    مكالمة السيتي    هيئة الشورى توافق على تقارير الأداء السنوية لعدد من الجهات الحكومية    الخليج يتغلب على أهلي سداب العماني ويتصدّر مجموعته في "آسيوية اليد"    أعاصير تضرب المركب الألماني    «القمة غير العادية».. المسار الوضيء    لغز البيتكوين!    الله عليه أخضر عنيد    المكتشفات الحديثة ما بين التصريح الإعلامي والبحث العلمي    الدرعية.. عاصمة الماضي ومدينة المستقبل !    المملكة تقود المواجهة العالمية لمقاومة مضادات الميكروبات    مجمع الملك سلمان يطلق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    انتظام 30 ألف طالب وطالبة في أكثر من 96 مدرسة تابعة لمكتب التعليم ببيش    شراكة إعلامية سعودية صينية واتفاقيات للتعاون الثنائي    وزير الدفاع يلتقي سفير جمهورية الصين الشعبية لدى المملكة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل المندوب الدائم لجمهورية تركيا    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    أهم باب للسعادة والتوفيق    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وزير الحربية المصري السابق يكشف ل "الوسط" خفايا الهزيمة الكبرى وما بعدها . الفريق أول محمد فوزي يتذكر : حرب الاستنزاف بين مصر واسرائيل عجلت بمجيء القذافي الى الحكم الاخيرة
نشر في الحياة يوم 15 - 06 - 1992

يتحدث الفريق اول محمد فوزي وزير الحربية المصري السابق، في هذه الحلقة الثالثة والاخيرة من ذكرياته عن حرب 1967 ونتائجها، وعن "حرب الاستنزاف" الشهيرة ضد اسرائيل وعن اعادة بناء القوة العسكرية المصرية وعن تطور العلاقات المصرية - السوفياتية وعن الاتصالات بين الرئيس الراحل جمال عبدالناصر والاميركيين.
والفريق اول محمد فوزي هو الرجل الذي كلفه عبدالناصر، مباشرة بعد الهزيمة في حرب 1967، باعادة تنظيم القوات المسلحة المصرية وعيّنه قائداً عاماً لهذه القوات خلفاً للمشير عبدالحكيم عامر ثم وزيراً للحربية. وكان فوزي يشغل خلال حرب 1967 منصب رئيس هيئة اركان القوات المسلحة المصرية.
من هذا المنطلق، يبدو الفريق اول محمد فوزي في موقع متميز للغاية ليكشف خفايا الهزيمة الكبرى في حرب 1967، وأسبابها الحقيقية الدقيقة. وقد وافق فوزي على ان يدلي بشهادته المهمة الى "الوسط" التي سجلت معه حواراً طويلاً. وفي ما يأتي الحلقة الثالثة والاخيرة من هذا الحوار:
* وصلنا في نهاية الحلقة السابقة الى بدايات حرب الاستنزاف التي بدأت عام 1968، ما الذي ميز هذه المرحلة خصوصاً انك تعتبرها استئنافاً طبيعياً لمعركة 1967؟
- سيجعل التاريخ هذه المرحلة فاصلاً بين الاستسلام لاسرائيل، وبين المواجهة والصمود والتحدي. الالفاظ الثلاث التي اصبحت مراحل لحرب الاستنزاف. اخذت اسرائيل سيناء فبنت للمرة الاولى خطاً دفاعياً على حافة القناة الشرقية لمسافة 170 كيلو متراً، يقابلها من الجانب الآخر حشد القوات المصرية التي شكلت لتكون جيشين ميدانيين للمرة الاولى على الضفة الغربية، ويفصل القوات المصرية عن القوات الاسرائيلية بين 180 و200 متر عرض قناة السويس. وقد اتاح هذا الوضع العسكري لكل جندي مقاتل في الجبهة ان يرى العدو ويحس به، ان يواجه وان يصطدم به ويقاتله.
