على رغم ان السوق الايرانية تمثل حالياً نقطة جذب للكثير من الشركات والاستثمارات الدولية للمساهمة في اعادة تأهيل البنية التحتية، والحصول على حصة من الامكانات الواعدة التي يمكن ان تمثلها ايران في السنوات العشر المقبلة، الا ان عجلة الاقتصاد الايراني الذي استهلكت الحرب مع العراق معظم مقوماته في الثمانينات، لا تدور كما يجب. او على الاقل، كما كان يشتهي صانعو القرار الاقتصادي في طهران، وفي طليعتهم وزير المال محسن نوربخش وحاكم المصرف المركزي محمد حسين عادلي. ولعل ابرز المؤشرات السلبية في هذا الاتجاه ما يتصل ببوادر تراجع الحكومة الايرانية عن سياسة الاصلاح الاقتصادي، وتحرير الاقتصاد الايراني من هيمنة القطاع العام، وفتح الباب بشكل اكثر وضوحاً امام دور اكبر للقطاع الخاص، وتحرير اسعار صرف الريال الايراني من خلال الغاء الاسعار الرسمية المعمول بها حالياً، وهو ما كان تم الاتفاق عليه قبل حوالي السنتين مع صندوق النقد الدولي الذي لجأت اليه طهران لمساعدتها على اعادة تحديث بنيتها الاقتصادية. وتتمثل مؤشرات التراجع في اتجاه الحكومة الى الابقاء على سياسة الدعم للمواد الغذائية الاساسية، لا بل الاتجاه الى مضاعفتها تحت ضغط الحاجة الى توفيرها باسعار مخفضة لغالبية الشعب الايراني الذي يصل تعداده الى حوالي 58 مليون نسمة. كما تتمثل هذه المؤشرات في اتجاه الحكومة الى اقرار زيادات كبيرة على رواتب الموظفين في القطاع العام الذي يصل عددهم الى حوالي مليوني موظف، والذين يضطرون الى السعي وراء اعمال اضافية لزيادة عائداتهم، او الانخراط في قنوات الرشاوى والكسب غير المشروع الذي يمكن ان توفره لهم المسؤوليات التي يضطلعون بها في اطار الادارة العامة، على رغم الاجراءات الصارمة لمحاربة هذه الظاهرة. واستناداً الى تقديرات حكومية، فان المبالغ التي ستخصص لدعم اسعار المواد الاساسية 12 في المئة اضافة الى الاعتمادات التي ستوظف لتغطية زيادة رواتب الموظفين في الدولة، 18 في المئة، ستشكل ما مجموعه 20 في المئة من الموازنة العامة التي بدأ العمل بها اعتباراً من 21 اذار مارس الجاري. بداية العام الايراني الجديد. ووفقاً لتقديرات متطابقة، فان الاستمرار في سياسة دعم المواد الغذائية، الى جانب زيادة الرواتب للموظفين، سيؤديان الى المساهمة في رفع معدلات التضخم المالي في البلاد، وهو التضخم الذي ارتفع في العام 1991 الى ما نسبته 18 في المئة، بعدما كان في العام 1990 9 في المئة. وطبقاً لهذه التقديرات، فان مبلغ ال 1.5 مليار دولار بالاسعار الحرة 25 مليار دولار بالاسعار الرسمية للدولار سيؤدي الى دفع ارقام التضخم صعوداً من دون ادنى شك. وتتناقض سياسة دعم السلع وزيادة الاجور مع التوصيات التي كان صندوق النقد الدولي وجهها الى الحكومة الايرانية قبل حوالي السنتين عندما اوصى بتحرير الاقتصاد وتقويم سعر صرف الريال الايراني، ما يعني تخفيض قيمته الى مستوى اسعار السوق الحرة. ومن المعروف ان السعر الرسمي للريال يبلغ حالياً 70 ريالاً مقابل الدولار الاميركي، الا انه يصل في السوق الحرة التي يسميها الايرانيون، السوق السوداء، الى 1430 ريالاً للدولار الواحد، وتعتمد الحكومة في عمليات تسعير الدولار الاميركي ثلاثة مستويات، تبدأ بپ70 ريالاً و600 ريال ثم 1400 ريال، بحسب طبيعة الوزارة والسلعة المنوي استيرادها، في اطار نظام يهدف الى المحافظة على استقرار الوضع المعيشي. الا انه بموجب السياسات التي كانت وزارة المال والاقتصاد تسعى لتطبيقها، بدعم من البنك المركزي الذي يتمتع بثقل معنوي واضح حالياً، فإنه سيتم تعويم اسعار العملة الوطنية ابتداء من العام المقبل، ما يعني ترك الاسعار تستقر عند الحدود التي بلغتها في السوق الحرة، اي حوالي 1400 ريال للدولار، والغاء نظام الاسعار الرسمية التي اثارت اعتراضات من قبل القطاع الخاص الذي يجد نفسه في موقع غير متكافئ مع القطاع العام حيث تحظى ادارات حكومية معينة بغطاء سياسي واضح للحصول على ما تطلبه من عملات صعبة. الا انه من غير المتوقع ان تتم عملية تعويم اسعار صرف الريال، بحسب ما كانت تخطط وزارة المال. كما انه من غير المتوقع ايضاً ان يقدم الرئيس هاشمي رفسنجاني، الذي كان وافق على مقترحات صندوق النقد الدولي قبل سنتين، على الغاء الدعم او تقليصه على الاقل، لاسباب تتصل بالمعادلات السياسية الداخلية في ايران. ويربط معظم المراقبين في طهران بين تراجع رفسنجاني الذي تعهد سابقاً بتحرير اسعار السلع وتوسيع دور القطاع الخاص، وبين الانتخابات النيابية التي ستجرى في نيسان ابريل المقبل، وحاجة القيادة الايرانية الحالية الى استقطاب المزيد من الناخبين لقطع الطريق على اخصامها الذين يوصفون عادة بالمتطرفين، ومنعهم من تحقيق النجاح الذي يسعون اليه داخل مجلس النواب، ولقد عبر رفسنجاني عن هذا الوضع بكثير من الوضوح، عندما اعلن اخيراً ان الحكومة "اضطرت الى الاستمرار في سياسة دعم السلع الاساسية اكراماً للطبقات الفقيرة التي اصبحت تشكل غالبية الشعب الايراني". وفي العام الماضي، شهدت طهران وبعض المدن الايرانية الاخرى، حركة احتجاجات وتظاهرات بسبب تردي الوضع المعيشي. ومن المؤكد ان جميع التيارات السياسية في ايران ستسعى الى تجنب خضّات مماثلة على ابواب الانتخابات المقبلة، لذلك، فان احتمالات استئناف عملية الانفتاح الاقتصادي قريباً جداً، ستكون ضئيلة جداً، او على الاقل ستكون معلّقة الى العام المقبل بانتظار ظروف سياسية اكثر ملاءمة.