منذ الرحيل المبكر والمفاجئ للرئيس المصري جمال عبدالناصر، عند نهاية شهر أيلول سبتمبر 1970، والروايات الرسمية، بما فيها رواية مجموعة من الأطباء السوفيات، تقول ان الزعيم المصري انما زار موسكو عند بدايات ذلك العام لاجراء فحوص طبية، وربما ايضاً في محاولة استشفائية بعد أن اشتدت عليه الآلام، وقرر أطباؤه ان الوقت قد حان لكي يخلد الى بعض الراحة. والحقيقة ان وسائل الاعلام التي تحدثت، عند ذلك الحين، عن تلك "الزيارة شديدة السرية" التي قام بها عبدالناصر الى الاتحاد السوفياتي، أكدت ان هدفها - حتى وان كان تضمن فحوصها طبية واستشفاء - كان في الأصل الحصول على دعم سوفياتي عسكري لمساندة جهود مصر في حرب الاستنزاف التي كانت تخوضها. والواقع ان الاحداث التالية، وما بات معروفا بعد ذلك بسنوات، أكدت كلها على هذا البعد الأخير للزيارة. بل أكثر من هذا، أكدت على أن الزيارة كانت على علاقة أساسية بتقديم شتى أنواع الدعم للجيش المصري، ليس فقط لكي يواصل خوض حرب الاستنزاف، بل - خصوصاً - لكي يخوض معركة مفاجئة وكبيرة ضد اسرائيل، تهدف الى استعادة منطقة قناة السويس. وهي الخطة نفسها التي نفذها الجيش المصري بعد ذلك في تشرين الأول اكتوبر 1973، واعتبرت من مآثر الرئيس أنور السادات، والتي وظفها هذا الأخير من أجل الوصول الى صلح مع اسرائيل تحت رعاية الولاياتالمتحدة. إذا، كان عبدالناصر بالفعل مريضاً في بدايات العام 1970. لكنه في موسكو كان يهمه أن ينسى مرضه وأن يفاوض السوفيات، آملا منهم هذه المرة ان يبدلوا، نوعياً، من أسلوب وتفاصيل دعمهم للجيش المصري. حتى ذلك الحين كان السوفيات، ورغم كل ما حدث، مكتفين بتقديم الأسلحة والدعم اللوجستي وتوفير الخبراء العسكريين. لكن عبدالناصر، في الزيارة الخاطفة و"السرية" التي قام بها الى موسكو يوم 21 كانون الثاني يناير 1970، واستغرقت 48 ساعة، كان يريد أن يتحرك السوفيات أكثر، وأن يصلوا الى حدود الدعم العسكري الكامل. لذلك ما أن وصل حتى اجتمع بالزعيم السوفياتي ليونيد بريجينيف وقدم له صورة للوضع العسكري المصري تنذر بالخطر. خصوصاً وأن الاسرائيليين، أمام ضغوط القوات المصرية في حرب الاستنزاف كانوا منذ تموز يوليو الفائت بدلوا جذرياً من تكتيكات دفاعهم عن خط بارليف. فهم "من بعد فترة جمود وحروب مواقع كلفتهم باهظاً، انتقلوا لشن عمليات هجوم - مضاد جوية، كان من الواضح خلالها ان خبرة طياريهم الكبيرة سوف تحسم الأمور لصالحهم" حسبما يقول مؤرخو تلك المرحلة من الذين يضيفون ان الطيارين الاسرائيليين لم يكتفوا بالتفوق النوعي على طائرات "ميغ - 21" و"سوخوي سو - 7" المصرية، بل انهم راحوا يهاجمون - وبنجاح كبير - الدفاعات الجوية المصرية ولا سيما بطاريات "سام - 2" التي بدت ضئيلة الفاعلية امام هجومات تقوم بها طائرات تطير على ارتفاع منخفض". والادهى من هذا - حسب المصادر - ان الاسرائيليين بدأوا منذ الاسبوع الأول من العام الجديد باستخدام طائرات "ماكدونيل ف 4 فانتوم 2" الجبارة للقيام بشن غارات فعالة في عمق الأراضي المصرية، وصولاً الى ضواحي القاهرة، ما مكنهم يوم 13 من كانون الثاني يناير من قصف قواعد الحنكة والتل الكبير. امام ذلك التصعيد الذي بات يهدد حرب الاستنزاف، ولرغبة الرئيس المصري في الانتقال الى مرحلة تالية من صراعه مع اسرائيل، كان لا بد له، اذاً، من التوجه الى موسكو. وبريجينيف أبدى يومها تفهماً تاماً للوضع، وقال ان الوقت حان لايجاد توازن أكثر رجحاناً لصالح مصر، واتخذ قراره بأن يقدم لهذه الأخيرة عونا عسكريا حاسما وكبيرا، يسلم الاتحاد السوفياتي بموجبه بطاريات صواريخ "سام - 3" قصيرة المدى وذات الفعالية التي لا تضاهى، والمتأقلمة بالتالي بشكل أفضل مع الوضع عند الجبهة المصرية - الاسرائيلية. وقرر بريجينف ايضا ان تصاحب البطاريات طواقمها من الجنود السوفيات، في انتظار أن يتم تدريب الجنود المصريين على استخدامها. واضافة الى ذلك كله، بعث الاتحاد السوفياتي بعدد كبير من طياري الجيش الأحمر، مع طائراتهم المقاتلة، لكي يساهموا في الدفاع عن المدن المصرية كما عن المواقع الاستراتيجية. وكان ذلك يحدث للمرة الأولى في تاريخ العلاقات بين بلد اشتراكي وبلد لا ينتمي الى المنظومة الاشتراكية. وهو ما اثار قلقا كبيرا، حينها، لدى الأميركيين والاسرائيليين، بين آخرين الصورة عبدالناصر وبريجينف في موسكو.