هذه اول مواجهة بين القوات المصرية والاسرائيلية، لم تتح في معركة حزيران يونيو 1967 ولا في معركة 1956 وربما حدثت في بعض مراحل 1948 في المجدل والفالوجا.
وأتاح هذا الوضع اعطاء الفرصة للجندي المقاتل المصري لكي يقاتل عدوه التقليدي الاسرائيلي للمرة الاولى، وبعدما كان تنفيذ السياسة العسكرية محصوراً في القائد العام وقيادات الادارات المتخصصة اطلقت يد الجندي في اعطائه مساحة للمبادرة الفردية.
بدأت الاشتباكات بالفرد - كما ذكرت - ثم الجماعة ثم الفصيلة، ثم السرية، وتلا ذلك مستوى الكتيبة عام 1970، وأتاح ذلك لكل جندي حظ التدريب على القتال الفعلي مع العدو، بدءاً بعبور قناة السويس سباحة مع حمل السلاح، الى التسلل الى الخطوط الاسرائيلية ثم مهاجمة المواقع التي يتمركز فيها العدو، واعلنت شعاراً للقوات المسلحة وقتها يقول "اقتل الجندي الاسرائيلي اينما كان". وقد ساعدت هذه العمليات في تأهيل الافراد تأهيلاً كاملاً للمهمات التي ستوكل اليهم في حرب التحرير، واختصرت الزمن بمعدلات قياسية لأنها زادت قدرات الجنود الافراد بشكل لم يكن التدريب في جو سلمي خلف الخطوط يحققه.
وهناك ايضاً بعد نفسي حققته هذه العمليات وهو ازالة الخوف من نفس الجندي المصري تجاه الجندي الاسرائيلي الذي كان حريصاً على تعلم بعض الكلمات العربية يرددها حال وقوعه في الاسر وهي: لا تقتلني انا جاويش في الكانتين المقصف"!!
وكذلك اسهمت هذه العمليات في تعزيز المعلومات عن المواقع الاسرائيلية، وهي معلومات ما كانت تتاح للجيش المصري قبل ذلك لأنها تتعلق بطبع الجندي الاسرائيلي ومزاجه ومعنوياته، ثم بعد ذلك بحجم الوحدات الاسرائيلية وطبيعتها.
وتدرب الجندي المصري على البقاء لفترات طويلة خلف الخطوط الاسرائيلية، من دون ان يكون معه سوى سلاحه الشخصي، وزمزمية مياه، وبعض التمر الجاف، وكذلك خليط من مسحوق الذرة اسمه "الدشيشة" تعلمه المصريون من مقاتلي القبائل اليمنية في حرب اليمن. لم تكن طريقة "الموزاييك" من صور الاستطلاع الجوي معروفة لدينا قبل 1970، وبالتالي كانت المعلومات التي تصل الينا بواسطة سكوب محدود للاستطلاع الجوي، او بواسطة نظارة الميدان، معلومات محدودة تعوضها النظرة المباشرة للجندي الذي يقوم بالعبور.
وفي بداية فترة الاستنزاف حدثت ثلاث بطولات كبيرة، اولها برية في معركة رأس العش، والثانية جوية في هجوم شنّه الطيران المصري بواسطة بعض الطائرات التي كانت في المخازن ولم تدمّر في حزيران، على المواقع الاسرائيلية يومي 14 و15 تموز يوليو عام 1967، ثم الثالثة، وهي بحرية، في نجاح الزوارق المصرية الصاروخية في اغراق المدمرة ايلات امام ساحل بورسعيد في 21 تشرين الاول اكتوبر 1967.
حرب الاستنزاف تضمنت اياماً خالدة تحول احدها الى يوم القوات البحرية وهو يوم اغراق ايلات، والآخر الى يوم قوات الدفاع الجوي وهو يوم 30 حزيران يونيو 1970 والذي عرف بيوم اسقاط الطائرات الفانتوم بعد استكمال بناء حائط الصواريخ المصري.
