قبل عامين، كانت "لجنة الشؤون العامة الاميركية الاسرائيلية" ايباك تبدو وكأنها الحاكم المطلق للكونغرس الاميركي، الامر الذي دفع بات بوكانان الى وصفه بأنه ارض تحتلها اسرائيل. ولكن الصورة تغيرت في الثاني عشر من ايلول سبتمبر الماضي. فقد عقد الرئيس بوش مؤتمراً صحافياً، تجاوز فيه الكونغرس ومؤيدي اسرائيل فيه لكي يحبط محاولاتهم لتقديم ضمانات غير مشروطة بقيمة عشرة مليارات بلايين دولار للقروض التي طلبتها اسرائيل. والآن وبعد نصف سنة، لايزال اعضاء الوفود الذين حضروا المؤتمر الثالث والثلاثين الذي عقدته "ايباك" - التي تشكل اللوبي الاسرائيلي في الساحة الاميركية - في واشنطن بين الخامس والسابع من نيسان ابريل يشعرون بالصدمة مما وصفه مديرها توماس داين "بذلك اليوم الشائن لمؤيدي اسرائيل في اميركا، عندما فعل هذا الرئيس ما لم يفعله اي رئيس آخر قبله. اذ انه عقد مؤتمراً صحافياً خاصاً لم يتحدّ فيه مجرد جهود الكونغرس الرامية الى اقرار قانون للمصادقة على الضمانات فحسب، بل وتحدى المستويات العامة للمساعدات التي تقدمها اميركا لاسرائيل. اما جريمة بوش فهي انه تجاوز الكونغرس وتخطاه ليخاطب الناخب الاميركي ... وفاز. وتعمل "ايباك" بموظفيها الذين يبلغ عددهم مائة شخص من منطلق اقناع اعضاء الكونغرس او ارهابهم لفعل ما تريد. واذا كان عدد قليل من الاشخاص، مثل رؤساء لجان الكونغرس المهمة او اعضاء هذه اللجان التي تتعامل مع السياسة العامة والمساعدات، يتلقون مساعدات مالية مهمة من الشبكة المعروفة من لجان العمل السياسي التي تديرها "ايباك"، فان الآخرين مضطرون الى الالتزام بالخط الذي تحدده لهم، خوفاً من مواجهة خصم بدعم مالي قوي اذا ما صوتوا ضد اسرائيل. ولما كان معدل كلفة حملة مرشح الكونغرس تبلغ حوالي اربعة ملايين دولار فان هذا الخطر حقيقي. لكن النظام برمته يعتمد على عدم معرفة الناخبين العاديين بما يجري. اذ ان بعض أقوى مؤيدي اسرائيل في الكونغرس لا يوجد في ولاياتهم اي يهودي، كما ان ناخبيهم لن يكونوا سعداء اطلاقاً اذا ما عرفوا ان الضرائب التي يدفعونها تذهب الى اسرائيل. والواقع ان هؤلاء الناخبين يشعرون بغضب شديد من ذلك منذ ان شرح الرئيس بوش الامر. وسط هذه الخلفية عقدتپ"ايباك" مؤتمرها. وقد بدا اعضاء الوفد والمندوبون الذين زاد عددهم على ألفين في منتهى الثقة من الناحية الظاهرية، الا ان الشعار الذي حملوه على صدورهم وهو "اميركي وموالٍ لاسرائيل وفخور بذلك" يدل بصراحة على الموقف الدفاعي الذي يحسون به، بعد ان اظهر استطلاع الرأي الذي اجرته محطة تلفزيون "ان. بي. سي" الشهر الماضي ان 49 في المئة من الاميركيين يعارضون ضمانات القروض لاسرائيل تحت اي ظروف، بينما ابدى 32 في المئة، استعدادهم لتأييد الضمانات اذا ما توقف بناء المستوطنات، ولم يؤيد طلب "ايباك" لتقديم ضمانات غير مشروطة سوى 13 في المئة. كما ان لاري سميث، عضو مجلس النواب عن ولاية فلوريدا وزعيم المجموعة اليهودية في المجلس ناقض كل مظاهر الثقة الرسمية للمؤتمر، في اجتماع خاص عقد لتأييد ترشيح كلينتون للرئاسة، وقال ان حقائب البريد اصبحت تعج منذ خطاب الرئيس في الثاني عشر من ايلول سبتمبر بالرسائل ضد اسرائيل. كما ان اربعين الى واحد من الرسائل التي يتلقاها هو ضد اسرائيل. ويقول سميث ايضاً ان مما يزيد الطين بلة ان الرئيس بوش "سمم الجو واستخدم اسرائيل