غطت أخبار رحيل الرئيس السوري حافظ الأسد في العاشر من شهر حزيران يونيو 2000 على استكمال التأمل والحوار حول الانسحاب المفاجئ لقوات الاحتلال الإسرائيلي والميليشيات العميلة من جنوبلبنان قبل وفاة الأسد بأسبوعين 24/5/2000. والقاسم المشترك بين الحدثين الجللين هو سورية وشخص الرئيس الأسد. فلم يكن لپ"حزب الله" اللبناني أن يستمر في مقاومته المسلحة الممتدة ضد الاحتلال الإسرائيلي إلا بدعم ظاهر أو مستتر من سورية. حتى الدعم الإيراني بالسلاح لپ"حزب الله"، وهو ما لا ينكره أحد، لم يكن له أن يتم ويستمر من دون الموافقة السورية. فعن طريق سورية كان يتدفق السلاح الإيراني لمقاتلي "حزب الله"، ومن هنا كان الدور السوري حاسماً في الانتصار اللبناني. وحينما نقول الدور السوري. فإننا في الواقع نتحدث عن دور الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي ظل وحده صانع القرارات الاستراتيجية في ما يتعلق بسورية منذ العام 1970، وبلبنان منذ العام 1976، وللحديث عن الأسد وسورية مقام آخر ومقال آخر. ولكن هذا المقال مخصص للحديث عن المقاومة اللبنانية، التي حسمها حزب الله. ارتبط شهر حزيران يونيو في الذاكرة العربية المعاصرة بالهزيمة، ففي مثل هذا الشهر العام 1967 - أي منذ 33 عاماً - أوقعت إسرائيل بجيوش مصر وسورية والأردن هزيمة عسكرية نكراء، في أقل من اسبوع، واحتلت أراضي شاسعة من تراب البلدان العربية الثلاثة. ولم يشعر العرب في تاريخهم طوال الأربعة عشر قرناً بمثل ما شعروا به من هوان ومذلة في ذلك الاسبوع من حزيران يونيو 1967، وإلى الآن. وكان لهذا الشعور العميق بالذل والمهانة أسباب عدة، منها أنها لم تكن هزيمة عسكرية عادية، على يد قوى كبرى، أو خلال حرب ممتدة، ولكنها جاءت على يد دولة صغرى لم يتعد حجم سكانها في ذلك الوقت ثلاثة ملايين من البشر، وكانت دعاية الانظمة العربية تمعن في وصفها بپ"المزعومة"، أو "الكيان اللقيط" أو "العصابات وشذاذ الآفاق". وجاءت الهزيمة قاصمة وسريعة - وذلك بتدمير اسلحة الطيران العربية على الأرض، ثم الانقضاض السريع على الجيوش العربية التي لم تكن مهيأة نفسياً أو لوجستيكياً للحرب من دون حماية جوية. وكان الأشد إذلالاً للعرب هو أن زعيمهم الكاريزمي جمال عبدالناصر، أقر أمامهم جميعاً في خطاب وجهه الى الأمة العربية بمسؤوليته عن الهزيمة، وتقديم استقالته من رئاسة الدولة المصرية كانت ما تزال تسمى الجمهورية العربية المتحدة. وكان معنى ذلك أن إسرائيل لم تهزم "الجيوش" فحسب وإنما حددت أيضاً من يظل يحكم على "العروش" العربية. وشعرت الجماهير العربية التي لم تكد تفيق من مفاجأة الهزيمة العسكرية، بهزيمة أخرى سياسية، تجلت في تنحي عبدالناصر عن الزعامة والرئاسة، وبدا الرجل لجماهير أمته مثل الأسد الجريح، الذي لم يعد يقوى على مواجهة "الثعلب" الإسرائيلي، الأشد ذكاء والاسرع مراوغة، صحيح أن الشعب لم يقبل استقالة عبدالناصر، وظل الرجل في الحكم ثلاث سنوات أخرى، إلى أن انتقل الى جوار ربه، ولكن ذلك لم يخفف من وطأة الهزيمة. وكشفت الهزيمة العسكرية النكراء في حزيران يونيو 1967، كل عيوب الجسم العربي والعقل العربي والوجدان العربي، في لحظة صدق حزينة، ولكنها ممتدة. طبعاً حاول الزعماء وحاولت الانظمة في البداية أن "تنكر الحقيقة"، وهو ما يسمى في علم النفس Reality Denial وذلك ببهلوانيات لفظية - مثل إطلاق مصطلح "النكسة" أو "الكبوة" أو "الانكسار" على ما حدث خلال تلك الأيام الستة، وحده الدكتور قسطنطين زريق، أبو المؤرخين العرب المعاصرين، هو الذي كان شجاعاً وأميناً واطلق على ما حدث اسم "النكبة الجديدة"، كما كان اطلق على هزيمة العرب في 1948، اسم "النكبة" في