في اثناء ذلك كانت الامدادات السوفياتية تنهمر وعمليات اعادة التنظيم للقوات المسلحة مستمرة، ووصل الامر ان رئيس هيئة التنظيم والتسليح في الجيش المصري كان يصدر يومياً بين عشرين الى اثنين وعشرين قراراً بانشاء وحدات جديدة في الجيش.
ومن هنا لا يندهش المرء حين يعرف ان قوات الدفاع الجوي المصرية - على سبيل المثال - زمن حرب الاستنزاف تضاعف حجمها 47 مرة!
وأعطي فكرة عن حجم القوات المسلحة وقتها، فالرئيس عبدالناصر ذهل حين عرف من رئيس هيئة تنظيم الجيش ان القوات المسلحة اصبحت تخرج سنوياً عشرين الف سائق على مركبات متنوعة، من دبابة الى مدرعة الى جرار الى حاملة جنود.
ولعل اسهل المهمات كانت بناء القوات البحرية، فهي في الاصل ضخمة ولم تضرب في معركة حزيران يونيو. وكانت المهمة الاساسية بالنسبة الى السلاح هي رفع الكفاءة والتدريب المتواصل. وجاءت الفرصة المناسبة بالاتفاق مع المجموعة الخامسة السوفياتية الموجودة في البحر الابيض المتوسط، بالاضافة الى عناصر من البحرية السورية لتتكون وحدة تدريبية مشتركة، وليصبح الحوض الشرقي للبحر المتوسط بأكمله ميدان مناورة للقوى الثلاث.
وترد في هذه المرحلة ايضاً قضية الخبراء الروس، وحقيقة الامر اننا يجب ان نفرق هنا بين كلمة "خبير" وكلمة "مستشار" فالخبراء لم يزد عددهم في يوم من الايام عن 300 فرد، بينما وصل عدد المستشارين الى سبعة آلاف. وكنا نتعاقد مع الخبير بواسطة وزارة التجارة الخارجية السوفياتية، بحيث يحصل على راتبه من مصر والذي لم يزد على 192 جنيهاً شهرياً. اما المستشارون فيحصلون على رواتبهم من موسكو، في شكل مصروف جيب، ولم يكلفونا سوى الطعام الذي كنا نقدمه لهم مع الجنود اذا كانوا جنوداً، ومع الضباط اذا كانوا ضباطاً، وكذلك عدد ثلاثة افرولات حلة قتال وطاقية، وقايش حزام وبياده حذاء عسكري، وبعد فترة تساءل الجانب السوفياتي، كيف يكون ضباطهم وجنودهم شغالين في وحدات قواتنا من دون ان نسمح لهم بحمل اي سلاح، وهنا اجبتهم "ليس عندي طبنجات" بنادق فأرسل الجانب السوفياتي طبنجات لأفراده مجاناً.
لقد استفدنا من الخبراء استفادة كاملة، والتعالي لا ينفع في الحرب، وحتى انا تعلمت منهم. وقد حرص السوفيات على ان يرسلوا رتباً اعلى للعمل تحت امرة رتب مصرية اقل حتى يضمنوا الانضباط في عملية نقل الخبرة، فاذا كان قائد الوحدة المصرية برتبة مقدم كانوا يرسلون مستشاراً بما يعادل رتبة عقيد ليعمل تحت امرة المقدم المصري.
العسكر وحكم الدولة
* ما هو أهم ما تعلمت من الخبراء السوفيات شخصياً؟
- اشارتهم الى النقص في التشريعات العسكرية المصرية التي تحدد الاختصاصات في الدولة زمن الحرب، وقد جمعت ملاحظاتهم ثم اطلعت على التشريعات الهندية واليوغسلافية المشابهة وخرجت بأول تشريع عرض على عبدالناصر ووافق عليه ثم طرحناه على مجلس الامة البرلمان المصري وقتها باسم "قانون اسلوب الدفاع عن الدولة والقيادة والسيطرة على القوات المسلحة"، وهو القانون الذي يحدد للمرة الاولى الاختصاصات والسلطات الخاصة للقيادة العسكرية العليا جمال عبدالناصر والقيادة العسكرية العامة قائد الجيش وصدر طبقاً لهذا القانون رقم 4 لعام 1968.
