هل دخلت الازمة الافغانية مرحلة "الحسم السلمي" بعد 13 سنة من الحرب المدمرة بين النظام في كابول الذي اقامه السوفيات بعد غزوهم افغانستان، وبين المجاهدين الافغان؟ الاممالمتحدة تسعى الى عقد مؤتمر افغاني موسع في نهاية نيسان ابريل الجاري، اما في جنيف او في فيينا بحضور ممثلين عن جميع الاطراف الافغانية - بما في ذلك النظام الشيوعي سابقاً - لكن من دون الرئيس الافغاني الحالي نجيب الله. ويفترض ان تنبثق عن هذا المؤتمر - الذي سيؤدي في حال انعقاده الى مصالحة وطنية - حكومة انتقالية تتولى اجراء انتخابات في افغانستان وتأليف حكومة شرعية ووضع دستور جديد واعادة بناء البلاد التي مزقها الاحتلال السوفياتي والحرب المستمرة منذ 13 عاماً. ويتولى مهمة الاعداد لهذا المؤتمر بينون سيفان المبعوث الخاص للامين العام للامم المتحدة الذي زار كابول في نهاية الشهر الماضي. لكن يبدو ان هذا المؤتمر يواجه مصاعب. وهذا بعض ما يكشفه هذا التحقيق الخاص بپ"الوسط" عن الوضع الافغاني المعزز بمقابلة خاصة مع المهندس قلب الدين حكمتيار زعيم الحزب الاسلامي الافغاني. في الوقت الذي تجري الاستعدادات لعقد مؤتمر المصالحة الافغاني الموسع حدثت تطورات مهمة عدة في الساحة الافغانية، ابرزها اعلان الرئيس الافغاني نجيب الله استعداده للاستقالة من منصبه بعد تأليف الحكومة الانتقالية، وترددت انباء عن محاولة انقلاب ضد النظام الحالي في كابول، وتقدم المجاهدين الافغان نحو مدينة مزار شريف عاصمة شمال افغانستان لمحاولة السيطرة التامة عليها مع ما ينتج عن ذلك باعتبار انها ثاني اكبر المدن الافغانية وهي معززة عسكرياً. ولن يكون سقوط مزار شريف خبراً سيئاً لنجيب الله وحده بل للأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي اذ سيعزز ذلك موقف الجناح الاسلامي في صف المجاهدين الرافض خطة الاممالمتحدة الهادفة الى عقد المؤتمر الموسع على اساس انها غامضة في تفاصيلها. ويؤيد حالياً الخطة الدولية حكومة كابول والاحزاب المدعومة من ايران واثنان من احزاب المجاهدين هما نجاة ملي بزعامة صبغة الله مجددي والجبهة الوطنية بزعامة احمد جيلاني، ويمثل كلاهما التيار التقليدي المؤيد للملك السابق ظاهر شاه، وذلك بعد انسحاب ثالثهما مولوي محمد نبي محمدي زعيم حركات انقلاب اسلامي. تحدي "الدولة الاسلامية" لقد افرزت السنوات الثلاث التي اعقبت الانسحاب السوفياتي من افغانستان الأطراف التي تحالفت معاً طوال عقد كامل من الحرب ضد المحتل، وحولتها الى مجموعات تمثل اهدافاً مختلفة ومصالح متباينة. تمثل طموحات عرقية وطائفية او طبقية، غير ان التحدي الأهم هو مسألة "اقامة الدولة الاسلامية في افغانستان" او منع اقامتها. ويؤمن قادة الاحزاب الاسلامية بوجود خطة لاستبعادهم عن الحكم، او في احسن الاحوال لمنعهم من احتكار الحكم في افغانستان، لذلك سارعوا الى تجاوز خلافاتهم القديمة. وعلى هذا الاساس عقدت سلسلة من الاجتماعات، خصوصاً بين الحزب الاسلامي الذي يتزعمه قلب الدين حكمتيار والجمعية الاسلامية بزعامة برهان الدين رباني - ويمثل كلاهما اقوى احزاب المجاهدين - بهدف تنسيق