كتابه ذائع الصيت "معنى النكبة"، والذي ظهر في تموز يوليو 1948، أي في غضون شهرين من دخول الجيوش العربية الى فلسطين لتطهيرها من الدنس الصهيوني. لم تكن المعارك انتهت حينما كتب قسطنطين زريق "معنى النكبة". ولكنه رأى من سير هذه المعارك، ومن خروج الفلسطينيين من ديارهم وتحولهم الى لاجئين خلال شهري آيار مايو وحزيران يونيو 1948. شيئاً شبيهاً، بما حدث في الاندلس العام 1492. وكان ما حدث في 1948"نكبة"، اعتقد زريق وقتها، وبعدها بسنوات عدة، وبخاصة مع ثورة تموز يوليو المصرية، أن العرب قادرون على تجاوزها. ففي العام 1948 كان مرّ على استقلال سورية ولبنانوالأردن سنتان فقط، وكانت مصر والعراق لا تزالان مكبلتين باحتلال جزئي بريطاني. ولكن حينما جاءت هزيمة 1967 كانت معظم الدول العربية استكملت استقلالها، وبدأت فيها مظاهر تنمية اقتصادية - اجتماعية ملحوظة، أي أنه نظرياً، كان عرب 1967، أكثر تقدماً واستقلالاً من عرب 1948، ومع ذلك جاءت هزيمتهم في 1967، أشد وأقسى. فعلى رغم أن الدول العربية التي حاربت في 1948 كانت حديثة العهد بالاستقلال أو منتقصة الاستقلال، إلا أنها حاربت لستة شهور أو أكثر قليلاً - إلى توقيع الهدنة النهائية في شباط فبراير 1949. أما في العام 1967، فعلى رغم مرور سنوات أطول على الاستقلال، ورغم العنتريات اللفظية الأعلى صوتاً، إلا أن الدول العربية التي حاربت، لم تصمد في المعارك إلا لمدة "ستة أيام" أو اقل قليلاً. باختصار، مثّل شهر حزيران يونيو 1967 قاع القاع في هزائم العرب في العصر الحديث. لم يكن ممكناً أن يغوص العرب في مستنقع الهزيمة أكثر من ذلك. لذلك لم يكن أمام العرب - بداية بمصر، ومروراً بالفلسطينيين ونهاية باللبنانيين - إلا المقاومة. وقاوم كل شعب عربي الاحتلال الإسرائيلي لترابه الوطني بطريقته الخاصة. وأظهر كل من هذه الشعوب الثلاثة عبقرية تعكس خصوصية ظروفه. فقد بدأت المقاومة المصرية في غضون أيام من الهزيمة، بدأ سلاح الجو المصري الذي كان تم تدمير معظم طائراته على الأرض في الدقائق الأولى من صباح 5 حزيران يونيو، ومن ثم بداية الهزيمة، بدأ هذا السلاح نفسه المقاومة في ما عرف بمعركة "رأس العش"، في شرق بورسعيد، فقد تحرشت القوات الإسرائيلية المنتصرة، والتي اصبحت على الضفة الشرقية لقناة السويس، بالقوات المصرية على الجانب الآخر من القناة، فما كان من سلاح الجو المصري الجريح إلا أن يرد بغارات مستمرة على القوات الإسرائيلية حتى دحرها تماماً. وطبعاً لم تكن موازين القوة تسمح بمثل هذه المنازلة الجوية - الأرضية، في ذلك الوقت، ومصر ما تزال تلعق جراح هزيمتها المروعة. ولكن كان القصد هو "المقاومة"، التعبير الفعلي عن رفض الهزيمة، وجاء نسف المدمرة الإسرائيلية "إيلات" بصاروخ من بحرية السواحل المصرية، قرابة بورسعيد، تعبيراً آخر عن رفض الهزيمة، حتى لو أدى ذلك الى غارات انتقامية إسرائيلية توقع خسائر أكبر في الجانب المصري، وتستمر المقاومة المصرية وتتصاعد في ما عرف بعد ذلك "بحرب الاستنزاف" ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في سيناء. ولم تتوقف حرب الاستنزاف فعلاً إلا بعد قبول عبدالناصر بما سمي في صيف 1970 "بمبادرة روجرز" الاميركية، ثم رحل عبدالناصر في 28 أيلول سبتمبر 1970، وأخذت القيادة المصرية الجديدة ثلاث سنوات، أولاً لتكريس مواقعها في السلطة، وثانياً، للاستعداد لحرب نظامية محدودة، وهو ما حدث في تشرين الأول اكتوبر 1973، وأدى الى انتصار محدود، ولكنه مهم نفسياً واستراتيجياً لمصر والأمة العربية. أما المقاومة الفلسطينية فقد بدأت مسلحة، بغارات فدائية من الأردن، في اعقاب هزيمة 1967، ووصلت الى قمتها بمعركة الكرامة في ربيع 