وعندما تقرأ المذكرة التفسيرية لهذا القانون تجد انها تحليل امين لما حدث في 5 حزيران يونيو 1967 لأن الجناية العسكرية وقت الميدان لم تكن مغطاة بقانون وبالتالي لم تستطع هيئة المحكمة التي حاكمت قادة حرب حزيران يونيو ان تصدر احكاماً الا تجاه ما اسمته اهمالاً، وهي الاحكام التي رفضها الشعب في شكل تظاهرات الطلبة عام 1968.
* قلت ان الجندي المصري كان ينطلق في حرب الاستنزاف من التوجيه السياسي للدولة، كيف استطعت تحقيق ذلك مع الحفاظ على مقولة نظام عبدالناصر الصارمة بعدم تسييس الجيش؟
- انشأنا نظاماً تعليمياً داخل هيئة التوجيه المعنوي للقوات المسلحة، يقوم على اعداد الجندي طبقاً لفكرة انه يسعى عسكرياً لخدمة الهدف السياسي للدولة، وبالتالي لا بد للمقاتل ان يفهم سياسة البلد، وذلك تحقيقاً لشعار "لماذا نقاتل؟" وهذا معنى سياسي وطني وليس حزبياً. ومن هذا المنطلق حين اختلفنا مع السادات عندما تولى الحكم كان اول قرار يصدره يوم الجمعة في 14 ايار مايو 1971 هو فصل العسكرية عن السياسة اذ ان السادات - من وجهة نظري - كان يريد ان يقوم بانقلاب. وتمم السادات هذا الاجراء بسحب تذاكر الانتخاب من الجنود، فاذا كان الجندي جاء الى القوات المسلحة ليؤدي خدمة وطنية مدتها ثلاث سنوات فكيف احرمه من حقه التشريعي الموجود في دستور الدولة؟
لقد كان دافع طرح القضية هو وضع الاشياء في حجمها الطبيعي. فقد سألني بعض الجنود والضباط في اللقاءات. ما دمت دربت الجنود حتى وصولاً الى مستوى عالٍ من التوعية السياسية والعسكرية، فلماذا - اذن - لا نشارك في حكم الدولة خصوصاً ان هذا النظام معمول به في الاتحاد السوفياتي؟
وهنا تجرأت وطرحت الموضوع على الرئيس جمال عبدالناصر قائلاً: "أعطنا سدس مقاعد اللجنة المركزية يا ريس" فقال: "ولماذا السدس؟" فأجبته: "لأن تعداد القوات المسلحة بلغ مليوناً وعدد الناخبين المقيدين في جداول الانتخابات وقتها ستة ملايين، وبالتالي يكون لنا سدس المقاعد"!
وهنا ضحك عبدالناصر قائلاً: "انتم معكم الرئيس ام انك لا تعتبرني ممثلاً للقوات المسلحة؟".
عبدالناصر أراد "تفويت" الموضوع لأنه يعلم انه لم يأت من فراغ، فقد ذهب عبدالناصر بنفسه الى احدى جلسات مجلس السوفيات الاعلى اثناء احدى زياراته لموسكو وجلس في "لوج" خاص، وكان هدفه التعرف على كيفية صدور القرار في الاتحاد السوفياتي ليساعده ذلك في محادثاته مع قادة الكرملين، وشاهد هناك 1517 بني آدم يصوتون على سياسات وقرارات الدولة، وشاهد ضمنهم في احد اركان القاعة الكبرى مجموعة من ضباط وجنود جيش الاتحاد السوفياتي بملابسهم الرسمية يصوتون ايضاً لأنهم منتخبون من قواعدهم، الا ان الظروف العامة وفترة النمو الديموقراطية لم تشجع الرئيس على تحقيق هذا الامر فسعى - كما قلت - الى الرد الديبلوماسي الذي ذكرته.