العمل العسكري خلال الصيف المقبل وهو عادة موسم المعارك الطاحنة التي بدأت فعلاً بانتصارات الشمال، حيث استولى المجاهدون على عاصمة ولاية بدخسان فيض آباد ومدينة خلم التي مهدت الطريق لمحاصرة عاصمة الشمال مزار شريف، وساعدهم على ذلك حصول تمرد في صفوف الميليشيات المؤيدة لحكومة كابول وانضمام بعضها الى المجاهدين وبقاء الآخرين على الحياد. وعلى رغم ان انتصارات الشمال تصب لمصلحة اقوى القادة هناك احمد شاه مسعود والذي يسيطر على اكبر رقعة محررة في افغانستان ويعد منافساً قوياً لحكمتيار في الوقت الذي يتفقان في توجهاتهما الاسلامية، فان حكمتيار رحب بالانتصارات وشارك افراد حزبه للمرة الاولى في المعارك مع مسعود. وتؤكد مصادر مقربة من المجاهدين ان حكمتيار وافق للمرة الاولى على الدخول في "شورى الجهاد"، وهو تنظيم شكله مسعود لجمع صف المجاهدين في شمال افغانستان، ويعتقد ان التضييق الذي شعر به حكمتيار اخيرا دفعه الى التنسيق مع منافسه السابق مسعود، اذ خسر حكمتيار المعاملة المميزة التي تمتع بها لسنوات طويلة من جهاز الاستخبارات العسكرية الباكستانية بعد ان تغيرت قيادته فهو كان يحصل منه على نصيب الأسد من المساعدات العسكرية. كما ترددت انباء في بيشاور عن وجود مخطط اميركي لتصفية حكمتيار "لأنه يشكل العقبة الأساسية امام المصالحة الأفغانية". ولكن انضمام رباني، وهو الزعيم المعروف باعتداله لحكمتيار في رفض مشروع الاممالمتحدة، عزّز من وضع الاول وقرب بين الحزبين الرئيسيين في افغانستان ويمثل الزعيمان الاتجاه الداعي الى اقامة "دولة اسلامية" في افغانستان وقد قادا هذه الدعوة منذ ما قبل الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979، وكانا الزعيمين الاولين اللذين وصلا الى بيشاور عام 1974 لقيادة المعارضة ضد محمد داود الذي اطاح بالنظام عام 1973 وسبق الانقلاب الشيوعي عام 1978. والواضح ان دولاً كبرى عدة ازعجها التمدد الايراني نحو جمهوريات آسيا الوسطى الاسلامية سيزعجها اكثر "دولة اسلامية ثورية" تملك تراثاً من الجهاد ضد السوفيات وسط الجمهوريات الاسلامية التي تشترك معها، ليس في اللغة الفارسية مثل ايران، بل وفي المذهب الحنفي، بالاضافة الى الاثنية. فسكان الشمال الافغاني هم من التاجيك والاوزبك والتركمان وهي الاثنيات نفسها الموجودة في الجمهوريات الاسلامية، بل ان كثيراً من سكان الشمال تنحدر اصولهم من الجمهوريات الاسلامية وقد نزحوا الى افغانستان في منتصف العشرينات فراراً من حملات الاضطهاد الروسي ضدهم. ويعبر برنت روبن المختص في الشؤون الافغانية عن هذا "الهم" الاميركي في شهادته امام الكونغرس الاميركي بقوله "ان الثوريين الاسلاميين لم يقاتلوا فقط من اجل حرية تقرير المصير، كما نفهم هذا التعبير، ولكن من اجل فهمهم الخاص للدولة الاسلامية، انهم ليسوا ضد السوفيات ونظام كابول فقط ولكن ضد الافغان الآخرين بمن فيهم الذين في المقاومة والملك ظاهر شاه … انني لا اؤيد الرأي القائل بأن على الولاياتالمتحدة ان تقلق او تعارض الحركات الاسلامية السياسية في افغانستان او اي مكان آخر، ولكن لا يعنينا ان ندعمهم