لأسباب داخلية من اجل استغلال الخلافات السياسية وايقاع اللوم على اليهود وحدهم. ولهذا فان الرئيس بوش استخدم قضية ضمانات القروض بشكل جعل اعضاء الكونغرس يعزفون عن الخوض فيها خوفاً من احراق اصابعهم به. واضاف القول انه متأكد من ان جيمس بيكر وزير الخارجية الاميركي هدد بربط قضية المساعدات العادية لاسرائيل بمسألة الاستيطان حتى ولو انتهت مشكلة ضمانات القروض. وسواء كان هذا الكلام صحيحاً ام لا، فان احتمال حدوثه يمثل اسوأ كابوس تواجهه "ايباك" واسرائيل. وكما حذر سميث: "لقد كان عددنا في السابق ستة ملايين. اما الآن فنحن خمسة ملايين. كما اننا كنا نشكل نسبة اثنين ونصف في المئة من السكان، اما الآن فنحن نؤلف نسبة اثنين في المئة فقط. ونحن اسرع فئات المجتمع الاميركي هرماً في السن، كما ان نفوذنا في انحسار". واكدت هاريات زيمرمان نائبة رئيس "ايباك" ما ذكره سميث عن البريد والرسائل حين قالت: "ان الصحف المحلية تمعن في قتلنا الآن، كما ان اسرائيل اصبحت خبراً محلياً في الصحف ومحطات التلفزيون المحلية. كذلك بدأت برامج الندوات التلفزيونية تنتقد اسرائيل بشدة". ومن السهل ان يرى المرء لماذا اصبح مجرد التهديد بخطاب آخر من الرئيس بوش ينتقد فيه اسرائيل والكونغرس، يثير ذعر اعضاء مجلس الشيوخ الى درجة تخليهم عن التعديلات التي كانوا يريدون اضافتها الى مشروع قرار المساعدات الخارجية. وكشف ستيف روزين، مدير قضايا السياسة الخارجية في "ايباك" النقاب عن محاولة لم تكن معروفة حتى اليوم، تهدف الى التوصل الى حل وسط. اذ قال: "ان اصدقاءنا في مجلس الشيوخ حاولوا التوصل الى تسوية جديدة تنطوي على مجموعة من ضمانات القروض التي لا تعرض حتى على الحكومة الاسرائيلية، على اساس انها ستكون ضمانات للشركات الاميركية التي تستثمر في اسرائيل، لكي تقوم هذه الشركات بمشاريع مشتركة ولكي تشتري الشركات الحكومية الاسرائيلية التي لا علاقة لها بالاستيطان وما الى ذلك. وتقضي هذه التسوية ايضاً باستثمار جميع الاموال داخل منطقة الخط الاخضر - اي خارج الاراضي العربية المحتلة - وبوضع الكثير من القيود عليها". الا ان بيكر رفض هذا الحل لأنه، كما يقول روزين، "اراد منا الاذعان الكامل لا التوصل الى حل وسط". وادعى روزين ان عملية السلام "لن تصمد الا اذا حصلت اسرائيل على ضمانات القروض، لان الاسرائيليين مضطرون الى تحمل المخاطر حين يتوصلون الى سلام مع اناس لا يثقون بهم، كالفلسطينيين والسوريين. ولذا فان الاسرائيليين لن يتحملوا هذه المخاطر والمجازفات الا اذا كانوا واثقين من الحصول على الدعم اللازم من الرئيس الاميركي". ولهذا فهو يرى ان رفض الادارة الاميركية قبول جميع الحلول الوسط الخاصة بضمانات القروض "يجعل من الصعب جداً على المرء ان يتخيل كيف يستطيع الاسرائيليون تصديق ما تقوله الادارة عن ايمانها بالعلاقة الاميركية - الاسرائيلية، حين تحين تلك اللحظة الحاسمة". "بوش مصدر التهديد" والواقع ان عملية السلام لم تكن موضوعاً رئيسياً في مؤتمر "ايباك" الا بقدر ارتباطها بالحصول على المزيد من الولاياتالمتحدة من خلال الضغط على الادارة. وقد انضم آخرون الى المندوبين الالفين من اجل الضغط بشدة على الكونغرس في قضايا ثلاث وهي: المساعدات الخارجية وضمانات القروض ومنع بيع 72 طائرة من طراز اف - 15 الى المملكة العربية السعودية. وكان اعضاء مجموعة الضغط