* كيف كانت متابعات عبدالناصر لتطور الاداء الفني للقوات المسلحة زمن حرب الاستنزاف؟
- كان عبدالناصر - كما سبق وقلت - محاصراً قبل 1967 في كل ما يتعلق بالمعلومات عن القوات المسلحة، وبالتالي كان من الضروري ان يبذل جهداً مضاعفاً في استيعاب كل المراحل الفنية التي تتم في عملية اعادة بناء القوات المسلحة وبالتفصيل.
كان الحصول على السلاح من الاولويات الكبرى، ولكن ذلك ما كان ليحدث لو اننا لم نقاتل، فقد كان الروس - يومها - سيعتقدون اننا سنجنح الى حل سلمي لا علاقة له بالقتال، ومن جهة اخرى فحين تفتح موسكو صنبور التسليح على آخره، كما كان عبدالناصر يطلب، فان عينها ستظل مفتوحة علينا وسنواجه بسؤال: لماذا تريدون سلاحاً ما دام عندكم في المخازن كذا وكذا؟
تابع عبدالناصر تعويض القوات المسلحة لأسلحتها، والتي أضيفت اليها اسلحة حديثة لم تدخل الميدان قبل ذلك، منها طائرات ومعدات حديثة امدنا بها حلف وارسو مجاناً، وزاد تجاوب السوفيات لطلباتنا بعدما شعروا بسرعة الفرد المقاتل المصري في استيعاب السلاح الحديث، واستخدامه امام خبرائهم وفي وجودهم، وأضرب في هذا مثل الاجهزة الالكترونية في قوات الدفاع الجوي والطيران، التي دفعتني الى تجنيد جميع خريجي كليات الهندسة وبالتكليف المباشر في هذه الاسلحة ليستوعب في البداية فترة تأهيل مدتها خمسة ايام في الكلية الفنية العسكرية ثم تصل المعدات فتدخل الى الميدان مباشرة من الاسكندرية الى الجبهة ليدربه عليها المستشار السوفياتي في خمسة ايام، ويتدرب بعد ذلك تدريباً عملياً عليها لعشرة ايام، وقد ادى ذلك الى ان قال بريجينيف للرئيس عبدالناصر: "انني مندهش من قدرة الفرد المصري المقاتل على استيعاب تكنولوجيا حديثة كهذه في زمن لا يتجاوز عشرين يوماً".
* رافقت حرب الاستنزاف عمليات تجييش شعبية... هل كان الغرض منها سياسياً ام ان لها اهمية عسكرية فعلاً؟
- عرضت في كلامي الى ان حرب الاستنزاف كانت اول عملية تربط الشعب المصري مع القوات المسلحة، وكان للشعب مبادرته في 9 و10 حزيران يونيو حين رفض الهزيمة وأجبر عبدالناصر على العدول عن استقالته، ومن ثم اعلن الرئيس الهدف السياسي للجماهير بشكل واضح وهو: "إزالة آثار العدوان"، وهذا الوضع هو ما يجعلني اقول ان الشعب بدءاً من هذه النقطة اشترك مع القوات المسلحة في تحقيق الهدف السياسي، ولم يجلس على البلاجات تحت الشماسي كما حدث في حزيران يونيو 1967. ويضاف الى هذا انني ضممت الى القوات المسلحة كل المواطنين القابلين للقتال. ورأيت ان هذا الجهد يمكن اكماله بتشكيل ما يسمى "قوات الدفاع الشعبي" وفيها أعهد الى العمال والفلاحين بحماية أربعة آلاف هدف حيوي في قلب الجمهورية. وقمنا بتدريب العمال والفلاحين تدريباً اولياً على استخدام الرشاشات والقنابل اليدوية بعد الغارة الاسرائيلية الناجحة على قناطر نجع حمادي. وظهر تأثير هذا العامل حين أحبطت قوات الدفاع الشعبي هجوماً اسرائيلياً بالهليكوبتر على محطة بترول في طريق القاهرة - السويس باطلاق الهاونات حول الطائرات المغيرة.