للوصول الى اهداف تتناقض مع مصالحنا وقيمنا". ويبدو ان الحكومة الاميركية اقتنعت بهذا الرأي، اذ يشير المراقبون الى ان الاحزاب التقليدية مجددي وجيلاني ومحمد نبي حصلوا في العام الماضي على دعم عسكري ومادي، خصوصاً مجددي الذي يشن حرباً اعلامية على حكمتيار محملاً اياه مسؤولية استمرار اراقة الدماء في افغانستان. وسيكون من الصعب عقد مؤتمر الاممالمتحدة هذا الشهر في جنيف في ظل غياب الاحزاب الرئيسية التي تمتلك القوة العسكرية، ولا يسمح الوضع المعقد والمتداخل في افغانستان بفرض حل بارسال قوة دولية للفصل بين الاطراف المتنازعة. لذلك يتوقع ان يتأخر المؤتمر للنظر في ما انتهت اليه معارك هذا الصيف. خطر التقسيم ويتخوف المراقبون من تزايد احتمالات التقسيم القائم حالياً في اكثر من صورة. فحكومة كابول اختارت الدفاع عن مواقعها الاخيرة في العاصمة والمدن الرئيسية وتركت الريف والمناطق الحدودية، بل تخلت عن عدد من العواصم الاقليمية للمجاهدين، ولم تحاول استعادتها مرة اخرى. ويبدو ان نجيب الله لم يعد يحلم باعادة سيطرة الدولة على كامل الاراضي الافغانية، وبالطبع لن يجرؤ على شيء فشل فيه السوفيات انفسهم. فجميع المعارك التي جرت خارج حدود المدن كان هدفها حماية المدن الرئيسية فقط وخطوط الامداد. غير ان اهم نجاح حققه نجيب الله خلال السنوات الثلاث الماضية هو تحييد بعض جماعات المجاهدين، ويظهر ذلك بوضوح في حيرات وقندهار التي بلغت فيها الثقة بين الطرفين ان يسمح احياناً للمجاهدين بدخول اسواق المدينتين، وكان مهندس هذه الصفقات حاكم حيرات السابق خلقيار والذي كوفىء بتعيينه رئيس وزراء بعد محاولة اغتيال كادت ان تقضي عليه. وأبرز نموذج للدويلة المستقلة هو ما يتمتع به "اسد الشمال" احمد شاه مسعود في شمال افغانستان، فلقد انطلق من معقله بوادي بنشير في وسط افغانستان والذي حافظ عليه في اشد سنوات الاحتلال السوفياتي الى الشمال بعد الانسحاب السوفياتي ومد حدود دولته غير المعلنة لتشمل اخيراً معظم الحدود الافغانية مع الاتحاد السوفياتي سابقاً الامر الذي جعله يسيطر على منطقة تعادل مساحة لبنان. ولا تقتصر سيطرة مسعود - وهو شاب في مقتبل الاربعينات ويتبع للجمعية الاسلامية - على النواحي العسكرية، وانما تشمل النواحي الادارية والقضائية والاقتصادية، فمن اهم موارد دولته تجارة الاحجار الكريمة. اما في الجنوب فلا يوجد نموذج قوي كمسعود، بسبب سيطرة الروح القبلية الاستقلالية بين الباشتون الذين يشكلون اغلبية الافغان، لذلك يوجد اكثر من قائد في الجنوب يتمتع بصلاحيات على مناطق محددة، مثل مولوي حقاني في بكتيا، وامين وردك في ولاية وردك، واخوان زادة في لوجر وباكتيا، غير ان للاخير خلافات كثيرة مع بعض القادة اذ يحكم مناطقه بالقوة العسكرية ويمقته القادة الآخرون لقسوته وتورطه في زراعة المخدرات الامر الذي يدفع المراقبين الى توقع حصول مواجهة قبلية بينه وبين القادة الآخرين في وسط افغانستان. ولقد ادى هذا الوضع الشاذ الى تشجيع بعض الاحزاب على اعلان امارات مستقلة، مثلما فعلت جماعة "الدعوة الى القرآن والسنة" اذ اعلنت امارة اسلامية