1968، والتي ساندت مدفعية الجيش الأردني قوات منظمة التحرير الفلسطينية في ايقاع عدد كبير من القتلى في الجانب الإسرائيلي، وكانت رمزية معركة الكرامة على الجبهة الأردنية - الفلسطينية. الإسرائيلية مثل معركة رأس العش على الجبهة المصرية - الإسرائيلية. تقول باختصار أنه رغم الهزيمة فإن هناك عرباً يقاومون، واستمرت العمليات الفدائية الفلسطينية من الأردن إلى أيلول سبتمبر 1970. ثم من لبنان الى 1982 - أي الى الاجتياح الإسرائيلي، وحصار بيروت وإجبار المقاومة الفلسطينية على الرحيل من لبنان إلى تونس والجزائر واليمن. وتجمدت المقاومة الفلسطينية المسلحة على الأرض الفلسطينية لسنوات عدة، وانحصرت في عمليات عسكرية ضد أهداف إسرائيلية متناثرة على السواحل أو في الخارج، ولكن النقلة الكيفية في المقاومة الفلسطينية جاءت في العام 1987، وداخل الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، وعلى ايدي الاطفال، في ما سيعرف باسم "الانتفاضة" أو "ثورة الحجارة". فقد واجه الاطفال الفلسطينيون جنود الاحتلال المدججين بالسلاح بقذفهم بالحجارة، ثم الفرار. وظل كر وفر هؤلاء الاطفال في مواجهة جيوش الاحتلال حتى انهكتها معنوياً. لقد كانت حرب "استنزاف معنوي" غير مسبوقة في التاريخ، لقد كانت هذه الانتفاضة هي العبقرية الشعبية الفلسطينية، التي أدت إلى اعتراف إسرائيل للمرة الأولى رسمياً بمنظمة التحرير الفلسطينية، والجلوس معها في مؤتمر سلام دولي في مدريد 1991. ثم التفاوض معها ثنائيا في اوسلو، وتوقيع اتفاقية في ايلول سبتمبر 1993، ما فتح الطريق أمام ولادة الدولة الفلسطينية المستقلة. وأخيراً نأتي الى المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي لشربط حدودي في الجنوباللبناني منذ العام 1982 - أي سنة الاجتياح الإسرائيلي وحصار بيروت. وبدأت مقاومة الاحتلال بعد من العمليات الفدائية الانتحارية للمقاومة اللبنانية، أودت بحياة عشرات القتلى الإسرائيليين والاميركيين. ما اضطر الإسرائيليين الى الانسحاب من الاراضي اللبنانية، باستثناء هذا الشريط الحدودي الملاصق لمناطق سكانية كثيفة في شمال إسرائيل. وانتقلت المقاومة اللبنانية الى هذا الشريط نفسه منذ منتصف الثمانينات. وأخذت تلك المقاومة، كما نعرف، شكل اطلاق صواريخ الكاتيوشا الخفيفة الحمل، الشديدة المفعول، على المستوطنات الإسرائيلية في منطقة الجليل. وقاد "حزب الله" ذو الأغلبية الشيعية هذه المقاومة، بشجاعة وصبر واقتدار. فرغم الغارات الانتقامية الإسرائيلية المضادة، إلا أن مقاومة حزب الله لم تخمد طوال ثمانية عشر عاماً. ومثلها مثل الانتفاضة الفلسطينية، كانت هذه المقاومة اللبنانية الشرسة بمثابة حرب استنزاف مادياً ومعنوياً لإسرائيل، حتى اضطرت أن تخرج من جنوبلبنان بلا قيد أو شرط، بل إن مشاهد الانسحاب ذكرت كثيراً من المخضرمين بمشاهد الانسحاب الذليل للقوات الإميركية من فيتنام في العام 1975، أي قبل رفع قرن تماماً، لجهة الذعر والاضطراب اللذين اصابا القوات المنسحبة وعملاءها. لقد كان الانتصار في لبنان انتصاراً واضحاًَ صافياً، لم تعلق به أي شروط أو شوائب، وذلك بعكس انتصار الانتفاضة الفلسطينية الذي لم يكتمل، والانتصار المصري في تشرين الأول اكتوبر 1973، الذي كان جزئياً. فإذا كان شهر حزيران يونيو 1967، يمثل قاع القاع في مستنقع الهزائم العربية، فإن آيار مايو 2000 يمثل الحافة المرتفعة للانتصارات العربية، وقد جاء أبهى هذه الانتصارات، لا على يد دولة أو نظام عربي حاكم، ولكن على يد مقاومة شعبية، من أقل فئات المجتمع اللبناني حظاً في السلطة وأكثرها حرماناً من الثروة فسبحان الله، الذي يضع سره في أضعف خلقه! * كاتب مصري.