وتطور هذا الهدف اكثر عند بناء حائط الصواريخ في مواجهة غارات العمق الاسرائيلية حين وضعت يدي كقائد عام للقوات المسلحة على كل محاجر الرمل والزلط وانتاج مصر في الاسمنت لمدة اربعين يوماً لانجاز دشم الصواريخ، واستخدمت في هذه العملية عمال 23 شركة قطاع عام مقاولات، وأيضاً شركات القطاع الخاص وعندما لم تكف اعداد العمال لانجاز المهمة دفعنا بالعاملات النساء للانضمام الى هذا العمل. وفي مشهد واحد سال دم العمال المدنيين مع دماء رجال الجيش وأيضاً دماء المستشارين السوفيات حتى تم انجاز الخط. وتسببت مسألة غارات العمق ضد مصانع ابي زعبل ومدرسة بحر البقر وعمليات ضرب المدنيين في ان يطلب عبدالناصر مني التصعيد والذي تم في مرحلة "التحدي" من كانون الثاني يناير الى آب اغسطس 1970 والتي شهدت اسقاط الطائرات الاسرائيلية وانتهاء اسطورة الفانتوم، كما شهدت أعلى مستوى للتلاحم بين الشعب والجيش.
وتميزت هذه الفترة 1967 - 1970 بدرجة رفيعة من التنسيق بين الاداء السياسي والاداء العسكري للدولة، فكنت انتظر يومياً مكالمة من محمود رياض وزير الخارجية ليعطيني شرحاً عن الوضع السياسي وتطورات الجهود مع الامم المتحدة او اطراف الازمة، وأنا اعطيه ملخصاً لشكل العمليات والاداء العسكري، وساعدنا على التنسيق اننا زملاء منذ كنا في الكلية الحربية في دفعة واحدة.
وقد ترك شكل الأداء المصري في هذه المرحلة سياسياً وعسكرياً اثره، حين لاحظت التجاوب مع اي مطلب اقدمه في زيارتي الى البلدان العربية.
وقد أضيف في تعرضي لهذا البعد السياسي ان احدى نتائج حرب الاستنزاف كانت التعجيل بثورتي السودان في ايار مايو 1969 وليبيا في الاول من ايلول سبتمبر 1969 التي اتت بالعقيد معمر القذافي الى الحكم.
وكان رد الفعل الاستراتيجي لهاتين الثورتين هو ان مسرح العمليات اتسع من جبهة قناة السويس ليشمل ليبيا والسودان، فنقلت الكلية البحرية الى طبرق، والكلية الحربية الى وادي حلفا، والطيران تحت التدريب الى قاعدة جمال عبدالناصر في ليبيا، وأضفت الى ذلك انشاء مطار كبير للقاذفات الاستراتيجية في وادي سيدنا 37 كيلو متراً شمال الخرطوم. وإضافة الى ذلك سعينا الى الحصول على بعض الاسلحة الغربية عن طريق ليبيا مثل طائرات الميراج الفرنسية على اساس ان تكون الاحتياط الهجومي للقوة الجوية المصرية في معركة التحرير، وإن كان لم يتم الاستفادة الكاملة من السرب في حرب تشرين الاول اكتوبر 1973 لاختلاف استجابة الماكينات ما بين النظام الغربي للميراج والنظام الشرقي للدفاع الجوي في مصر، والذي جعل من سرب الميراج سرباً منفصلاً يعمل على محور بورسعيد فقط. وكانت النتيجة لكل ما أرويه هي ان حرب الاستنزاف احدثت في الجانب الاسرائيلي خسائر اكبر مما نزل به في حربي 48 و56 مجتمعتين، وهذا ما دفع غولدا مائير يوم 8 آب اغسطس 1970 بعد وقف اطلاق النار، الى ان تقول: "اليوم انتهى اللحن الحزين الذي كنت اسمعه من راديو اسرائيل كل صباح" وكانت تقصد كشف الخسائر البشرية اليومي الذي تذيعه الاذاعة! وسيظل درس هذه الحرب بالنسبة الي هو انك لا يمكن ان تجلس الى مائدة مفاوضات مع طرف هو يتمسك بالقوة وأنت تتمسك بالسلام، لأن هذا يعني الاستسلام.