هذه مسلحين بتفصيلات عن المبالغ التي انفقتها اسرائيل من المساعدات العسكرية التي تلقتها، وب "حجج" عدة تثبت ان تقديم المساعدات لاسرائيل يخدم الاقتصاد الاميركي. واضافة الى ذلك ركز المشاركون في مؤتمر "ايباك" على المواضيع التي اقترحتها الوثيقة السياسية التي اقرها المؤتمر، اذ انهم اكدوا حق المواطنين الدستوري "الذي لا يمكن لأحد انتزاعه" منهم، في تجنيد تأييد ممثليهم في الكونعرس. "وفي هذا ما يوحي بأن الرئيس بوش هو مصدر التهديد، وان الرئيس ارتكب خطأ حين تحدث الى الاميركيين مباشرة من دون ان تكون "ايباك" وسيطاً بينه وبينهم"! وهناك موضوع آخر ركز عليه المؤتمر وهو حاجة الولاياتالمتحدة الاستراتيجية الى اسرائيل، التي كانت "ايباك" تركز عليها في السابق، كجزء من الكفاح ضد الشيوعية، اصبحت الآن "اعظم مما كانت عليه نظراً لاضطراب النظام العالمي الجديد" على حد قول "ايباك". ومع ان "ايباك" لاتزال تتمتع بقدر كبير من النفوذ، فانه لم تظهر في المؤتمر اي علامة على وجود اي تحليل او نقد ذاتي لوقف التدهور المحتوم في مكانتها وقوتها في الساحة الاميركية على المدى البعيد. وليس هناك اي اعتراف ايضاً بأن "ايباك" منيت بهزيمة نكراء في قضية ضمانات القروض، وان اعتمادها المألوف على ادارة خاضعة لها على حساب الكونغرس اخذ يتلاشى، كما ان اعتمادها على الصفقات الجانبية والسرية مع اعضاء الكونغرس انما يعرضها للفضيحة. وربما كان اهم من ذلك كله ان "ايباك" بدعمها سياسة شامير في الاستيطان والاحتلال والقمع بدأت تفقد دعم الناخبين الاميركيين. كما ان التكتيكات التي تنتهجها في تمويل الحملات الانتخابية وشراء النفوذ هي بالذات ما اثار سخط الكثيرين من الناخبين في هذه الحملة. كذلك لم تعترف "ايباك" حتى بالانقسامات داخل صفوفها. فقد كانت هناك دلائل داخل "ايباك" على الانشقاق. اذ ان البيانات المتطرفة التي اصدرها السفير الاسرائيلي في واشنطن اشوفال لقيت استقبالاً فاتراً عند حوالي ثلاثة ارباع اعضاء الوفود الذين ظلوا جالسين في مقاعدهم حين وقف الآخرون وهم يصفقون له عندما قال: "اننا لن نعود ابداً الى حدود عام 1967". وكانت مقدرة "ايباك" على خداع نفسها واضحة في البيان السياسي الذي اصدرته وقالت فيه ان اسرائيل صوتت الى جانب الولاياتالمتحدة في الاممالمتحدة اكثر من اي دولة اخرى، حتى بريطانيا وكندا. اذ ان معظم الدول الاخرى ترى ذلك على اساس انه تصويت من الولاياتالمتحدة الى جانب اسرائيل لتأييدها في قضايا تختلف معها فيها الدول الاخرى. ومع ذلك فانه يجب عدم التقليل من شأن "ايباك" او اهمالها. فقد حضر 46 عضواًَ من اعضاء مجلس الشيوخ و78 عضواً من اعضاء مجلس النواب، وسيل من مساعدي الوزراء الاميركيين حفل العشاء الذي اقامته لاظهار مدى نفوذها. الا ان اهم نقاط ضعفها هي عدم مقدرتها على التعلم من اخطائها، ونزعتها الى تصديق الاسطورة التي خلقتها هي نفسها، ألا وهي انها لا تقهر. لقد اشار السيناتور جو بايدن، وهو يصرخ بانفعال الى ان المساعدات الاميركية لاسرائيل اصبحت قضية "يعبث بها الفوضويون ويصورونها على اساس انها هبة بدلاً من التزام". والواقع ان هذه هي بالضبط نظرة معظم الاميركيين الى هذه المساعدات: فهم يعتبرونها هبة وتبذيراً لما يدفعونه من ضرائب. وما دامت قضية المساعدات مطروحة علانية امام الشعب الاميركي فان "ايباك" هي الخاسرة.