في جنوب شرقي افغانستان، لكنها لم تعمر طويلاً بسبب رفض بقية الاحزاب لهذا المبدأ حيث تصدى لها الحزب الاسلامي الذي يقوده قلب الدين حكمتيار واسقط الامارة بعد معارك محدودة. وتؤكد مصادر المجاهدين ان الشيعة الافغان يسعون لتشكيل دويلة لهم في وسط افغانستان، وبالتحديد في ولاية باميان حيث الاغلبية فيها من الشيعة، وتضيف المصادر الافغانية انهم يجدون تأييداً ايرانياً في مسعاهم وذلك لما تقدمه طهران لهم من مساعدات عسكرية وانشاء المدارس والمستوصفات في مناطقهم، والطريف ان حكومة كابول سمحت اخيراً لطائرات ايرانية بنقل المساعدات الى باميان مباشرة، وتروج احاديث في بيشاور عن مشروع انابيب نفط يمتد من ايران الى كابول عبر ولاية باميان. وحتى في حال سقوط نظام كابول فانه ستكون هناك اكثر من قضية قد تفجر العلاقات بين المجاهدين، فمجرد تخيل كابول وقد دخلها مجاهدو حكمتيار ومسعود وبضعة احزاب اخرى مرابطة على تخومها يثير القلق، ما لم تحسم مسألة نقل السلطة وتوزيعها بين المجاهدين. وهناك المسألة العرقية، فافغانستان مكونة من عرقين اساسيين هما: الباشتون في الجنوب والتاجيك الذي يحالفهم الاوزبك في الشمال. وكان العرف السائد ان الحكم والجيش للاغلبية الباشتونية، بينما التجارة والوظائف المدنية للتاجيك، غير ان سقوط الامبراطورية السوفياتية فتح امام المجموعة الاخيرة افاقاً ارحب في التعامل مع اخوانهم في العرق في ما وراء النهر، وبالطبع سيزدادون قوة سياسية في تعاملهم مع الباشتون. وأشار برهان الدين رباني وهو التاجيكي الوحيد بين قادة المجاهدين الى قلق البقية عندما وقّع على اعلان "الرابطة الثقافية" مع وزراء خارجيات ايران وطاجكستان الذين تجمعهم اللغة الفارسية. وكان عبدرب الرسول سياف زعيم "الاتحاد الاسلامي" للمجاهدين الافغان اول من استنكر هذه الاتفاقية وقال انها "تعطي الاعداء فرصة لتقسيم البلاد". وبالطبع ينفي رباني ان تكون للتاجيك اية نية في الاستقلال باراضيهم الغنية بالبترول والغاز وان الجمعية تهدف الى "مساعدة المسلمين بعد حصول فراغ في الجمهوريات الاسلامية بطرد الثقافة الروسية ومحاولة اميركا تكريس العلمانية عبر تركيا". وقد اثار مبعوث الاممالمتحدة سيفان مزيداً من القلق عندما حذر من تقسيم افغانستان في حال فشل التسوية السلمية هذا العام. غير ان حديثه يشير الى اتجاه يعاكس التقسيم وان المخاوف المثارة لا اساس لها، فالجنرال عبدالمؤمن، وهو تاجيكي، اختار الانضمام الى الحزب الاسلامي بعد ان تمرد على حكومة كابول وكان المتوقع انضمامه الى "الجمعية" ذات الاغلبية التاجيكية. كذلك فان الانباء عن حصول تمرد ضد احمد شاه مسعود في ولاية بدخشان وداخل الصف التاجيكي قد يضعف من نفوذ مسعود ويمنعه من الاستقلال بالمنطقة على رغم ما لهذا الخبر الاخير من انعكاسات سيئة على استمرار القتال ضد نظام كابول. ويمكن القول ان الازمة الافغانية تشهد حالياً سباقاً بين مساعي الاممالمتحدة لعقد مؤتمر المصالحة الافغاني الموسع هذا الشهر، وبين طموحات وخطط بعض قادة المجاهدين الافغان الذين يريدون حلاً لازمة بلادهم مختلفاً عن الحل الدولي.