لذلك كانت ممارستنا للقوة في حرب السنوات الثلاث هي التي تعدنا لحل سياسي، وبلغنا في هذه الممارسة للقوة حداً هائلاً، ومنها حدث على مستوى عال من الاهمية هو قيام القوات الجوية المصرية في عام 1970 بهجوم جوي موسع اشتركت فيه ثلاثة الوية من الطيران بحجم 100 طائرة قاذفة ومقاتلة لضرب المراكز الاحتياطية الاسرائيلية ومخازن الاسلحة من العريش وحتى قناة السويس، وجرى هذا الهجوم الرهيب بعمق 120 كيلومتراً، تبدأ من القواعد الجوية التي اقلعت منها طائراتنا في ابوصوير وصان الحجر وبلبيس والقطامية وتنتهي عند العريش. وشجعنا هذا الهجوم على رفع مستوى الطلبات من الاتحاد السوفياتي ودهش الروس من طلباتنا بادخال تعديلات فنية بماكينات معينة كانوا يتصورون انها أسرار لا يعرف عنها أحد شيئاً.
السادات لم يكن منصفاً
* هل كان السلاح الشرقي يتجاوب مع المطالب العسكرية المصرية في هذه المرحلة؟
- مواصفات السلاح دوماً تتوافق مع طبيعة المهمة الموكلة لهذا السلاح والمطلوب منه انجازها، ونظراً الى ان استراتيجية القوات المسلحة المصرية قبل 67 - كما ذكرت - كانت دفاعية فقد كان السلاح الشرقي بمواصفاته كفؤاً لها، ولكن بعد 67 وعلى ضوء الاعتبارات الجغرافية التي نتجت عنها بطول المسافة المفترض التحرك عليها، والاعتبارات العسكرية الفنية المترتبة ايضاً على الوضع الجديد والتي تجعل استراتيجية القوات المسلحة المصرية مبنية على الهجوم تجاوباً مع الهدف السياسي للدولة فقد اصبح السلاح الشرقي التقليدي قاصراً عنها مما ادى الى ان نطالب الاتحاد السوفياتي بالحاح بالحصول على اسلحة هجومية وبالذات في مجال الطيران.
وبدأنا في مصر من خلال مفاوضات طويلة مع الجانب السوفياتي في الحصول على انواع اكثر تطوراً من الصواريخ المضادة للطائرات وهي سام 3 وسام 6 وسام 7 وهي انواع لم يكن الاميركان يعرفون كيفية التشويش عليها.
ولم تستخدم مصر صواريخ سام 6 الا في معركة العبور، بينما استخدمت سام 3 وسام 7 في حرب الاستنزاف لتسقط الطائرات الاسرائيلية في مفاجأة تكتيكية حار فيها الاميركان والاسرائيليون.
* ما هي حقائق الاستخدام المصري لصواريخ "سام 3" في تحقيق المفاجأة التكتيكية؟
- اعتاد الاسرائيليون البحث عن نقاط ضعف في خريطة الرادار المصرية، لكي ينفذوا منها بالطيران ثم يضربوا مؤخرة القوات، او مواقع في العمق، فبدأ المصريون يجربون اقامة كمائن للطائرات الاسرائيلية، وكان ان اختار الاسرائيليون 7 مواقع ليس فيها صواريخ لينفذوا منها ويقوموا بمهماتهم، وقبل هجومهم يوم 30 حزيران يونيو عام 1970، كان المصريون تعرفوا على الثغرات التي اعتاد الاسرائيليون النفاذ منها، وقاموا بتحريك بطاريات الصواريخ لملئها، وعندما ظهر الطيران الاسرائيلي صبيحة يوم 30، فتحت بطاريات الصواريخ المصرية المضادة للطائرات نيرانها فيما يسمى "الستار" بالتعبير العسكري، وفي المواقع السبعة نفسها التي اعتاد العدو المرور فيها وأسقطنا يومها 13 طائرة، وتم أسر خمسة طيارين اسرائيليين للمرة الاولى، ضمنهم قائد السرب واسمه ديفيد. وكان اول طلب لغولدا مائير في مفاوضات فك الاشتباك عام 1974 بعد حرب تشرين الاول اكتوبر هو فك اسر الكابتن ديفيد وطياري سربه بالاضافة الى الطيارين الاسرائيليين الاسرى في حرب تشرين ذاتها.
كل هذه الاحداث دفعت اسرائيل الى الاتصال بأميركا من اجل وقف اطلاق النار، ومن ثم كانت مبادرة وليم روجرز وزير الخارجية الاميركي آنذاك بعد معارك الصواريخ، وإن كان قام بزيارة قبلها للمنطقة عام 69 استكمالاً لجهود اندرسون مع محمود رياض عام 1968 والتي كانت تعرض على مصر الانسحاب الكامل من سيناء وحدها في مقابل وقف اطلاق النار، الا ان عبدالناصر ابلغهم ان الجولان والضفة الغربية والقدس قبل سيناء.
كان الوصول الى مبادرة روجرز مقترناً بثلاث نقاط أصر عليها عبدالناصر منذ 67 وهي:
1- الاراضي العربية كلها وليس الارض المصرية.
2- وقف القتال ليس نهائياً وانما محدد بمدة إن لم تصل فيها المفاوضات الى شيء نستأنف القتال.
3- لا مفاوضات مباشرة.
ولم يكن عبدالناصر يستطيع ذلك بعد 67 الا بمعارك الدم والنار التي استمرت ثلاث سنوات، وهي المعارك التي لم ينصفها انور السادات ولم يعترف بأنها غيرت وجه تاريخ المنطقة، فكان في كل خطبه السياسية يقفز من 1967 الى 1973 دون ذكر لحرب الاستنزاف. هذه الحرب التي اعادت اسرائيل مرة اخرى لموقف الدفاع والتحصن خلف خط بارليف، بعدما كانت خرجت عن استراتيجيتها الدفاعية للمرة الاولى في حرب 1967. هزيمة المخطط الاميركي - الاسرائيلي حول تغيير خريطة المنطقة بعد 1967 من خلال مواجهات حرب الاستنزاف جعلت الاثنتين مقتنعتين بأن السلام هو الهدف الذي يجب ان يسعيا اليه وليس الحرب.
* هل أنصف أحد - على المستوى الرسمي في مصر - حرب الثلاث سنوات؟
- الرئيس حسني مبارك هو اول من انصف هذه الحرب، حين سمح بالنشر عنها، وسمح بظهور مذكراتي في شكل كتاب مزيلاً التعنت السائد الذي اسسه السادات حين عمل على تجاهل هذه الحقبة وعدم ذكرها مطلقاً. كان مبارك ينطلق من فكرة وطنية مؤداها ان الحقيقة ستذاع ولو بعد نصف قرن، وأن ملايين المصريين يعرفون حقيقة التضحيات في هذه الفترة، وان تجاهل حرب الاستنزاف سيتيح للطرف الاسرائيلي ان يملأ الدنيا بحكايات وهمية يملأ بها فراغ السكوت المصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.